أعلن وزير الصحّة اللبناني جميل جبق إقفال مستشفى الفنار للأمراض العقلية والنفسية الواقع جنوب لبنان، ونقل مرضاه إلى مستشفيات أخرى وتحويل ملفه إلى النيابة العامّة، بعد جولة سريعة قام بها اليوم الأحد على بعض أقسام المستشفى.
ووصف جبق ما شاهده بأنه "مأساة أخلاقية واجتماعية وصحّية"، معتبراً أن المكان ليس مستشفىً ولا هو مؤهل ليكون مستشفىً.
وكشف أن الوزارة تدفع للمستشفى سنوياً مبلغ مليار و350 مليون ليرة (نحو 900 ألف دولار)، كما يحصل المستشفى على مساعدات من الدول المانحة، إضافة إلى الأموال التي يقبضها من المرضى. وقاطع أحد موظفي المستشفى الوزير، معترضاً على ما أورد من معطيات، فردّ جبق بأن ما يقوله مثبت بالوقائع.
وتابع الوزير: "ليس هناك مكان يمكن للمريض أن ينام أو يأكل أو يستحمّ فيه، دخلنا لنقوم بجولتنا فمتنا من البرد. سنقوم بالحلّ السريع، وكوزارة تواصلنا مع كل المستشفيات في المنطقة (النبطية) ولبنان عموماً، لنقل المرضى إليها على عاتق وزارة الصحّة بالاتفاق مع جمعيات مدنية وطبّية. سنعيد تأهيل المستشفى لتصبح إدارتها من صلاحيات الدولة".
وسئل الوزير عن موقف صاحبة المستشفى سمر اللبان فأجاب: "لم نتمكن من التواصل معها". وأكد أن إخلاء المستشفى سيتم خلال يومين، وبأنه سيتم التواصل مع الأهالي لكي يتمكنوا من التعرف إلى مرضاهم. وسأل أحدهم إن كان هناك مؤامرة تحاك لإفراغ المستشفى من أجل بيعه، فتعهد له الوزير بعدم إقفال المستشفى في عهده.
رداً على سؤال لـ "العربي الجديد"، عن الضمان بعدم تكرار حالة مستشفى الفنار في أماكن أخرى، وعن آليات الرقابة التي تتبعها الوزارة بهذا الخصوص، رد الوزير: "المستشفيات التي سيتحول إليها المرضى هي مستشفيات تمتاز بسمعة جيدة، وليس فيها هذا التفلت الموجود في هذا المستشفى".
وعن الصدفة التي أدّت لاكتشاف هذا الموضوع، أوضح أن "المسألة لم تحصل بالصدفة، الناس كلها تحدثت عن الموضوع، منذ اليوم الأول لوصولي إلى الوزارة وأنا أسمع عما يحصل هنا". ولدى السؤال مجدداً عن آليات الرقابة قال: "هذه الأمور لا يمكن إخفاؤها في لبنان، فالبلد صغير والناس يعرفون بعضهم من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله، وأي قصة تحصل في الجنوب يعرفون بها في الشمال والعكس، ولهذا السبب نعلم عن هذه القصص بسهولة".
مرضى سجناء خلف الجدران
موقع المستشفى في منطقة المصيلح في محافظة النبطية جنوب لبنان، ليس بعيداً عن الناس ليخفي فضيحة بهذا الحجم، والوصول إليه سهل لمن يقصده. يقع المبنى على تلة، وتحيط به الأشجار في بيئة تبدو للناظر جميلة ومريحة للأعصاب. لكن داخل الجدران والبوابات المقفلة على المرضى السجناء يظهر الواقع مختلفاً تماماً.
كشفت لنا الجولة أحوال النزلاء داخل غرفهم، حيث الأسرّة شبه متلاصقة، يفصلها ممر ضيق بالكاد يتيح للمريض الوصول إلى سريره. فهنا لا يحق للفرد بمساحة تتعدى حجم جسده.
وقبل أيام على الجولة، انتشرت صور عن المستشفى أظهرت الفرش البالية والوسائد المتسخة التي تسرح فوقها الحشرات، فبدت اليوم مختلفة بعض الشيء مع توقع المسؤولين زيارة الوزير والصحافيين. فالأسرّة بدت أكثر ترتيباً وفرشت فوقها الأغطية النظيفة التي تحاول إخفاء ما تحتها. والأرض نظفت وفرشت ببعض قطع السجاد.
تحدثنا إلى السيدة هدى بيطار جمعة، التي كانت برفقة صديقتها حياة جابر في المستشفى عند التقاط الصور التي نشرت عبر موقع "فيسبوك"، فحركت القضية وفضحت الأمر الذي عجز غيرها عن معالجته سابقاً عبر إرسال التقارير إلى وزارة الصحّة.
وأكدت بيطار لـ "العربي الجديد" أن عملية تنظيف أجريت للمستشفى قبل الجولة، وأخذتنا في جولة صغيرة لتدلّنا على الغرف التي كانت مليئة بالنفايات وجرى تنظيفها، وعلى الفرش المهترئة التي رميت في الزوايا خارج المبنى، والمقاعد الحديدية الصدئة والقرميد المهترئ.
ورغم حملة التنظيف التي سبقت الزيارة، أمل أن تحفظ ماء وجه القيّمين على المستشفى، إلا أن أموراً كثيرة لم يتمكن هؤلاء من إخفائها، فلا وسائل لتدفئة المرضى ولا خزائن لوضع أغراضهم، فالجميع يضع ملابسه على طاولة كبيرة تحت أحد الأدراج.
