شريطٌ واحد، بدقائق قليلة، يؤدّي إلى سجالٍ غير نافعٍ. كلامٌ يتردّد منذ سنين، وحملة بشعة بحقّ الظاهرين فيه، وشعارات فولكلورية عن الهجرة والبقاء. دفاعٌ ينطلق من عاطفة وانفعال، موظّفاً إياهما في التزامٍ سياسي ثقافي أخلاقي إزاء البلد وناسه. صانعة الشريط حاضرةٌ في الإعلام اللبناني، وفي النزاع العنفيّ الحاصل بين خارجٍ على طائفته، وطائفته الرافضة خروجاً لأبنائها عليها. السياسة، بمعناها اللبناني المبتذل، حاضرةٌ أيضاً في مناخٍ كهذا. الالتباسات واضحة. لكنّ لبنان بلد الغرائب في كلّ شيء.
ديمة صادق تُنجز شريطاً يروي فيه لبنانيون قلائل، بدمعة وقهر وخيبة وألم، انكسارهم أمام بؤس العيش في بلدٍ يرون أنّه غير متوافق البتّة مع رغباتهم وطموحاتهم وأحلامهم. يريدون الهجرة، فتكون دمعة أو كلمة سبيلاً إلى وداعٍ مقتضب. بعض هؤلاء معروف في ساحات بيروت منذ "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، وقبلها أيضاً. بعضهم منخرطٌ في الدفاع عن الحريات الإعلامية، المُكبّلة أكثر فأكثر، ويوماً تلو آخر. بعضهم يمتلك اختصاصاً ومهنة، ويرغب في مُتنفّس. أسلوب التعبير عن الخيبة والقهر قابلٌ للنقاش، لكنّ صدقاً ينبع من الذات، وكلّ صدقٍ يحمل ارتباكاً في التعبير، لهول اللحظة والمُصاب، وللتراكمات المؤدّية إليهما. لكنّ السجال خارج على هذا كلّه. افتراء وتحايل في تحليل شريطٍ، غير مستحقّ أكثر من مُشاهدة، ثم... وداعاً أيها الأصدقاء.
تعبيرٌ واحدٌ يُستنبط من ماضٍ مجهول تاريخه: "لبنان ليس فندقاً، تغادره عندما تسوء خدماته". المساواة/ التشبيه المبطّن بين بلدٍ، يُفترض به أن يكون وطناً، وفندقٍ، يرمز إلى سياحة وما تتطلّبه السياحة من موارد وأدوات ترفيهية، ينبش، ولو قليلاً، في تاريخ البلد وحاضره. لبنان ليس وطناً. هذا حاصلٌ ومعروفٌ ومتداولٌ منذ زمن بعيد، وكثيرون ـ بينهم بعض مهاجمي شريط ديمة صادق ـ يُدركون هذا ويقولونه في جلساتٍ مغلقة، أو سهراتٍ معلّقة. لا حاجة إلى فكرٍ سياسي وعلم اجتماعيّ وتفسير اقتصادي لمقولات "الوطن" و"الدولة الأمّة" و"الهوية" و"الانتماء" و"الجذور". الحالة غير مستأهلة كلاماً نظرياً في مسائل غير مُثيرة لاهتمامِ لبنانيٍّ يبحث عن قوتٍ "كفاف يومه". الواقع مزرٍ، ووضع الوطن في مقابل الفندق دافعٌ إلى انتقاداتٍ، بعضها ساخر، على "فيسبوك"، فلبنان مشهورٌ بكونه "أكبر فندق في الشرق الأوسط"، منذ ستينيات القرن الـ20 على الأقلّ.
