مع نهاية الحرب على تنظيم "داعش"، تدخل الحرب الدائرة في سورية مرحلة جديدة. وبينما يبدو النظام السوري والتواجد الروسي في أحسن أوضاعهما على المدى البعيد بحكم توازنات الجغرافية السياسية في المنطقة، يواجه حزب العمال الكردستاني ما حاول تأجيله على مدى حوالي أربع سنوات من الحرب، منذ حصار عين العرب (كوباني) من قبل "داعش"، وهو الاختيار بين كل التحالف المهزوز وغير المضمون مع واشنطن، أو العودة إلى وضعه السابق بين متعاون وحليف للمحور الإيراني ــ السوري.
تختلف التسريبات حول ما يحاول الكردستاني فعله من خلال جسّ نبض مختلف الأطراف في الحرب السورية. من جهة تشير بعض التسريبات إلى محادثات مكثفة مع النظام السوري لتقديم تنازلات، يتخلّى بموجبها الحزب عن مناطق سيطرته ذات الغالبية العربية، بما في ذلك آبار النفط والغاز والثروات المائية على الفرات، في مقابل الحصول من النظام على ما لم يقدمه لأي طرف في الحرب رغم وصوله في مراحل سابقة، إلى حافة الانهيار، ممثلاً باعتراف دستوري بمناطق حكم ذاتي، يبدو بأن الطرفين يختلفان على وضعها، بين مناطق إدارة ذاتية موسعة يقدمها النظام، وبين فيدرالية يحاول الكردستاني الحصول عليها، ستعني بكل الأحوال، خروج أو تخفيف تواجد الأميركيين في مناطق الكردستاني. وهو ما تفيد به تسريبات وكالة "الأناضول"، عن اللقاءات التي أجراها الضابط القوي في النظام السوري، علي المملوك في الحسكة في الأيام الماضية.
أما على المقلب الآخر، فتشير التسريبات إلى أن الحليف الأميركي يحاول أن يضغط على مختلف الأطراف لإدراج الجناح السوري للعمال الكردستاني، ممثلاً بحزب الاتحاد الديمقراطي، على طاولة مباحثات جنيف. الأمر الذي قد يؤدي إلى انفجار أزمة كبيرة مع أنقرة، التي ترى بأن دخول الكردستاني في المفاوضات، لا يمكن أن يتم إلى جانب المعارضة بل يجب أن تكون إلى جانب النظام السوري. وهي رؤية لن يقبلها النظام إلا في حال قدّم الكردستاني تنازلات ضخمة لدمشق، لن تغضب الأتراك بقدر ما ستشكل مبعث ارتياح، لأن أي توافق بين النظام السوري والعمال الكردستاني، لن يكون إلا في سياق تحجيم الكردستاني، وهو أمر مرحب به بالنسبة إلى الأتراك بكل الأحوال.
التسريبات حول تحركات الكردستاني، إذا صحت، لا توحي بجميع الأحوال، إلا بشكوك كبيرة تنتاب الأخير حول مدى التزام واشنطن معه، بعد أن تخلت الإدارة الأميركية عن حليفه القديم، مسعود البارزاني، بعد استفتاء انفصال إقليم كردستان العراق، وأيضاً تشير إلى وجود ضوء أخضر من قبل واشنطن لمثل هذا التحرك. ضوء أخضر يشير بدوره إلى أن الإدارة الأميركية غير مهتمة كثيراً بالجزيرة السورية، وليست مستعدة في أي حال لمواجه حلفاء النظام من أجل الحزب الكردي الذي يسيطر على مناطق مهدمة ومحاصرة عملياً.
