03 أكتوبر 2024
لماذا تتأخر الانتفاضة الفلسطينية؟
من كان يتخيّل أنّ شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى ستندلع نتيجة حادث سير، أدى إلى مقتل أربعة شبان فلسطينيين، إثر صدمهم من شاحنة إسرائيلية قرب حاجز إيرز الذي يفصل قطاع غزة عن الكيان الصهيوني، في 8/12/1987. استمرت الانتفاضة الأولى ستة أعوام قبل أن تخفت حدتها، وتتوقف بعد توقيع اتفاق أوسلو في 13/9/ 1993، فيما عرف بانتفاضة الحجارة، وهي السلاح الرئيسي الذي استخدمه حينها فتيان فلسطين. أما الانتفاضة الثانية، فانطلقت إثر زيارة قام بها إرييل شارون للمسجد الأقصى، واندلاع مواجهات عنيفة بين حراسه وجموع المصلين في 28/9/2000، لتنفجر معها انتفاضة غلب عليها الطابع المسلح والمواجهات العنيفة، وتميزت بالعمليات الاستشهادية وتشكيل كتائب وسرايا المقاومة، وبالاجتياحات الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية وقراها. توقفت الانتفاضة الثانية بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، وانعقاد قمة شرم الشيخ في 8/2/2005 بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي، ارئيل شارون، الذي سبق له أن تسبب في شرارتها الأولى.
قطعاً، لم تكن تلك الأسباب وحدها كافية لاندلاع انتفاضة تستمر سنوات، حسبها أنها كانت الشرارة التي حرقت سهلاً، كان مهيئاً لأن تشتعل النار في الهشيم. إذ لم تكن تلك الحوادث منفصلة عن سياقها العام، حين خرجت الثورة الفلسطينية من لبنان، وغادر المقاتلون بيروت نتيجة لحرب 1982، وتوزعوا في المنافي البعيدة عن حدود فلسطين. بعد الحرب، دعم النظامان، السوري والليبي، الانشقاق الفلسطيني، وأُرغم من تبقوا من مقاتلين في لبنان على مغادرته بعد معركة طرابلس، ومنع عودتهم إليه، ولاحق النظام السوري من حاولوا العودة والبقاء على تماس مع العدو الصهيوني، وذلك بإشعاله حرب المخيمات، وانتهى الأمر بمنع أي طرف فلسطيني، بما فيهم حلفاؤه من المشاركة في المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني للجنوب اللبناني، وسط تشكيك متزايد بشرعية القيادة الفلسطينية، وفي أجواء انقسام عربي تجسّد بغياب مصر عن التطورات في الساحة العربية، وعزلتها، بعد معاهدة كامب ديفيد. وفي الداخل الفلسطيني، نشطت محاولات العدو الصهيوني لإيجاد بدائل محلية لقيادة منظمة التحرير، عبر تأسيسه ما عُرف حينها بروابط القرى التي كانت بمثابة تمهيد لحكم إداري ذاتي ومحدود في فلسطين المحتلة منذ عام 1967. في ظل تلك الأجواء، جاء إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني من غزة والضفة الغربية، وامتد حادث السير في غزة ليصبح انتفاضة شعبية شاملة، عمّت كل المناطق المحتلة.
تكرر هذا المثال ثانية في سنة 2000، إذ وصلت عملية السلام إلى طريق مسدود، بعد مباحثات كامب ديفيد، وأدرك ياسر عرفات أن عليه أن يعمل على تغيير المعادلة عبر انتفاضة جديدة، كانت المواجهة مع شارون شرارتها الأولى فحسب. في الحالتين، كان جدار يقف في طريق آمال الشعب الفلسطيني في التحرير، ويهدد مستقبله وكيانه السياسي، وكانت الجماهير وانتفاضتها الحل الوحيد المتاح، بعد أن فشلت كل الحلول، ولم يعد هنالك سوى الاختيار بين الاستسلام أو المقاومة.
ليست الانتفاضة شعاراً نظرياً، بقدر ما هي ضرورة حيوية، لا يلجأ إليها الشعب الفلسطيني، إلا عندما يصبح على مفترق طرق، وأمام مسألة مصيرية، مثل الحياة أو الموت، فيهب ليضحي بكل شيء من أجل بقائه. هكذا كانت الانتفاضتان، الأولى والثانية، ولا يختلف عاقلان على ضرورة الانتفاضة الثالثة، بعد مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو.