الخراب اللبناني أصيل. الاضطرابات الحاصلة في محيطه الجغرافي، منذ استقلاله الناقص عام 1943، سببٌ في استقرار حياده المُثير للضحك والاستهجان، لهشاشته وفقدانه أي معنى حقيقيّ في مساحة عاصفة بالأهوال والأهواء، ولميل كثيرين فيه إلى خارجٍ يُكمل هوسهم بالقبيلة والطائفة والمذهب. الحيوية الناشئة فيه، قبل اندلاع حربه الأهلية (13 إبريل/ نيسان 1975)، نتاجُ تحوّله إلى فندق لمعارضين وثوّار ومناضلين ومنبوذين ومهرّبي رساميل وأموال من طغيانِ عسكرٍ وبطشِ ديكتاتوريات، ولا بأس بفنّ وثقافة وبعض علمٍ نيِّر إلى جانب الأصل (الفندق). الانشقاقات المذهبية حاصلة، وإنْ تبقَ مستترة فلا تقنيات حديثة ولا إعلام مفتوحا يكشفانها، رغم أنّ نقاشات وتحرّكات عدّة تحاول تحقيق انقلابات في التفكير والسلوك والتربية والثقافة المعيشية، ضد طوائف ورأسماليين، ومن أجل حريات عامّة وإصلاحات مطلوبة. لكنْ منطق الفندق أقوى، حينها أيضاً. حراكٌ مُكرّر لتحسين شروط عيشٍ يفشل أمام سطوة لبنان الفندق، قبل اندلاع الحرب. ومع نهايتها الناقصة والهشّة، يستعيد الفندق حيويته، فلا أحد يرغب في الوطن أبداً.
إمعان لبنان في ثنائية السياحة ـ الأمول (المصارف) عائقٌ أمام صُنع وطن ودولة فيه. يُفضِّل أنْ يكون فندقاً، فالفندق أسرع ربحاً، والتجارة (صفة الفينيقيين الذين يُقال إنّهم أجداد اللبنانيين) سمة هذه البقعة الجغرافية منذ آلاف السنين، مع ما تحمله مفردة تجارة من أولوية المال والمصالح الضيّقة على حساب بلد ووطن ودولة. تُدفع مبالغ لقاء الإقامة في الفندق، فيُمنح المُقيم فيه ما يحتاج إليه من خدمات. لكنّ اللبناني يدفع مبالغ طائلة للعيش في "وطنه"، فلا يحصل على شيء البتّة. الوطن يحتاج إلى تكلفةٍ لبناءٍ يُحصَّن بدستور وقوانين وممارسات تُساوي بين الجميع، ويستحيل نقضها؛ والمذنب يُحاسَب عند انكشاف ذنبه، والمجتهد يُكافأ لالتزام أصول الاجتهاد. هذا مُكلف. أقطاب البلد يرتاحون إلى المزرعة والقبيلة، فالأساس (استقلال ناقص) سببٌ، والتعلّق بالطائفة سببٌ، والخضوع لابتزاز رأس القبيلة سببٌ. كلّ شيء آخر يُثبت عجزه عن الحؤول دون الغرق في التشرذمات، رغم جهدٍ في عملٍ يريد وطناً ودولة، وجدّية عمل كهذا منوطةٌ بأفرادٍ في مراحل تاريخية مختلفة. الثقافة والفنون تتكاثر، لكنّ التراكم ـ الذي يُفترض به أنْ يؤدّي إلى صنع ركائز يُبنى عليها وطنٌ ـ معدومٌ. الفندق أبقى. الفندق أكثر راحة. الفندق أهنأ وأسلم.
أفلامٌ وثائقية لبنانية عديدة (وبعض الروائي منخرطٌ في هذا أيضاً)، تُنجز منذ 20 عاماً على الأقلّ، تكشف عورات ماضٍ وانهيار حاضر وتفكّك علاقات وتمزّق اجتماع وسطوة قبائل وسلطة قهر وقمع. أفلامٌ تحفر في الجرح غير المندمل، فينكشف حجم القيح النازف من دون علاج. أفلامٌ تعود إلى الماضي لتسأل وتفهم، فينفضح الماضي بركاكة بنائه الهشّ وأكاذيبه المبطّنة. أفلامٌ تريد معرفة لتوثّق حقائق وتقول رأياً وتنقل انفعالاً وحالة وتفكيراً، تُشكِّل كلّها أسساً للبلد المحطّم ولاجتماعه الممزّق ولناسه المتقوقعين في جغرافياتهم، تصطدم (الأفلام) بهول تلك الحقائق التي تقول عكس المتداول علناً: كراهية بين مذاهب وطوائف، فـ"العيش المشترك" أكذوبة رحبانية يدفع ثمنها كثيرون إلى اليوم. أفلامٌ تخبط الصخر لتفتيته، وعند تفتيته يظهر بؤس تاريخٍ وشقاء أناسٍ وأمراض بيئة واجتماع وثقافة وتربية وسلوك.
