01 يناير 2024
لغة تركية أقوى تجاه السعودية والإمارات
على نحو مفاجئ نسبياً، رفعت تركيا حدّة لغتها السياسية وسقف مواقفها تجاه السعودية والإمارات. فقد طالب وزير الخارجية، مولود شاويش أوغلو، في مقابلةٍ مع قناة الجزيرة، أخيرا، بمحاسبة السعودية على ممارساتها في اليمن، وتحدّث عن حصار وتجويع وقتل المدنيين وتشريدهم هناك. كما اتهمها بعدم التعاون في قضية الصحافي جمال خاشقجي. واتهم الإمارات بمحاولة فرض عميل لإسرائيل في قيادة الشعب الفلسطيني بدلاً من الرئيس محمود عباس، مع اتهام ضمني كذلك، للبلدين، بانخراطهما في الحرب الاقتصادية ضد تركيا، والمضاربة على الليرة صيف العام الماضي (2018).
بدا كلام شاويش أوغلو مفاجئا، خصوصا مع احتفاظ أنقرة بالهدوء وضبط النفس طوال الفترة الماضية تجاه الاستفزازات الإعلامية، والمواقف السياسية والاقتصادية المنسقة ضدها من الرياض وأبوظبي، بما في ذلك المساعي والحملات شبه الرسمية لثني مواطنيهما عن السفر إلى تركيا أو الاستثمار فيها.
بالتأكيد لا يمكن الفصل بين حيثيات عملية نبع السلام العسكرية التي نفّذها الجيش التركي مع الجيش الوطني السوري شمال سورية وكلام الوزير التركي المفاجئ، تحديداً فيما يتعلق
بالموقف السعودي الإماراتي منها سياسياً وإعلامياً، أو بما تمخض عنها من نتائج لجهة فرض تركيا موقفها وتحولها، أو بالأحرى تكريس مكانتها لاعبا مركزيا ومؤثرا سورياً وحتى إقليمياً.
قبل الحديث عن "نبع السلام"، لا بد من التمعّن في نص كلام الوزير التركي وجوهره تجاه السعودية والإمارات، حيث تحدّث عن الممارسات السعودية في اليمن التي تضمنت قتلا وحصارا وتجويعا وتشريدا للمدنيين، مطالباً بمحاسبتها على هذه الجرائم، معتبراً أن من فعل ذلك في اليمن لا يحق له انتقاد عملية نبع السلام. ولا تناقض هنا بين كلام الوزير أوغلو وتأييد بلاده سابقا عملية عاصفة الحزم العسكرية ضد انقلاب الحشد الحوثي وفلول الرئيس السابق علي عبد الله صالح على الثورة اليمنية والدستور ومخرجات الحوار الوطني، لأن العاصفة خرجت عن مسارها وباتت من دون آفاق أو أهداف واضحة، إضافة إلى الواقع المأساوي الذي تسببت فيه على الأرض، خصوصا مع دعم الإمارات المسعور والدموي للانفصاليين في الجنوب. وكانت وزارة الخارجية التركية قد وضعت القضية اليمنية في مقدمة أجندتها السياسية الدبلوماسية للعام الجاري 2019، كما أن أنقرة لم تتوقف عن تقديم الدعم والمساعدات الإنسانية للشعب اليمني، مع مناشدات ودعوات مستمرة إلى حل سياسي للأزمة وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
النقطة الأخرى المهمة في حديث الوزير التركي كانت قضية جمال خاشقجي، مع التأكيد الدائم على أن أنقرة لم تسع إلى أن تكون هناك أزمة مع السعودية التي رفضت التعاون الجدّي من أجل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين. وقد امتنعت تركيا، حتى الآن، عن تقديم طلب للأمين العام للأمم المتحدة لفتح تحقيق دولي في القضية، كونها، كما قالت المسؤولة الأممية أغنيس كالامارد، لا تحبّذ تحويل الأمر إلى أزمة أو قضية ثنائية بين البلدين، وتودّ أن يجري التحقيق بطلب دولي جماعي، وفق قوانين الأمم المتحدة ومواثيقها.
وكانت لهجة الوزير أوغلو تجاه الإمارات أكثر حدة، فقد
. والكلام واضح طبعاً، ومفاده بأن أبوظبي متورّطة في التدخل في شؤون الدول الأخرى، كما دعم التوجهات الإسرائيلية، والتنسيق مع تل أبيب، لتفعيل سياسات عدائية ضد المنطقة وشعوبها.