في الحرب على غزة في الصيف الماضي، لم يسقط أربعة شهداء فحسب، بل سقط أكثر من
ألفي شهيد، أما المسجد الأقصى فقد التزم المرابطون فيه على التصدي لمحاولات اقتحامه اليومية، وتجاوز العدو الصهيوني ذلك إلى منع المصلين المسلمين من دخوله في أوقات محددة، لإفساح المجال لإقامة صلوات يهودية فيه، وهو يسعى، هذه الأيام، وبعد نجاحه في التقسيم الزماني، إلى تقسيم المكان، وانتزاع أجزاء كاملة منه من أيدي الفلسطينيين، تماماً كما فعل سابقاً في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
وإذا انتقلنا إلى الظرف السياسي، يمكننا القول، وبالفم الملآن، إن الشعب الفلسطيني لم يمر عليه أسوأ من هذه الظروف. فشل مشروع أوسلو تماماً، وراوحت المفاوضات في مكانها ثم توقفت. ويكاد الاستيطان يبتلع الضفة الغربية، وحل الدولتين التهمته المستوطنات، ومحاولات المصالحة الفلسطينية باتت حلماً، فيما تكرس الانقسام كابوساً ثقيلاً، والقضية الفلسطينية، كقضية عربية مركزية، تراجعت عن موقعها، وأضحى العرب مشغولين بحروبهم ومعاركهم وفتنهم الداخلية.
هنا، يثور سؤال كبير: لماذا تأخرت الانتفاضة الفلسطينية، على الرغم من الظرف الصعب الذي تمر به القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من عشرات الهبّات (الشرارات) التي انطلقت، وما تزال تندلع في كل يوم، خصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة الفلسطينية، مثل القدس ومناطق ب وج، إلا أنها لم تتحول بعد إلى انتفاضة شاملة.
أولوية الوطني على المعيشي
يعتقد بعضهم أن من أسباب تأخر الانتفاضة الثالثة وجود ربع مليون موظف يعملون في دوائر السلطة الوطنية الفلسطينية وأجهزتها، ويعيلون نحو مليون مواطن. ونجاح السلطة، ابتداءً من عهد رئاسة سلام فياض الحكومة، في فرض نمط حياة استهلاكي على المواطنين، بتشجيع البنوك على منح القروض الاستهلاكية، وتحفيز التعاون والارتباط الاقتصادي مع العدو. إضافة إلى منح العدو، أخيراً، تسهيلات للمواطنين على مستوى التنقل والعمل في داخل الأراضي الفلسطينية، أي أن القائلين بهذا الرأي يعتقدون أن أسباباً اقتصادية تحول دون اندلاع الانتفاضة.
غاب عن هؤلاء أن الوضع الاقتصادي للمواطن الفلسطيني، عشية اندلاع الانتفاضتين الأولى والثانية، كان أفضل بكثير من الوضع الحالي، سواء من حيث معدل الدخل، أو فرص العمل المتاحة، نتيجة فتح الكيان الصهيوني سوق العمل لديه، أمام مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، لم يتردد هؤلاء في الالتحاق بصفوف شعبهم وخسارة وظائفهم وأعمالهم.
أي أن نظرية السبب الاقتصادي متهاوية من أساسها، بدليل التجربة السابقة في الانتفاضتين، حيث حلت وسائل التكافل الاجتماعي ودعم الشتات الفلسطيني والجمهور العربي وموارد منظمة التحرير جزءاً من المعاناة في أجواء الانتفاضات. ولا يعني هذا الأمر إهمال التداعيات التي قد تحدث نتيجة انهيار السلطة، وضرورة الخروج ببدائل اجتماعية وإدارية لتنظيم الحد الأدنى من الشؤون الحياتية. وهو موضوع لبحث آخر مستقل، ما يعنينا هنا نقد نظرية الأسباب الاقتصادية التي ستقود، بالنتيجة، إلى إمكانية تدجين الشعوب، في حين تثبت الشعوب، وفي طليعتها الفلسطيني، أن الهم الوطني والتطلع نحو الحرية يفوق ويتجاوز محاولات التدجين عبر التحكم بلقمة العيش.
