التقيت في مؤتمر دافوس عام 1997 المرحوم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وشخصيات من دول أخرى على منصة واحدة، لنتحدث عن مستقبل العلاقات الاقتصادية في الشرق الأوسط.
ولما جاء دوري، قاطعني الرئيس عرفات قائلاً إنه يريد أن يقول شيئاً فاته أن يقوله لما كان له الدور في الحديث. وقال "إن الخيار لكم أيها السادة.. فإما أن تكون غزة سنغافورة ثانية، أو أن تكون الصومال".
فوقف رئيس وزراء سنغافورة السابق في حينها، ومؤسس نهضتها، وأشار بيديه شاكراً للرئيس عرفات ما قاله. وقلت لنفسي هذا الرئيس، لي كوان يو، يستحق الاحترام والتقدير.
وقبل ذلك بأحد عشر عاماً، تعرّضت لحادث سير، اضطررت معه إلى استعمال العكازات فترة، حتى يبرأ الكسر الذي أصبت به في إحدى ركبتي. وفي أثنائها، انتدبني الأمير الحسن بن طلال لكي أنوب عنه في مؤتمر مجالس الدراسات الاستراتيجية في كوالالمبور عاصمة ماليزيا. وقد شارك أيامها رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، في أعمال المؤتمر، ودعاني إلى تناول الغداء معه، حيث كنت العربي الوحيد المشارك.
قال لي: ضيعتم أنتم العرب علينا نحن الدول النامية، خصوصا الدول المسلمة، فرصة لا تعوض في تحسين ظروف وأسعار التبادل التجاري مع الدول المتقدمة. لقد ساهمتم في رفع سعر النفط، ولحقته بعد ذلك أسعار المواد الخام، مثل الزنك والحديد والنحاس، وأسعار المواد الأولية والغذائية، خصوصا زيت النخيل والفلّين. ولذلك، وبسبب سوء إدارة أسعار النفط، هبط سعره من أربعين دولاراً كأقصى سعر عام 1984 إلى ثمانية دولارات كأدنى سعر عام 1986، وتبعته باقي الأسعار.
وأضاف: لقد أدى هبوط سعر النفط إلى تدنّي أسعار المواد البتروكيماوية، فصارت المواد البلاستيكية تحل مكان الفلّين الذي هو من أهم صادرات ماليزيا. وبسبب هبوط أسعار النفط والمعادن، هبطت أسعار الزنك الذي هو من أهم صادراتنا.
وقال الغرب كاذباً إن زيت النخيل يسبّب السرطان، فتراجع الطلب عليه كثيراً، وهو من أهم صادراتنا. وهكذا تراجعت صادراتنا ومداخيلنا بنسبٍ عاليةٍ، لأن أهم صادراتنا الأربعة من نفط وزنك وزيت نخيل وفلّين قد تدنت كثيراً، ولو أنكم تحالفتم معنا، ووقفتم إلى جانبنا، بدلاً من أن تقفوا مع الغرب، لفزتم وفزنا.
وفاجأني حديثه القوي النابض بالألم والعتاب المر، فقلت له وما يدريك لعل الأمور تتغير. فقال وكيف؟ فقلت له إنكم دولة تسعون بكل طاقاتكم لتنويع اقتصادكم والدخول إلى عالم التصنيع. والله مع العبد إذا سعى. فقال نعم... وأشاح بوجهه إلى الناحية الأخرى يحدّث ضيوفاً آخرين.
اقــرأ أيضاً
وفي عام 1987، بدأت أسعار النفط تستعيد أنفاسها. وأثبت العلماء أن زيت النخيل ليس مسرطناً، وأغلقت مناجم الزنك الهامشية في بريطانيا ودول أخرى، وظهر مرض الإيدز، فزاد الطلب على منتجات الفلّين، مثل الكفوف الطبية وموانع الحمل، لأن البلاستيك لا يحمي من عدوى انتقال المرض باستخدام البلاستيك، عكس الفلّين الطبيعي. وهكذا ارتفع الطلب على صادرات ماليزيا، وارتفعت الأسعار. وسارت ماليزيا على طريق النمو.
ولما خرج من الحكومة، قابلته بعد سنوات في إحدى دول الخليج العربية في مؤتمر اقتصادي. وجلست إليه على طعام الغداء، وذكّرته بنفسي. وأخبرته أنني كنت أسير على عكازتين. فقال نعم تذكّرتك وتذكرت حديثي معك. فقلت له إن لله أقواماً إذا أرادوا أراد، وقلت لكم، يا دولة الرئيس، إن أموركم سوف تتحسن. وقد حصل بالفعل، فقال نعم تحسنت، ولكن لو كنا متضامنين متفاعلين، كدول نامية وإسلامية، لكان وضعنا أفضل بكثير.
