لقد نجحت المسيرات التي شهدتها غزة، والتي سقط فيها أكثر من عشرين فلسطينياً وخلفت عشرات الجرحى، بتذكير العالم بعدد من الحقائق الأساسية التي كدنا نغفل عنها. فثمانون في المائة من سكان غزة لاجئون هجّروا من بيوتهم من المدن والقرى الفلسطينية كي يتنسى لإسرائيل إقامة دولتها عام 1948. وما يزال أهل غزة تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي الذي يستمر في حصارهم وقتلهم. فالغزيون يعيشون تحت حصار خانق، من جهة إسرائيل ومصر على السواء. فلا حق للسكان في التنقل خارج غزة أو وصولاً إليها، علمًا أنها باتت المكان الأعلى كثافة سكانية في العالم، فيحول ذلك دون أن يعيش الناس حياة طبيعية، بكرامة وسلامة، في منجى عن إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل.
لقد كان مشهد القناصة الإسرائيليين وهم يطلقون النار على المتظاهرين السلميين، (أصيب بعضهم في ظهره) أمرًا يصعب على البروباغاندا الإسرائيلية أن تفسره. فقد كان جليًا للجميع أن المتظاهرين لم يكونوا يشكلون أي تهديد عسكري أو أمني لإسرائيل. كما كان من الواضح أن تلك المظاهرات التي حدثت قرب الحدود هي مظاهرات شعبية، وأنها وعلى الرغم من سياسة القتل التي تنتهجها إسرائيل وتهدد بها بكل تبجح وعناد، شهدت حضوراً لافتًا من أهل غزة جميعًا، وليس من أنصار حماس وحسب.
يعد النضال غير المسلح ضد الاحتلال من الأساليب الفعالة سياسيًا، ولعل هذا ما يفسر خوف إسرائيل من هذا النوع من الحراك، فتراها تحرص على قمعه وتسعى إلى تحويله إلى مواجهات عنيفة (كما فعلت عام 2000 في الأسابيع الأولى من الانتفاضة الثانية، حين تم إطلاق مليون رصاصة على المتظاهرين السلميين). إن للنضال غير المسلح قدرة على تغيير السردية السائدة التي تتعلق بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي تحوّلَ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وفقها إلى حرب يخوضها المحتل ضد الإرهاب، وبيان طبيعة هذا النضال بوصفه نضالاً مناهضًا للاستعمار ضد المحتلّ. فهذا الشكل من المقاومة عصيّ على الشيطنة (بخلاف صواريخ حماس، أو العمليات الانتحارية، أو الهجمات التي تستهدف المدنيين، والتي أثبتت عدم جدواها بالإضافة إلى إشكالها أخلاقيًا).
كما أن للمظاهرات السلمية للفلسطينيين فائدة أخرى إضافية. فهي تعمل على إحداث شرخ داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، في حين يستدعي العنف والكراهية ضرورة الاتفاق ووحدة الموقف، مما يؤدي إلى إضعاف فعالية ما يتقنه السياسيون الإسرائيليون من استدعاء المشاعر العنصرية ضد العرب بعد أي عملية للمقاومة المسلحة. ولعل ما يؤكد ذلك هو أن هذه المظاهرات السلمية الأخيرة قد دفعت منظمة بتسيلم الإسرائيلية لحقوق الإنسان إلى إطلاق حملة غير مسبوقة تدعو الجنود الإسرائيليين إلى رفض الأوامر العسكرية بإطلاق النار على المتظاهرين المدنيين.
**************
فإن كانت المظاهرات الشعبية الضخمة فعالة إلى هذا الحد فما الذي يفسر عدم اللجوء إليها كثيرًا طوال الفترة الماضية؟ سنستعرض هنا بعض الأسباب.
أولًا: للفلسطينيين تحت الاحتلال تجربة مع المقاومة غير المسلحة. فقد كانت الانتفاضة الأولى عام 1987، وعلى حد وصف إدوارد سعيد، "واحدة من أكبر الانتفاضات السلمية المناهضة للكولونيالية في التاريخ الحديث". ففي تلك الانتفاضة تحرك المجتمع بأكمله ونظّم نفسه ليس من أجل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتحدي سيطرته وحسب، بل كذلك من أجل العمل على إنشاء بنى بديلة للحكم الذاتي. فقد نظم النساء والطلبة والمعلمون والعمال أنشطة مقاومة شعبية (إضرابات ومظاهرات ورفض لدفع الضرائب وغير ذلك)، مما أتاح لهم الوقوف في وجه التضييقات التي تفرضها إسرائيل على حياتهم. كما أدرك العمال أن الاقتصاد الإسرائيلي قد كان معتمداً بشكل كبير على العمالة الرخيصة للمهاجرين الفلسطينيين، وقد رأوا في ذلك وسيلة للضغط على الاحتلال الإسرائيلي. وفي ذلك الحين، عمد ناشطو السلام الإسرائيليين، على خطى النشطاء الفلسطينيين، إلى تنظيم حراك ضد نظام الاحتلال في دولتهم.