الانقسام الفلسطيني
ساهم الانقسام الفلسطيني مع تعثر جهود المصالحة في تأخر اندلاع الانتفاضة الثالثة. وينبغي الانتباه، هنا، إلى أن هذه الإعاقة تتجاوز موضوعة الانقسام، وعدم الاتفاق على برنامج ومشروع وطني موّحد لمواجهة الاحتلال إلى حالة الاستقطاب الجماهيري الحادة بين طرفي الانقسام، والتي جعلت موضوع الانقسام يطغى على مسألة مواجهة العدو، إذ ارتفعت وتيرة الخصومة إلى درجةٍ نسي أطرافها، في بعض المراحل، وعبر أدوات التعبئة والتحريض الجماهيري، أن ثمة عدواً رابضاً، ينبغي توحيد الجهود لمواجهته. وترافق ذلك مع تآكل في وضع الفصائل الفلسطينية، وانحسار قدرة غالبيتها على التأثير، وذوبان معظمها ضمن أجهزة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، واختفاء القيادات الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي والجماهيري الفلسطيني.
ولم يكن المشهد في الشتات الفلسطيني أفضل حالاً، وهو الذي وقف، بكل قواه وإمكاناته، في دعم الانتفاضات السابقة وتأييدها، سواء عبر التبرعات والتكافل الأسري، أم من خلال التأييد السياسي والحراك الجماهيري. وتمكن سابقاً من إطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وقيادتها حتى مرحلة أوسلو. تم تدمير الشتات في لبنان أولاً، ثم في سورية، وتكفلت حرب الخليج بإنهاء وجود أكبر تجمع فلسطيني خارج فلسطين والأردن في الكويت، كما ساهم الانقسام الفلسطيني، وتغييب منظمة التحرير ومؤسساتها وإنهاء دورها الفعلي وتحويل مكاتبها إلى سفارات، وتراجع دور الاتحادات والهيئات الشعبية، في إضعاف تأثير الشتات الفلسطيني في مجمل النضال الفلسطيني، بما فيه القدرة على تشجيع انتفاضة جديدة ودعمها.
السلطة الفلسطينية والإرادة السياسية
ينبغي الانتباه، بدايةً، إلى أن متغيرات كبيرة طرأت على نهج السلطة الفلسطينية وأدائها وأجهزتها الأمنية، في مرحلتها الجديدة، بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات الذي دفع حياته ثمناً لدعمه الانتفاضة التي شارك فيها نخبة من أفراد الأجهزة الأمنية التي قصفت واستبيحت معظم
مقراتها. أما القيادة الحالية، فقد اعتبرت أن الانتفاضة الثانية كانت كارثة على الشعب الفلسطيني، وجرّت عليه الويلات، وأخذت على نفسها عهداً بأن لا تسمح بتكرار انتفاضة جديدة في فلسطين. تميّز النهج الجديد باعتماد خيار المفاوضات وسيلة وحيدة لا ثاني لها لانتزاع ما يمكن من حقوق للشعب الفلسطيني، ومحاربة كل وسائل المقاومة المشروعة الأخرى وأساليبها. ومن هنا، غدت الصواريخ عبثية، والدعوة إلى المقاومة في الضفة تستهدف إعادة الفوضى، أو التآمر على السلطة والانقلاب عليها، لبسط سيطرة حركة حماس.
تمت إعادة تأهيل أجهزة الأمن الفلسطينية، وفق خطة الجنرال الأميركي دايتون التي رفعت وتيرة التنسيق الأمني مع العدو إلى درجات غير مسبوقة. وتولت هذه الأجهزة، إضافة إلى دورها في تبادل المعلومات الاستخبارية، مهمة إحباط الحراكات الجماهيرية، ومنعها من التوجه باتجاه حواجز الاحتلال، بل والاشتباك معها أحياناً، واعتقال المشاركين فيها بذرائع واهية، مثل حمايتهم من رصاص العدو وبطشه، في وقت تقف فيه مكتوفة الأيدي أمام توغل جيش الاحتلال أو المستوطنين في مناطقها. ولعله يُلاحظ، هنا، أن الهبّات التي أخذت طابعاً مستمراً ومتواصلاً هي التي حدثت وتحدث يومياً في المناطق التي لا تخضع لسيطرة السلطة الأمنية، مثل القدس وضواحيها والريف الفلسطيني، في حين يتعرّض أي حراك شعبي في المدن الكبرى لقمع مباشر من أجهزة الأمن الفلسطينية.