وقد أشار أوغلو إلى الإمارات والعربية السعودية ضمنياً في كلامه عن الحرب الاقتصادية والمضاربات ضد الليرة التركية صيف العام الماضي، حيث تحدّث صراحةً عن انخراط دول عربية في تلك الحرب. علماً أن هذا، على بشاعته ووحشيته، لم يكن سبباً لإنهاء ضبط النفس أو الرد على السياسات العدائية السعودية الإماراتية.
يبدو أن السيل بلغ الزبى مع تركيا تجاه السياسات السعودية الإماراتية، بعدما ضبطت نفسها كثيراً حتى في عز الحرب الاقتصادية ضدها أو "الإرهاب الاقتصادي"، حسب تعبير الرئيس أردوغان. كانت قد احتفظت بهدوئها كذلك في مواجهة حملات سياسية إعلامية، حتى اقتصادية ممنهجة ومنسّقة ضدها، مع دعواتٍ شبه رسمية لمقاطعتها سياحياً واقتصادياً، وعدم شراء بضاعتها أو الاستثمار فيها، وحتى عندما تعرّضت شاحنات البضائع التركية لمضايقات وتأخير متعمد في الموانئ السعودية، عملت أنقرة على معالجة الأزمة بلغةٍ هادئةٍ في القنوات الدبلوماسية الخلفية بعيداً عن الإعلام.
واضح أن الموقف التركي قد تغيّر الآن، بعد المواقف السياسية والإعلامية السعودية الإماراتية الحادة ضد عملية نبع السلام، مع الانتباه إلى أن الرياض وأبوظبى نسّقتا أيضاً مع القاهرة البيان الحاد والمتشنج الذي صدر عن جامعة الدول العربية ضد العملية. وفي هذه المواقف السياسية - الإعلامية المكثفة، بدت "نبع السلام" وكأنها تستهدف السعودية والإمارات، وليس كيانا انفصاليا في دولة عربية مدعوما من الغرب وأميركا وإسرائيل.
ويجب الانتباه كذلك إلى حقيقة أن دعم السعودية والإمارات الكيان الانفصالي شمال سورية كان بمثابة سر معلن، حيث قدمت الرياض مائة مليون دولار بعد قضية خاشقجي مباشرة، في أول زيارة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إليها بعد الجريمة بأيام، بحجة إعادة إعمار مدينة الرقة (ومناطق انفصالية أخرى) التي دمّرها الأميركان وحزب العمال الكردستاني بحجة محاربة "داعش"، كما لم يخف البلدان دعمهما السياسي الإعلامي الأمني للكيان الانفصالي الذي تعتبره تركيا خطراً استراتيجياً عليها، كما أرسلا خبراء أمنيين بحجة تدريب عناصره على حفظ الأمن ومهام مدنية إضافية.
وقد عبّر الانفجار التركي في حديث وزير الخارجية، أيضاً عن خلافاتٍ جذريةٍ بشأن قضايا وملفات عدة، منها القضية الفلسطينية، حيث أشار أوغلو إلى انخراط عربي في المساعي الأميركية - الإسرائيلية، وضغوط على القيادة الفلسطينية لقبول صفقة القرن التي تعارضها تركيا بحسم. وثمّة خلافاتٌ جذرية أيضاً حول دعم الرياض وأبوظبي الثورات المضادة والانقلابات العسكرية على الثورات العربية، وعرقلة التحول الديمقراطي، كما الموجة الثانية
من الثورات التي أيّدتها تركيا.
وثمّة خلاف مركزي ومهم آخر في القضية الليبية، حيث رفضت تركيا ما تقوم به الإمارات علنا، وبإسناد سعودي، لدعم الانقلابي خليفة حفتر في معركة طرابلس التي غرضها تحويل هذا الرجل إلى بشار الأسد، وإيجاد سورية جديدة غرباً، حسب التعبير الحرفي للرئيس أردوغان.
