لبنان ووهم الحياد
عادت نغمة الحياد لتعزف في الساحة السياسية اللبنانية، على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد منذ أشهر. الساسة اللبنانيون، بمختلف توجهاتهم، يلقون أسباب الأزمة على عاتق الولايات المتحدة، ومحاولتها محاصرة نفوذ حزب الله، وهو أمر فيه كثير من الصحة، لكنه ليس السبب الرئيس، فالساسة في لبنان يحاولون تجاهل عقود من الفساد والهدر والعجز عن بناء دولةٍ ذات مقوّمات حقيقية، قادرة على الإنتاج، وليست مجرد محطة خدمات عامة. على أساس هذا الإنكار، وضعت التدخلات الدولية والعقوبات الأميركية شمّاعة أساسية للوضع المتردي في البلاد، وعاد بعض الساسة للحديث عن تحييد لبنان عن الصراعات، على اعتبار أن هذا الحل، في حال كان قابلا للتطبيق، بإمكانه أن يلقى القبول الأميركي، وتفتح حنفية الدولارات من جديد، ويبقي البلد على دوره الخدماتي.
بالتأكيد مقترح كهذا غير واقعي وغير منطقي لأسبابٍ كثيرة، أولها أنه سبق أن جُرب خلال حكومة نجيب ميقاتي، وفشل فشلا ذريعا، بعدما انقسم البلد على نفسه، فكيف يكون الحياد في بلد معظم أطرافه مرتبطةً بأجندات خارجية متضاربة ومتناقضة، والأمر ليس حكرا على حزب الله. لا شك في أن هذا الحزب يخدم المصالح الإيرانية بالمطلق، عبر السياسة والاقتصاد والعسكرة وغيرها، ويؤدّي أدواراً مطلوبة منه في المنطقة، سواء في سورية أو العراق أو اليمن، وزج لبنان في صراع محاور كانت أحد أسباب أزمته الحالية. لكنه ليس وحده، فهناك غيره من الأحزاب أيضا لديه ارتباطاته. فتيار المستقبل ومن يلف لفه ملتصقٌ تماما بمحور السعودية وأجندتها، وقد حاول زجّ لبنان في الأزمة الخليجية ومعاداة قطر. والسعي إلى الحصول على الرضى الأميركي والأوروبي هو أيضا سمة من سمات الأحزاب الأخرى، على غرار القوات اللبنانية، وحتى التيار الوطني الحر التابع للرئيس اللبناني ميشال عون. والأخير يحاول فعليا الوقوف في المنتصف عبر عدم معاداة إيران والبقاء قريبا من الغرب، إلا أن النتيجة باتت واضحة اليوم.
لا يمكن الحديث في بلد مثل لبنان عن الحياد في وجود مثل هذه التجمعات السياسية التي تشد البلاد نحو أحد المحاور، وهي بالأساس ليست مقتنعة بفكرة الحياد التي يجري الحديث عنها، من منطلقات أيديولوجية ومالية وسلطوية.
الأهم في ما يتعلق بالحديث عن وهم الحياد هذا ونجاعته هو عدم قبوله من الدول الفاعلة والتي يحاول المقترح استرضاءها، خصوصا في ظل تزايد التوتر الدولي والإقليمي. فالحياد كمفهوم سياسي تم التخلي عنه بشكل كامل، وتكرس ذلك بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، يوم لم يعد هناك مكان في الوسط، سواء بتعبير جورج بوش الابن "إما معنا أو ضدنا"، أو بتعبير أسامة بن لادن "الفسطاطين". حتى أن سويسرا في ذلك الحين عدّلت قليلا من حياديتها وانضمت إلى الأمم المتحدة في 2002.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم يعيد إحياء شعار "معنا أو ضدنا" في جميع النواحي، ليس في الأمن فقط كما فعل جورج بوش. فهو في تعاطيه مع الصين والحلفاء في أوروبا يسعى إلى فرض الشروط والإملاءات وإلا العقوبات، الأمر الذي بدأ بتطبيقه فعلا.
لا مكان لأنصاف الحلول بالنسبة الى الإدارة الأميركية الحالية، وخصوصا في ما يتعلق بالمحاور التي تراها مرتبطة بالأمن القومي، وفي مقدمتها إيران. الأمر الذي يجب أن يلتفت إليه المسؤولون اللبنانيون قبل حديثهم وخلافاتهم اليوم على موضوع تحييد لبنان، فالأمر لا يمكن تصريفه سياسيا، تماما كما لا يمكن تصريف التوجه إلى الشرق اقتصاديا.
لكن لا بأس، فهذا عنوان جديد للانقسام اللبناني والاصطفاف السياسي والشعبي، وربما يلهي بعضهم عن المآسي اليومية التي لا نهاية لها.