من جهة أخرى، لجأت السلطة إلى محاولة إيهام الجمهور الفلسطيني بأن ثمة حلولاً ومبادرات جديدة على الطريق، وإشغاله دوماً بمتابعة بالونات فارغة، عبر الحديث عن مهل تُعطى للعدو وللمجتمع الدولي قبل الإعلان عن فشل مسار التسوية والمفاوضات، أو التلويح باللجوء إلى المنظمات الدولية ومجلس الأمن، وتقديم شكاوى إلى محكمة الجنايات، من دون أن يتحقق شيء ملموس في كل هذه الملفات، بحيث بات واضحاً أن الهدف من ذلك كله استمرار تخدير الجمهور، بإيهامه بأن ثمة إجراءات وشيكة قادمة، سواء باتجاه فتح باب المفاوضات، أو التلويح بإجراءاتٍ، دولية كانت أو محلية، كما قرارات المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني، والتي لم تر النور، أو التلويح بقنبلة سيلقيها الرئيس محمود عباس في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي قنبلة نزع فتيلها، وأفرغت من محتواها قبل أن يبدأ رحلته باتجاه نيويورك، وذلك كله بغية إبقاء الحراك السياسي للسلطة وتصرفات أجهزتها الأمنية ضمن خانة المشروع الوطني الفلسطيني، باعتباره البديل الوحيد المتاح.
يتضح من هذا السياق أن عوامل ساهمت في تأخير انطلاق الانتفاضة الفلسطينية، إلا أن العامل الأبرز والأهم هو غياب الإرادة السياسية لدى قيادة السلطة الوطنية، وتبنيها مفاهيم مختلفة حول آليات الحل ومساراته، تتناقض، بالضرورة، مع سماحها أو رغبتها في إطلاق انتفاضة في وجه المحتل، بل هي تسعى جاهدة، وعبر آليات التنسيق الأمني، إلى إجهاض أي حراك وإطفاء أي شرارة، قد تؤدي إلى اندلاع انتفاضة ثالثة، بقمعها أو باحتوائها مؤقتاً ثم الالتفاف عليها، وإنهائها في مهدها.
يطرح هذا الموقف تساؤلاتٍ أخرى، مثل: هل يمكن القيام بانتفاضة في مواجهة الاحتلال، في ظل بقاء السلطة واستمرار نهجها الحالي؟ وهل تستطيع السلطة وأجهزتها البقاء في مواجهة التعنت الإسرائيلي، وتغول الاستيطان، ما ينزع عنها آخر أوراق التوت لديها؟ هل ستنهار السلطة نتيجة الإجراءات الإسرائيلية، أم نتيجة الضغط والحراك الشعبي؟ ما هو البديل الإسرائيلي والفلسطيني في مواجهة ذلك؟ كيف ينبغي على الحراك الشعبي أن يتعامل مع السلطة وأجهزتها؟ وأخيراً، ما هو الشكل المتوقع للانتفاضة الثالثة ووسائلها وأدواتها وقيادتها؟
أسئلة ينبغي التوقف، عندها، في ظل حتمية اندلاع انتقاضة ثالثة، بعد أن وصل الطرف الفلسطيني، مرة أخرى، إلى جدار مسدود، وخيار بين الاستسلام والمقاومة.
تكرر هذا المثال ثانية في سنة 2000، إذ وصلت عملية السلام إلى طريق مسدود، بعد مباحثات كامب ديفيد، وأدرك ياسر عرفات أن عليه أن يعمل على تغيير المعادلة عبر انتفاضة جديدة، كانت المواجهة مع شارون شرارتها الأولى فحسب. في الحالتين، كان جدار يقف في طريق آمال الشعب الفلسطيني في التحرير، ويهدد مستقبله وكيانه السياسي، وكانت الجماهير وانتفاضتها الحل الوحيد المتاح، بعد أن فشلت كل الحلول، ولم يعد هنالك سوى الاختيار بين الاستسلام أو المقاومة.
ليست الانتفاضة شعاراً نظرياً، بقدر ما هي ضرورة حيوية، لا يلجأ إليها الشعب الفلسطيني، إلا عندما يصبح على مفترق طرق، وأمام مسألة مصيرية، مثل الحياة أو الموت، فيهب ليضحي بكل شيء من أجل بقائه. هكذا كانت الانتفاضتان، الأولى والثانية، ولا يختلف عاقلان على ضرورة الانتفاضة الثالثة، بعد مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو.
في الحرب على غزة في الصيف الماضي، لم يسقط أربعة شهداء فحسب، بل سقط أكثر من
وإذا انتقلنا إلى الظرف السياسي، يمكننا القول، وبالفم الملآن، إن الشعب الفلسطيني لم يمر عليه أسوأ من هذه الظروف. فشل مشروع أوسلو تماماً، وراوحت المفاوضات في مكانها ثم توقفت. ويكاد الاستيطان يبتلع الضفة الغربية، وحل الدولتين التهمته المستوطنات، ومحاولات المصالحة الفلسطينية باتت حلماً، فيما تكرس الانقسام كابوساً ثقيلاً، والقضية الفلسطينية، كقضية عربية مركزية، تراجعت عن موقعها، وأضحى العرب مشغولين بحروبهم ومعاركهم وفتنهم الداخلية.