عبّرت اللغة القوية والسقف المرتفع لسياسة تركيا الجديدة، بالتأكيد، عن الثقة والانتصار في عملية نبع السلام، بعد القضاء نهائياً على الخطر الاستراتيجي المتمثل في الكيان الانفصالي على حدودها الجنوبية، وتحويل مسلحي حزب العمال الكردستاني إلى مليشيات وعصابات مأجورة، لحراسة سجون مقاتلي "داعش" لصالح أوروبا، وآبار النفط لمصلحة أميركا. إضافة إلى تكريس تركيا نفسها لاعبا مركزيا في سورية، عبر تفاهمات ندّية مع القوى العظمى في العالم.
كان لافتاً جداً طبعاً عدم الرد المباشر من الرياض وأبوظبي على تصريحات أوغلو المدوية، للحرج وغياب الحجة، كما لاستنزافهما في أزماتٍ وتحدّياتٍ عدة داخلية وخارجية. وعموماً، لا شيء يختصر المأزق السعودي الإماراتي أكثر من إطلاقهما العنان للنسخة المحدثة من صبري البنا (أبو نضال)، أي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، للسباب والشتائم ضد تركيا والرئيس أردوغان، في رد لم ينتبه إليه أحد أصلاً.
بالتأكيد لا يمكن الفصل بين حيثيات عملية نبع السلام العسكرية التي نفّذها الجيش التركي مع الجيش الوطني السوري شمال سورية وكلام الوزير التركي المفاجئ، تحديداً فيما يتعلق
قبل الحديث عن "نبع السلام"، لا بد من التمعّن في نص كلام الوزير التركي وجوهره تجاه السعودية والإمارات، حيث تحدّث عن الممارسات السعودية في اليمن التي تضمنت قتلا وحصارا وتجويعا وتشريدا للمدنيين، مطالباً بمحاسبتها على هذه الجرائم، معتبراً أن من فعل ذلك في اليمن لا يحق له انتقاد عملية نبع السلام. ولا تناقض هنا بين كلام الوزير أوغلو وتأييد بلاده سابقا عملية عاصفة الحزم العسكرية ضد انقلاب الحشد الحوثي وفلول الرئيس السابق علي عبد الله صالح على الثورة اليمنية والدستور ومخرجات الحوار الوطني، لأن العاصفة خرجت عن مسارها وباتت من دون آفاق أو أهداف واضحة، إضافة إلى الواقع المأساوي الذي تسببت فيه على الأرض، خصوصا مع دعم الإمارات المسعور والدموي للانفصاليين في الجنوب. وكانت وزارة الخارجية التركية قد وضعت القضية اليمنية في مقدمة أجندتها السياسية الدبلوماسية للعام الجاري 2019، كما أن أنقرة لم تتوقف عن تقديم الدعم والمساعدات الإنسانية للشعب اليمني، مع مناشدات ودعوات مستمرة إلى حل سياسي للأزمة وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
النقطة الأخرى المهمة في حديث الوزير التركي كانت قضية جمال خاشقجي، مع التأكيد الدائم على أن أنقرة لم تسع إلى أن تكون هناك أزمة مع السعودية التي رفضت التعاون الجدّي من أجل الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين. وقد امتنعت تركيا، حتى الآن، عن تقديم طلب للأمين العام للأمم المتحدة لفتح تحقيق دولي في القضية، كونها، كما قالت المسؤولة الأممية أغنيس كالامارد، لا تحبّذ تحويل الأمر إلى أزمة أو قضية ثنائية بين البلدين، وتودّ أن يجري التحقيق بطلب دولي جماعي، وفق قوانين الأمم المتحدة ومواثيقها.
وكانت لهجة الوزير أوغلو تجاه الإمارات أكثر حدة، فقد
وقد أشار أوغلو إلى الإمارات والعربية السعودية ضمنياً في كلامه عن الحرب الاقتصادية والمضاربات ضد الليرة التركية صيف العام الماضي، حيث تحدّث صراحةً عن انخراط دول عربية في تلك الحرب. علماً أن هذا، على بشاعته ووحشيته، لم يكن سبباً لإنهاء ضبط النفس أو الرد على السياسات العدائية السعودية الإماراتية.
