يبقى من الاستقلال هذا العام القليل من مظاهر الفولكلور فقط، أي يوم عطلة رسمية، وأناشيد تلامذة المدارس وبعض الأعلام في الشوارع العامة. وباستثناء هذه الشكليات، يسجّل العيد الوطني انحداراً رسميّاً على المستويات كافة، أو ما يشبه "سقوط الجمهوريّة" سياسيّاً وأمنيّاً وإداريّاً واقتصاديّاً وطائفيّاً.
يكفي القول، إنّ شغور منصب رئيس الجمهورية منذ 181 يوماً خير دليل على تعطّل النظام اللبناني. شغرت الرئاسة اللبنانية منذ 25 مايو/أيار الماضي، وجلسات انتخاب الرئيس في مجلس النواب معطّلة منذ ذلك الحين؛ إذ دعا رئيس المجلس إلى 15 جلسة انتخابية تعطّلت جميعها بفعل فقدان النصاب القانوني. وأوصلت صيغة الحكم بين ثنائية قوى 8 آذار وفريق 14 آذار إلى هذا الشلل على مستوى النظام الذي بات يرأسه 24 وزيراً في حكومة تمام سلام، بحسب ما ينص الدستور اللبناني (تناط صلاحيات رئاسة الجمهورية بمجلس الوزراء مجتمعاً).
أما مجلس الوزراء فيكتسب شرعيته من مجلس نيابي مدّد لنفسه حتى عام 2017، خارقاً القانون والدستور بتأجيل الانتخابات النيابية تحت حجج أمنية. ومن شأن إسقاط الشرعية عن النواب الحاليين، سحبها أيضاً من الحكومة وتحويلها إلى مهمة تصريف الأعمال. وإذا كان الطاقم السياسي قد تحايل على سقوط النظام والجمهورية من خلال التمديد لمجلس النواب، فهو لن يحجب حقيقة فشل هذا النظام وتركيبته.
انتفاء زمن الطائف
لم يعد اتفاق الطائف (1989)، الذي أنتج دستوراً للبنانيين، صالحاً للتنفيذ في ظلّ التبدّل السياسي الإقليمي المستمر، بما أن ولادة الاتفاق الشهير في المدينة السعودية التي حمل اسمها، جاء بتوافق أميركي ــ سوري ــ سعودي انتفت موجباته. يغيب الرعاة الإقليميون للطائف اليوم، وكذلك الإحاطة الدولية له، بما يعني ذلك من انهيار للنظام اللبناني. تتحكّم مجموعة من الثوابت والمواثيق في الحياة السياسية اللبنانية ودستورها، أبرزها "وثيقة العيش المشترك" بين اللبنانيين، بحسب ما ينص دستور الطائف. يغيب هذا البند المعنوي شيئاً فشيئاً عن حياة اللبنانيين، سياسيين ومواطنين؛ ففي حين يتم اغتيال أحد القادة في الشمال، توزّع الحلوى في الجنوب، والعكس صحيح. وإذا كان "العيش المشترك"، مادة ضرورية في الدستور، فإنّ مبدأ المناصفة الميثاقية تحوّلت إلى نكتة سمجة. ينصّ الدستور اللبناني على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في التمثيل الوزاري والنيابي والوظائف العامة المدنية والعسكرية. سقط هذا المبدأ فعليّاً منذ فترة الوصاية السورية على لبنان. وبفعل قوانين الانتخابات النيابية المتتالية منذ اتفاق الطائف، تتمكن القوى المسيحية في حد أقصى، من إيصال 34 نائباً بقوّتها وقدرتها، بينما حصة المسيحيين هي نصف المجلس النيابي، أي64 نائباً من أصل 128. ويشير سير العملية السياسية إلى الانتقال من المناصفة إلى المثالثة، أي إلى المساواة بين المسيحيين والسنة والشيعة. حتى أنّ القوى المسيحية تنقسم إلى محورين، الأول بقيادة تيار المستقبل والثاني بقيادة حزب الله، بما في ذلك من دلالات على منحى المثالثة.
المثالثة المقنّعة
أنتجت الوصاية السورية صيغة المثالثة ومهّدت لها، تحديداً من خلال منح حزب الله والطائفة الشيعية ورقة السلاح ومقاومة إسرائيل حصراً، من خلال تفكيك أجهزة المقاومة اللبنانية الأخرى أو تصفيتها تنظيميّاً وجسديّاً. وبفعل هذا المشروع، يتم اليوم ضرب صورة الجمهورية اللبنانية، خصوصاً في أسس بنيان أو تكوين أي دولة. خرق هذا السلاح منذ 2012، السيادة اللبنانية ودخل إلى سورية. وعدا المعاني السياسية والأمنية والاجتماعية المترتبة على هذا الخرق، فهو يعني بالدرجة الأولى أنّ لا دولة في لبنان ولا قدرة لمؤسساتها على إقفال حدودها وحماية ناسها من النار الآتية من الأرض السورية. مع العلم أنّ حزب الله سار عكس القرار الرسمي اللبناني الصادر عن رئيس الجمهورية وقتها، ميشال سليمان، والحكومة برئاسة نجيب ميقاتي، القائل بـ"نأي لبنان بنفسه عما يجري في سورية".
ترهّل النظام اللبناني بعد تبدّل الظروف الإقليمية عام 2005، وأتت الثورة السورية لتطيح بهذا النظام. ومن أبرز علامات "سقوط الجمهورية"، ما يحصل على الأرض اللبنانية وواقع الإدارات الرسمية ويوميات المواطنين. وإذا كان الأمن قد ألزم أحزاباً أو أجهزة أمنية خاصة بسلطة سياسية مباشرة، فإن الجهاز القضائي اللبناني بات خاضعاً لوصاية دولية كالمحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري، في حين يتحكم بجزء من الجهاز القضائي اللبناني، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يفرض شروطه في الأحكام القضائية في ظلّ مفاوضات لإطلاق سراح جنود لبنانيين مختطفين لديه.
وفي الدولة اللبنانية أيضاً، وزير للتربية يلغي الامتحانات الرسمية ويعطي جميع الطلاب إفادات نجاح لضرب "هيئة التنسيق النقابية" ورفضاً للخضوع لمطالبها المعيشية. أما الوظائف الرسمية ففيها شغور بما يوازي 70 في المائة، في ظل فراغ وظيفي في أكثر من 22 ألف وظيفة، بسبب العجز عن إتمام المناصفة حيناً أو الصراع السياسي على التوظيف حيناً آخر.
حين يصبح بلد صغير كلبنان صاحب مديونية تقدَّر بحوالي 100 مليار دولار، بحسب الرئيس السابق لمجلس النواب اللبناني، حسين الحسيني، (راجع المقابلة أعلاه)، وحين تصبح القاعدة في لبنان هي الأمن الذاتي لا الأمن الرسمي، وحين تعترف الحكومة بأن معظم الغذاء الذي يتناوله اللبنانيون فاسد وسام، ويصدر قرار بإقفال مئات المطاعم والمسلخ الرسمي (الوحيد نظريّاً حيث يتم ذبح المواشي والدجاج)، وحين تصل مستويات الفساد إلى درجات قياسية وبصورة علنية، تكون الجمهورية فعلاً في حكم السقوط.
مات النظام اللبناني وينتظر أبناؤه إعلان الحداد، فيوم يقول رئيس الحكومة، إنّ الانتخابات الرئاسية "تنتظر الاتفاق النووي الإيراني أو الحلّ في سورية"، فهذا يعني أنّ النظام لم يعد قابلاً للحياة، أي أنّ الجمهورية قد سقطت.