وفي عام 2017، كنت عضواً في الحكومة الأردنية، وانتدبني جلالة الملك عبد الله الثاني لأنوب عنه في مؤتمر تنموي، ولمّا جلست مكاني في الصف الأول، أخذت أنظر حولي وخلفي، لأرى وجوهاً أعرفها. وفي الصف الرابع، وجدت مهاتير محمد جالساً. فقلت يا الله، هذا الرجل الذي بنى بلداً وقد جلس في صف خلفي يتقدّمه أناس يقلّون عنه إنجازاً وقدراً. فقمت وذهبت إليه وأجلسته على كرسي إلى جانبي، على الرغم من احتجاج ضباط البروتوكول. وشعرت بنشوة الانتصار كما بدا من ملامحي التي كان يرقبها بعين حادة. وابتسم الرجل، وقال لي ألست أنت الأردني الذي مثل الأمير الحسن؟ قلت نعم.
ولما سمعت خبر فوزه في الانتخابات الأخيرة، وعن قرب صدور عفو عن نائبه أنور إبراهيم، وعن تعيينه زوجة ذلك الخصم نائباً للرئيس، حتى يخرج زوجها بالعفو المتوقع، إن لم يكن بالفعل قد صدر بعد كتابة هذه السطور ونشرها، فإن هذا الشيخ البالغ 92 عاماً قد أعطى كلاً منا درساً قوياً.
ليس العمر رقماً، فهو بيد الله، ولكن قضاء العمر في العمل والجد والبناء هو الحياة التي تستحق أن تُحيا. وإن من زرع حصد، وإن الرجل الذي يخدم بلداً لا ينساه الناس، ويعطونه ما يستحق من ثقة ودعم وتقدير.
دعونا، بغض النظر عن خلافاتنا في الرأي، نعترف بأن ما جرى في العقود الأخيرة في تركيا وماليزيا يستحق أن يُفتخر به، وأنه لا يجوز أن نفتخر بدون قيد بتجربة سنغافورة، ونتخاصم في اعتبار ماليزيا وتركيا نموذجين يستحقان الدراسة والتأمل والمضاهاة.
وأعتقد أن ما يجري الآن في إندونيسيا يستحق الاحترام والتقدير منا نحن العرب، وما الأعمال الإرهابية فيها إلا من قوم لا يريدون لأكبر بلد إسلامي أن ينتعش، ويكون له مكانة اقتصادية متقدّمة في العالم.
ولما جاء دوري، قاطعني الرئيس عرفات قائلاً إنه يريد أن يقول شيئاً فاته أن يقوله لما كان له الدور في الحديث. وقال "إن الخيار لكم أيها السادة.. فإما أن تكون غزة سنغافورة ثانية، أو أن تكون الصومال".
فوقف رئيس وزراء سنغافورة السابق في حينها، ومؤسس نهضتها، وأشار بيديه شاكراً للرئيس عرفات ما قاله. وقلت لنفسي هذا الرئيس، لي كوان يو، يستحق الاحترام والتقدير.
وقبل ذلك بأحد عشر عاماً، تعرّضت لحادث سير، اضطررت معه إلى استعمال العكازات فترة، حتى يبرأ الكسر الذي أصبت به في إحدى ركبتي. وفي أثنائها، انتدبني الأمير الحسن بن طلال لكي أنوب عنه في مؤتمر مجالس الدراسات الاستراتيجية في كوالالمبور عاصمة ماليزيا. وقد شارك أيامها رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، في أعمال المؤتمر، ودعاني إلى تناول الغداء معه، حيث كنت العربي الوحيد المشارك.
قال لي: ضيعتم أنتم العرب علينا نحن الدول النامية، خصوصا الدول المسلمة، فرصة لا تعوض في تحسين ظروف وأسعار التبادل التجاري مع الدول المتقدمة. لقد ساهمتم في رفع سعر النفط، ولحقته بعد ذلك أسعار المواد الخام، مثل الزنك والحديد والنحاس، وأسعار المواد الأولية والغذائية، خصوصا زيت النخيل والفلّين. ولذلك، وبسبب سوء إدارة أسعار النفط، هبط سعره من أربعين دولاراً كأقصى سعر عام 1984 إلى ثمانية دولارات كأدنى سعر عام 1986، وتبعته باقي الأسعار.
وأضاف: لقد أدى هبوط سعر النفط إلى تدنّي أسعار المواد البتروكيماوية، فصارت المواد البلاستيكية تحل مكان الفلّين الذي هو من أهم صادرات ماليزيا. وبسبب هبوط أسعار النفط والمعادن، هبطت أسعار الزنك الذي هو من أهم صادراتنا.