هنا، يثور سؤال كبير: لماذا تأخرت الانتفاضة الفلسطينية، على الرغم من الظرف الصعب الذي تمر به القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من عشرات الهبّات (الشرارات) التي انطلقت، وما تزال تندلع في كل يوم، خصوصاً في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة الفلسطينية، مثل القدس ومناطق ب وج، إلا أنها لم تتحول بعد إلى انتفاضة شاملة.
أولوية الوطني على المعيشي
يعتقد بعضهم أن من أسباب تأخر الانتفاضة الثالثة وجود ربع مليون موظف يعملون في دوائر السلطة الوطنية الفلسطينية وأجهزتها، ويعيلون نحو مليون مواطن. ونجاح السلطة، ابتداءً من عهد رئاسة سلام فياض الحكومة، في فرض نمط حياة استهلاكي على المواطنين، بتشجيع البنوك على منح القروض الاستهلاكية، وتحفيز التعاون والارتباط الاقتصادي مع العدو. إضافة إلى منح العدو، أخيراً، تسهيلات للمواطنين على مستوى التنقل والعمل في داخل الأراضي الفلسطينية، أي أن القائلين بهذا الرأي يعتقدون أن أسباباً اقتصادية تحول دون اندلاع الانتفاضة.
غاب عن هؤلاء أن الوضع الاقتصادي للمواطن الفلسطيني، عشية اندلاع الانتفاضتين الأولى والثانية، كان أفضل بكثير من الوضع الحالي، سواء من حيث معدل الدخل، أو فرص العمل المتاحة، نتيجة فتح الكيان الصهيوني سوق العمل لديه، أمام مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، لم يتردد هؤلاء في الالتحاق بصفوف شعبهم وخسارة وظائفهم وأعمالهم.
الانقسام الفلسطيني
ساهم الانقسام الفلسطيني مع تعثر جهود المصالحة في تأخر اندلاع الانتفاضة الثالثة. وينبغي الانتباه، هنا، إلى أن هذه الإعاقة تتجاوز موضوعة الانقسام، وعدم الاتفاق على برنامج ومشروع وطني موّحد لمواجهة الاحتلال إلى حالة الاستقطاب الجماهيري الحادة بين طرفي الانقسام، والتي جعلت موضوع الانقسام يطغى على مسألة مواجهة العدو، إذ ارتفعت وتيرة الخصومة إلى درجةٍ نسي أطرافها، في بعض المراحل، وعبر أدوات التعبئة والتحريض الجماهيري، أن ثمة عدواً رابضاً، ينبغي توحيد الجهود لمواجهته. وترافق ذلك مع تآكل في وضع الفصائل الفلسطينية، وانحسار قدرة غالبيتها على التأثير، وذوبان معظمها ضمن أجهزة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، واختفاء القيادات الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي والجماهيري الفلسطيني.
ولم يكن المشهد في الشتات الفلسطيني أفضل حالاً، وهو الذي وقف، بكل قواه وإمكاناته، في دعم الانتفاضات السابقة وتأييدها، سواء عبر التبرعات والتكافل الأسري، أم من خلال التأييد السياسي والحراك الجماهيري. وتمكن سابقاً من إطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وقيادتها حتى مرحلة أوسلو. تم تدمير الشتات في لبنان أولاً، ثم في سورية، وتكفلت حرب الخليج بإنهاء وجود أكبر تجمع فلسطيني خارج فلسطين والأردن في الكويت، كما ساهم الانقسام الفلسطيني، وتغييب منظمة التحرير ومؤسساتها وإنهاء دورها الفعلي وتحويل مكاتبها إلى سفارات، وتراجع دور الاتحادات والهيئات الشعبية، في إضعاف تأثير الشتات الفلسطيني في مجمل النضال الفلسطيني، بما فيه القدرة على تشجيع انتفاضة جديدة ودعمها.