في قسم النساء، سألنا إحدى الموظفات عن تحسن الصورة بين الأمس واليوم، فقالت: "التقطت الصور أثناء عاصفة ونشرت فبركات، وبعد تناول الغداء يصعد المرضى للنوم فتصبح حال الأسرّة هكذا قبل أن نعيد ترتيبها". وتابعت: "حصل بعض التقصير هذا الشهر بسبب مشاكل إدارية، لكن الأمور كانت طبيعية في السابق. الأهل يلامون فهم يضعون المريض ويتركونه، نطلب منهم أخذه في إجازة عندما تكون حالته مستقرة فلا يستجيبون، وهناك أهل لم يزوروا مرضاهم منذ سنوات".
مريضات يسألن عن أقاربهن
أثناء الجولة في القسم، طلبت بعض المريضات أن ننقل رسائلهن إلى الأقارب. جميعهن يردن الخروج من هذا المكان، واللافت أنهن يذكرن تاريخ دخولهن إليه. تقول إحداهن لـ "العربي الجديد": "أنا اسمي حنان، أدخلني أخي إلى هذا المكان منذ سبعة عشر عاماً، قال لي سنذهب لإجراء فحص دم وأحضرني إلى هنا، ساعديني الله يخليكي". مريضة أخرى تتحدث عن دخولها إلى المكان، وتروي أنّ زوجها كان في حالة سكر حينما ضربها على رأسها وأدخلها من بعدها إلى المستشفى.
لم يطّلع وزير الصحّة على حال قسم النساء، واقتصرت جولته على الطابق الأرضي. دخل إلى غرفة الطعام فأخبره المرضى عن معاناتهم، ثم انتقل سريعاً للكشف على غرف الرجال وكان العاملون يكملون مهمة التنظيف والمياه تغطي الأرض. وعلّق أحد الأشخاص: "الآن بدأتم بالتنظيف"، في إشارة إلى إهمال نظافة المكان طيلة الفترة السابقة. فأجابته السيدة التي تنظف معترضة: "نحن ننظف كل يوم".
وأثناء الجولة، أكد أحد العاملين في وزارة الصحّة أن مصلحة الصحّة في الجنوب، أرسلت تقريراً عن حال المستشفى إلى وزارة الصحّة منذ شهرين. فيما عبّر شخص آخر عن امتعاضه من استخفاف صاحبة المستشفى بكل ما يجري، وغيابها حتى عن الحضور إلى المستشفى في هذا اليوم. علماً أن ابنتها التي تسلّمت إدارة المستشفى، انزوت مع محاميتها وعدد من الأشخاص في أحد المباني المخصص لها قرب مبنى المرضى. وجلسوا هناك وعلامات التوتر والغضب كانت بادية عليهم. وحاولت "العربي الجديد" الاطلاع على وجهة نظرها حيال ما يجري، لكنها أعربت عن رفضها التحدث إلى وسائل الإعلام.
التبرع ممنوع... والإدارة تهدد
قبل وصول وزير الصحّة إلى المستشفى، وصلت مجموعة من الأشخاص أطلقوا حملة تبرع للمرضى، حاملين معهم طعاماً وموادّ تنظيف ولوازم النظافة الشخصية لنقلها إلى المرضى. وفتح مطبخ المستشفى لاستقبال المساعدات، فيما وزّع الطعام الجاهز على المرضى.
والصور الصادمة التي انتشرت منذ أيام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت رداءة تجهيزات المستشفى وسوء أوضاع المرضى فيه وإهمالاً خطيراً لنظافة المرضى والمكان، مع نقص خطير في مستلزمات النظافة. ولولا توضيح ناشرتها بأنها التقطت في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية في الفنار لاعتقد الناس بأنها صور التقطت من داخل معتقل. لكن الأكثر رعباً كان ما أظهرته الصور للمرضى النفسيين المعزولين عن الناس، والمهملين من أهلهم والأوصياء عليهم في المستشفى، وكأن المطلوب عزلهم لا معالجتهم.
وفي حديث مع "العربي الجديد" قال عفيف شومان، أحد مطلقي حملة التبرع، أنه يتابع حال المستشفى منذ مدة، مؤكداً أن حاله ساء منذ نحو سبعة أشهر، وأن الحملة بدأت منذ أربعة أشهر. وأوضح أن إدارة المستشفى هددته عبر محاميتها بالادعاء عليه، لخشيتهم من أن يعرف أحد بأن هناك من يحضر المساعدات إلى المستشفى وينفضح حاله.
أما عن سبب التأخر بفضح الأمر حتى عدة أيام، فقال: "كان أهالي المنطقة يقدمون المساعدات فلم يكن الوضع بهذا السوء، لكن الأمور وصلت إلى مرحلة لم يعد بالإمكان السكوت عنها. وأرسلنا عدة تقارير لوزارة الصحّة لكنها لم تجب".
وقال محمد عزام، أحد أهالي المنطقة والمطلع على حال المستشفى وحال المرضى، أن مديرة المستشفى طلبت من الأهالي الذين لديهم مريض، أن يحولوا المبالغ الشهرية التي كانوا يدفعونها للمستشفى إلى حسابها الخاص عبر "الويسترن يونيون"، كي لا تتحول المبالغ على موازنة المستشفى. ويروي أن المرضى هم من يقومون بالطهو والتنظيف دون أجر.
ومن المفترض أن تتحرك النيابة العامّة لملاحقة المتورطين في الفضيحة استجابة لطلب الوزير، إذ أكدت جميع الشهادات مسؤولية وزارة الصحّة عن إهمال كل التقارير التي وصلت إليها. وأكد أحد الممرضين لـ"العربي الجديد" أنهم حاولوا منذ أكثر من شهر إرسال أكثر من بلاغ لوزارة الصحّة، وأن أحد الأطبّاء زار المستشفى والتقط الصور لكنّ شيئاً لم يتغير. وأضاف خائباً: "نحن فعلنا ما نقدر عليه".