يبدو أن السيل بلغ الزبى مع تركيا تجاه السياسات السعودية الإماراتية، بعدما ضبطت نفسها كثيراً حتى في عز الحرب الاقتصادية ضدها أو "الإرهاب الاقتصادي"، حسب تعبير الرئيس أردوغان. كانت قد احتفظت بهدوئها كذلك في مواجهة حملات سياسية إعلامية، حتى اقتصادية ممنهجة ومنسّقة ضدها، مع دعواتٍ شبه رسمية لمقاطعتها سياحياً واقتصادياً، وعدم شراء بضاعتها أو الاستثمار فيها، وحتى عندما تعرّضت شاحنات البضائع التركية لمضايقات وتأخير متعمد في الموانئ السعودية، عملت أنقرة على معالجة الأزمة بلغةٍ هادئةٍ في القنوات الدبلوماسية الخلفية بعيداً عن الإعلام.
واضح أن الموقف التركي قد تغيّر الآن، بعد المواقف السياسية والإعلامية السعودية الإماراتية الحادة ضد عملية نبع السلام، مع الانتباه إلى أن الرياض وأبوظبى نسّقتا أيضاً مع القاهرة البيان الحاد والمتشنج الذي صدر عن جامعة الدول العربية ضد العملية. وفي هذه المواقف السياسية - الإعلامية المكثفة، بدت "نبع السلام" وكأنها تستهدف السعودية والإمارات، وليس كيانا انفصاليا في دولة عربية مدعوما من الغرب وأميركا وإسرائيل.
ويجب الانتباه كذلك إلى حقيقة أن دعم السعودية والإمارات الكيان الانفصالي شمال سورية كان بمثابة سر معلن، حيث قدمت الرياض مائة مليون دولار بعد قضية خاشقجي مباشرة، في أول زيارة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إليها بعد الجريمة بأيام، بحجة إعادة إعمار مدينة الرقة (ومناطق انفصالية أخرى) التي دمّرها الأميركان وحزب العمال الكردستاني بحجة محاربة "داعش"، كما لم يخف البلدان دعمهما السياسي الإعلامي الأمني للكيان الانفصالي الذي تعتبره تركيا خطراً استراتيجياً عليها، كما أرسلا خبراء أمنيين بحجة تدريب عناصره على حفظ الأمن ومهام مدنية إضافية.
وقد عبّر الانفجار التركي في حديث وزير الخارجية، أيضاً عن خلافاتٍ جذريةٍ بشأن قضايا وملفات عدة، منها القضية الفلسطينية، حيث أشار أوغلو إلى انخراط عربي في المساعي الأميركية - الإسرائيلية، وضغوط على القيادة الفلسطينية لقبول صفقة القرن التي تعارضها تركيا بحسم. وثمّة خلافاتٌ جذرية أيضاً حول دعم الرياض وأبوظبي الثورات المضادة والانقلابات العسكرية على الثورات العربية، وعرقلة التحول الديمقراطي، كما الموجة الثانية
وثمّة خلاف مركزي ومهم آخر في القضية الليبية، حيث رفضت تركيا ما تقوم به الإمارات علنا، وبإسناد سعودي، لدعم الانقلابي خليفة حفتر في معركة طرابلس التي غرضها تحويل هذا الرجل إلى بشار الأسد، وإيجاد سورية جديدة غرباً، حسب التعبير الحرفي للرئيس أردوغان.
عبّرت اللغة القوية والسقف المرتفع لسياسة تركيا الجديدة، بالتأكيد، عن الثقة والانتصار في عملية نبع السلام، بعد القضاء نهائياً على الخطر الاستراتيجي المتمثل في الكيان الانفصالي على حدودها الجنوبية، وتحويل مسلحي حزب العمال الكردستاني إلى مليشيات وعصابات مأجورة، لحراسة سجون مقاتلي "داعش" لصالح أوروبا، وآبار النفط لمصلحة أميركا. إضافة إلى تكريس تركيا نفسها لاعبا مركزيا في سورية، عبر تفاهمات ندّية مع القوى العظمى في العالم.
كان لافتاً جداً طبعاً عدم الرد المباشر من الرياض وأبوظبي على تصريحات أوغلو المدوية، للحرج وغياب الحجة، كما لاستنزافهما في أزماتٍ وتحدّياتٍ عدة داخلية وخارجية. وعموماً، لا شيء يختصر المأزق السعودي الإماراتي أكثر من إطلاقهما العنان للنسخة المحدثة من صبري البنا (أبو نضال)، أي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، للسباب والشتائم ضد تركيا والرئيس أردوغان، في رد لم ينتبه إليه أحد أصلاً.