وقال الغرب كاذباً إن زيت النخيل يسبّب السرطان، فتراجع الطلب عليه كثيراً، وهو من أهم صادراتنا. وهكذا تراجعت صادراتنا ومداخيلنا بنسبٍ عاليةٍ، لأن أهم صادراتنا الأربعة من نفط وزنك وزيت نخيل وفلّين قد تدنت كثيراً، ولو أنكم تحالفتم معنا، ووقفتم إلى جانبنا، بدلاً من أن تقفوا مع الغرب، لفزتم وفزنا.
وفاجأني حديثه القوي النابض بالألم والعتاب المر، فقلت له وما يدريك لعل الأمور تتغير. فقال وكيف؟ فقلت له إنكم دولة تسعون بكل طاقاتكم لتنويع اقتصادكم والدخول إلى عالم التصنيع. والله مع العبد إذا سعى. فقال نعم... وأشاح بوجهه إلى الناحية الأخرى يحدّث ضيوفاً آخرين.
وفي عام 1987، بدأت أسعار النفط تستعيد أنفاسها. وأثبت العلماء أن زيت النخيل ليس مسرطناً، وأغلقت مناجم الزنك الهامشية في بريطانيا ودول أخرى، وظهر مرض الإيدز، فزاد الطلب على منتجات الفلّين، مثل الكفوف الطبية وموانع الحمل، لأن البلاستيك لا يحمي من عدوى انتقال المرض باستخدام البلاستيك، عكس الفلّين الطبيعي. وهكذا ارتفع الطلب على صادرات ماليزيا، وارتفعت الأسعار. وسارت ماليزيا على طريق النمو.
ولما خرج من الحكومة، قابلته بعد سنوات في إحدى دول الخليج العربية في مؤتمر اقتصادي. وجلست إليه على طعام الغداء، وذكّرته بنفسي. وأخبرته أنني كنت أسير على عكازتين. فقال نعم تذكّرتك وتذكرت حديثي معك. فقلت له إن لله أقواماً إذا أرادوا أراد، وقلت لكم، يا دولة الرئيس، إن أموركم سوف تتحسن. وقد حصل بالفعل، فقال نعم تحسنت، ولكن لو كنا متضامنين متفاعلين، كدول نامية وإسلامية، لكان وضعنا أفضل بكثير.
وفي عام 2017، كنت عضواً في الحكومة الأردنية، وانتدبني جلالة الملك عبد الله الثاني لأنوب عنه في مؤتمر تنموي، ولمّا جلست مكاني في الصف الأول، أخذت أنظر حولي وخلفي، لأرى وجوهاً أعرفها. وفي الصف الرابع، وجدت مهاتير محمد جالساً. فقلت يا الله، هذا الرجل الذي بنى بلداً وقد جلس في صف خلفي يتقدّمه أناس يقلّون عنه إنجازاً وقدراً. فقمت وذهبت إليه وأجلسته على كرسي إلى جانبي، على الرغم من احتجاج ضباط البروتوكول. وشعرت بنشوة الانتصار كما بدا من ملامحي التي كان يرقبها بعين حادة. وابتسم الرجل، وقال لي ألست أنت الأردني الذي مثل الأمير الحسن؟ قلت نعم.
ولما سمعت خبر فوزه في الانتخابات الأخيرة، وعن قرب صدور عفو عن نائبه أنور إبراهيم، وعن تعيينه زوجة ذلك الخصم نائباً للرئيس، حتى يخرج زوجها بالعفو المتوقع، إن لم يكن بالفعل قد صدر بعد كتابة هذه السطور ونشرها، فإن هذا الشيخ البالغ 92 عاماً قد أعطى كلاً منا درساً قوياً.
ليس العمر رقماً، فهو بيد الله، ولكن قضاء العمر في العمل والجد والبناء هو الحياة التي تستحق أن تُحيا. وإن من زرع حصد، وإن الرجل الذي يخدم بلداً لا ينساه الناس، ويعطونه ما يستحق من ثقة ودعم وتقدير.
دعونا، بغض النظر عن خلافاتنا في الرأي، نعترف بأن ما جرى في العقود الأخيرة في تركيا وماليزيا يستحق أن يُفتخر به، وأنه لا يجوز أن نفتخر بدون قيد بتجربة سنغافورة، ونتخاصم في اعتبار ماليزيا وتركيا نموذجين يستحقان الدراسة والتأمل والمضاهاة.
وأعتقد أن ما يجري الآن في إندونيسيا يستحق الاحترام والتقدير منا نحن العرب، وما الأعمال الإرهابية فيها إلا من قوم لا يريدون لأكبر بلد إسلامي أن ينتعش، ويكون له مكانة اقتصادية متقدّمة في العالم.