"درسٌ في التاريخ" (2009) لهادي زكّاك مثلٌ أوّل يفضح تناقضات جمّة في تدريس التاريخ اللبناني. مناهج منبثقة من انتماءات طائفية ومذهبية ودينية، لبنانية وعربية وغربيّة، تمنع نصّاً تاريخياً يقول حقائق ويكشف وقائع مجرّدة من كلّ تحليل سوسيولوجي أو نفسي أو فكري أو عقائدي. مناهج تحول، مع غيرها، دون بناء وطن، لكنّها تبرع في صنع فندقٍ. فيلمٌ يفضح، لكنّ الفضيحة تنغلق على نفسها، فالفندق غير محتاجٍ إلى منغّصاتٍ تُسبِب له مشاكل وارتباكات. "هيدا لبنان" (2008) لإليان الراهب مثلٌ ثانٍ يُضيء شيئاً من ثقافة جيل ما قبل الحرب، المبنية على أكاذيب وخدع مخبّأة، فالفندق محتاج إلى راحة بال. أفلام سيمون الهبر ورنا عيد ورين متري وزينة صفير وداليا فتح الله وغيرهم تُضاف إلى لائحة التنقيب الوثائقيّ السينمائيّ في تاريخ بلد وراهنه، فيُمنع بعضها لشدّة وضوح الرؤية إزاء الخراب اللبناني المزمن، ويُطالَب بعضٌ آخر بحذف مَشاهد منه لأنّها مسيئة إلى "السلم الأهلي"، وهذا تعبيرٌ آخر يُضاف إلى لائحة الأكاذيب المدوّية في البلد. المنع والمطالبة بالحذف جزءٌ من أولوية الفندق على الوطن، فالفندق بغنى عن "وجع الرأس" كي يستمرّ في تلبية مطالب زبائنه بنجاح باهر، والوطن يحتاج إلى "وجع رأس كهذا" كي يُبنى ويُحصَّن من موته ويُشفى من خرابه.
مقولة "وطن لا فندق" منبثقةٌ من تفكير مُسطّح، يتّضح أنّها مجرّد فولكلور آنيّ لمروّجي وطنية مخادعة، ينفضّ عنها مروّجوها أصلاً عندما تتاح لهم فرصة ما لهجرة ما. "دولة لبنان الكبير" تبلغ مئة عام، والاستقلال الناقص "يحتفل"، في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، بعيده الـ77. رغم هذا، لبنان غير متمكّن البتّة من الخروج من واقع الفندق إلى مفهوم الوطن. فأيّ وطن هو هذا، إنْ يعجز عن تبيان قيمته لمواطنيه، الذين يُقال للمهاجرين منهم إنّهم سيكتشفونها (القيمة) عند مغادرتهم إياه، بدلاً من أنْ يشعروا بها ويستفيدوا منها كبشرٍ وكمواطنين، وهم مُقيمون فيه؟ كيف تُبنى العلاقة السوية والصحّية بين مواطن ووطنه، طالما أنّ الوطن غائبٌ كلّياً، وهذا (الغياب) من عمل القبائل والطوائف والرساميل، ومن صمت الخاضعين للقبائل والطوائف والرساميل؟ أمّا الذين يقولون إنّ لبنان جميلٌ لكنّ حكّامه "زعران" وشعبه "بائس"، فينضمّون إلى تلك الدبكة الفولكلورية العفنة.
غير أنّ مُثيري الحملة المعطوبة على شريط ديمة صادق ينسون أنّ البلد أعجز من أن يكون وطناً، وأفشل من أنْ يُحافظ على كونه فندقاً، في زمن الانهيار الكبير (2020). الآن، لبنان الوطن غير المولود يعجز عن الحفاظ على لبنان الفندق، فهذا الأخير غير قادر على تقديم الخدمات اللازمة لنزلائه. لبنان اليوم قبرٌ يتّسع للباقين فيه، وحفّارو القبور يرتدون البذلات الأجنبية الفاخرة، ويتعطّرون بدماء الفقراء والخانعين، وينتشون بصمتِ الناس وخضوعهم لهم. لبنان الكبير قبرٌ أكبر، واستقلاله الناقص مفتاح لمزيدٍ من الجثث المتراكمة في شوارعه وفضائه وساحاته. لبنان مرتع للنفايات بأشكالها الكثيرة. الوطن غائبٌ منذ قرن. الفندق معطّل منذ زمن. وحده القبر "شغّال".