وكذلك تشير تحركات الكردستاني إلى الثمن الهائل الذي قد يضطر لدفعه، في حال سار مع الأميركيين، بما يشمله ذلك من فك نهائي للتعاون أحياناً والتحالف مع طهران، والذي يسمح له بالبقاء على الحدود التركية والقيام بالعمليات العسكرية ضد الجيش التركي، رغم مختلف الظروف التي مر بها على مدار أكثر من 30 عاماً على بدء العمل المسلح ضد أنقرة. فك التحالف قد يكون ثمنه باهظاً في العراق لناحية ضرب معاقل الأخير في جبال قنديل على الحدود الإيرانية العراقية، ومناطق النفوذ على العراق، وصولاً لدعم تركيا في أي حملة لها في الأراضي السورية ضده وبالذات في عفرين.
بكل الأحوال لا يمكن لقيادة الكردستاني من أكراد تركيا أن تقبل بعامودا أو القامشلي أو الحسكة بديلاً عن دياربكر وموش وهكاري وغيرها من المدن ذات الغالبية الكردية والعمق الثقافي والسياسي للحركة القومية الكردية برمتها.
في هذا السياق، يعتمد العمال الكردستاني خلال تمدده في مناطق الجزيرة السورية على شبكات الاستخبارات السورية القديمة، في ظلّ تشجيع إدارات الاستخبارات التابعة للنظام السوري جميع مواليها على الانخراط مع العمال الكردستاني في إطار "قوات سورية الديمقراطية"، والتي رغم أنها تبدو حليفاً للأميركيين، لكنها في العمق تحالف بين النظام والعمال الكردستاني بغطاء أميركي. وهو تحالف تبدو فيه الكتلة العربية في موقع ضعيف ومهزوز في علاقتها مع النظام، غير أنها رغم ضعفها، قادرة على خلخلة بيئة "قوات سورية الديمقراطية" بشكل كبير في حال قرر النظام التقدم.
في المرحلة الحالية يبدو العمال الكردستاني محاصراً في سورية، فمن الشرق تتقدم القوات العراقية وقوات "الحشد الشعبي" ذات الولاء الإيراني على كامل الحدود، وعلى الجهة الجنوببة يتقدم النظام، بينما يتواجد الأتراك في الشمال والغرب ويحاصرون منطقة عفرين التابعة لمحافظة حلب. وإضافة إلى الحصار البري العسكري، هناك تحالف سياسي مكون من إيران وتركيا والحكومة المركزية العراقية والنظام السوري، وذلك في الوقت الذي تبدو فيه واشنطن حتى الآن كالحليف الوحيد، إضافة إلى كل من السعودية والإمارات والذين لا يمتلكون أي نقاط قوى تمكنهم من تقديم أي دعم للعمال الكردستاني، وهم الذين لم يتمكنوا من نجدة البارزاني في وقت سابق في العراق.
ووفق تسريبات وكالة "الأناضول" التركية، فإن "المباحثات بين النظام السوري والعمال الكردستاني ما زالت مستمرة ولم يقم أي من الطرفين من على الطاولة بعد، ووفق الخارطة الجيوسياسية الحالية، يبدو من المرجح أن يتخذ العمال الكردستاني الخيار بالعودة إلى موضعه السابق، وسيعمد لتقديم تنازلات للنظام السوري، لأن قيادة قنديل تعرف تماماً بأن دمشق لن تتخلى عن العمال الكردستاني في أي وقت بشكل نهائي، ذلك لأن الأخير سيكون بالنسبة لدمشق العصا الأهم التي سيلوح بها بوجه أنقرة لحين خروج القوات التركية من الأراضي السورية وتسليمها لدمشق، ووقف دعم المعارضة السورية في الشمال السوري.
أما التسريبات التي تتحدث عن ضغوط أميركية لإدراج العمال الكردستاني في مفاوضات جنيف، فلا يبدو أنها تتجاوز محاولات تقديم دعم للعمال الكردستاني في المفاوضات مع النظام، ومن غير المنتظر، على الأقل على المدى المنطور، أن تعمد واشنطن لتفجير علاقاتها المتأزمة أصلا مع أنقرة، وبالتالي دفع الإدارة التركية لتعزيز تحالفها مع كل من واشنطن وطهران في سورية.