السلطة الفلسطينية والإرادة السياسية
ينبغي الانتباه، بدايةً، إلى أن متغيرات كبيرة طرأت على نهج السلطة الفلسطينية وأدائها وأجهزتها الأمنية، في مرحلتها الجديدة، بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات الذي دفع حياته ثمناً لدعمه الانتفاضة التي شارك فيها نخبة من أفراد الأجهزة الأمنية التي قصفت واستبيحت معظم
تمت إعادة تأهيل أجهزة الأمن الفلسطينية، وفق خطة الجنرال الأميركي دايتون التي رفعت وتيرة التنسيق الأمني مع العدو إلى درجات غير مسبوقة. وتولت هذه الأجهزة، إضافة إلى دورها في تبادل المعلومات الاستخبارية، مهمة إحباط الحراكات الجماهيرية، ومنعها من التوجه باتجاه حواجز الاحتلال، بل والاشتباك معها أحياناً، واعتقال المشاركين فيها بذرائع واهية، مثل حمايتهم من رصاص العدو وبطشه، في وقت تقف فيه مكتوفة الأيدي أمام توغل جيش الاحتلال أو المستوطنين في مناطقها. ولعله يُلاحظ، هنا، أن الهبّات التي أخذت طابعاً مستمراً ومتواصلاً هي التي حدثت وتحدث يومياً في المناطق التي لا تخضع لسيطرة السلطة الأمنية، مثل القدس وضواحيها والريف الفلسطيني، في حين يتعرّض أي حراك شعبي في المدن الكبرى لقمع مباشر من أجهزة الأمن الفلسطينية.
من جهة أخرى، لجأت السلطة إلى محاولة إيهام الجمهور الفلسطيني بأن ثمة حلولاً ومبادرات جديدة على الطريق، وإشغاله دوماً بمتابعة بالونات فارغة، عبر الحديث عن مهل تُعطى للعدو وللمجتمع الدولي قبل الإعلان عن فشل مسار التسوية والمفاوضات، أو التلويح باللجوء إلى المنظمات الدولية ومجلس الأمن، وتقديم شكاوى إلى محكمة الجنايات، من دون أن يتحقق شيء ملموس في كل هذه الملفات، بحيث بات واضحاً أن الهدف من ذلك كله استمرار تخدير الجمهور، بإيهامه بأن ثمة إجراءات وشيكة قادمة، سواء باتجاه فتح باب المفاوضات، أو التلويح بإجراءاتٍ، دولية كانت أو محلية، كما قرارات المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني، والتي لم تر النور، أو التلويح بقنبلة سيلقيها الرئيس محمود عباس في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي قنبلة نزع فتيلها، وأفرغت من محتواها قبل أن يبدأ رحلته باتجاه نيويورك، وذلك كله بغية إبقاء الحراك السياسي للسلطة وتصرفات أجهزتها الأمنية ضمن خانة المشروع الوطني الفلسطيني، باعتباره البديل الوحيد المتاح.
يتضح من هذا السياق أن عوامل ساهمت في تأخير انطلاق الانتفاضة الفلسطينية، إلا أن العامل الأبرز والأهم هو غياب الإرادة السياسية لدى قيادة السلطة الوطنية، وتبنيها مفاهيم مختلفة حول آليات الحل ومساراته، تتناقض، بالضرورة، مع سماحها أو رغبتها في إطلاق انتفاضة في وجه المحتل، بل هي تسعى جاهدة، وعبر آليات التنسيق الأمني، إلى إجهاض أي حراك وإطفاء أي شرارة، قد تؤدي إلى اندلاع انتفاضة ثالثة، بقمعها أو باحتوائها مؤقتاً ثم الالتفاف عليها، وإنهائها في مهدها.
يطرح هذا الموقف تساؤلاتٍ أخرى، مثل: هل يمكن القيام بانتفاضة في مواجهة الاحتلال، في ظل بقاء السلطة واستمرار نهجها الحالي؟ وهل تستطيع السلطة وأجهزتها البقاء في مواجهة التعنت الإسرائيلي، وتغول الاستيطان، ما ينزع عنها آخر أوراق التوت لديها؟ هل ستنهار السلطة نتيجة الإجراءات الإسرائيلية، أم نتيجة الضغط والحراك الشعبي؟ ما هو البديل الإسرائيلي والفلسطيني في مواجهة ذلك؟ كيف ينبغي على الحراك الشعبي أن يتعامل مع السلطة وأجهزتها؟ وأخيراً، ما هو الشكل المتوقع للانتفاضة الثالثة ووسائلها وأدواتها وقيادتها؟
أسئلة ينبغي التوقف، عندها، في ظل حتمية اندلاع انتقاضة ثالثة، بعد أن وصل الطرف الفلسطيني، مرة أخرى، إلى جدار مسدود، وخيار بين الاستسلام والمقاومة.