لكن القمع الوحشي الذي مارسته إسرائيل، وما اتبعته من سياسات الإغلاق وحظر التجول، إلى جانب تعطش القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية إلى الحصول على أي قطعة من الأرض لممارسة إدارتها عليها، كل ذلك اجتمع على الانتفاضة الأولى وأسهم في فشلها. لقد عملت منظمة التحرير الفلسطينية جاهدة من أجل فرض نفسها على تلك الانتفاضة الشعبية العفوية، وإنهاء حالة التنظيم العفوية التي اتسمت بها، واستغلالها من أجل تحقيق هدف المنظمة ضيق الأفق وهاجسها الأناني في تحصيل اعتراف دبلوماسي بها. ثم أتى اتفاق أوسلو في منتصف التسعينات من القرن الماضي، والذي اعترفت إسرائيل بموجبه بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني مقابل اعتراف الأخيرة بإسرائيل وتحييد القرارات الدولية التي تدعو لحماية حقوق الفلسطينيين. وقد أفرز هذا الاتفاق واقعًا جديدًا لإدارة ذاتية تعتمد على القمع، وتتعهد بضبط الأمن، وتعمل على التنسيق الأمني مع محتل لا يرضيه سوى هضم المزيد من الأرض.
لقد أغرت تلك الظروف الاحتلال الإسرائيلي بالتوسع والتغول في الأراضي الفلسطينية، بحيث لم يترك للفلسطينيين سوى أجزاء صغيرة متفرقة من الأرض بالكاد تكفيهم لكسب عيشهم. وفي ظل الضعف المعهود أصلًا للتضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، والذي ازداد ضعفًا بعد أن فرضت إسرائيل نفسها على المشهد الدولي باعتبارها صانعة للسلام، فقد الأمل الفلسطيني في تقرير المصير الزخم الذي يكفل له الدعم اللازم.
ثانيًا: أدى فشل الانتفاضة الأولى والتوقيع على اتفاق أوسلو إلى نشوء حالة من التوجس من الخيار السياسي والشك في جدواه. ففي حين كانت هنالك طبقة من قيادات السلطة تنتفع من الوضع القائم، كانت الغالبية العظمى من الفلسطينيين تحت نير الاحتلال يعانون من ظروف اجتماعية واقتصادية تزداد سوءًا. فقد كانت المستوطنات تتزايد من حولهم، وتم تضييق الخناق عليهم، وتقييد حريتهم في التنقل داخليًا وخارجيًا أو حظرها تمامًا. وقد خلقت تلك الظروف حالة من الإحباط، جعلت الفلسطينيين يرون أن المقاومة المسلحة والعمليات الانتحارية هي الطريقة الوحيدة التي قد يتسنى لهم من خلالها توجيه ضربة للاحتلال (والذي كان قد ترك المدن الكبيرة تحت تصرف السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية القمعية). وهكذا أخذت الفصائل الفلسطينية بالترويج لمثل هذا النوع من المقاومة المسلحة، وتزايد عدد الاستشهاديين من الفصائل المختلفة. وبالرغم من أن هذا التكتيك العنيف قد نسف المنظومة الإسرائيلية التي تسعى لفرض الأمن وتوسيع رقعة الاحتلال في آن واحد، إلا أنها قد أدت في نهاية المطاف إلى التأثير سلبًا على المجتمع الفلسطيني والإضرار بصورته عالميًا. ثم سنحت الفرصة لإسرائيل لممارسة إرهاب الدولة بشكل أكثر شراسة وذلك إبان الحرب على "الإرهاب الإسلامي" بعد تفجيرات 11 سبتمبر.
ثالثًا: حين أتيح للفلسطينيين إجراء انتخابات حرة عام 2006 فإنهم قاموا بالتصويت ضد الوقع القائم، ولصالح حماس، والتي كانت تمثل فصيل المعارضة الأكبر. لكن وعلى الرغم من تبني الفلسطينيين للانتخابات الديمقراطية كردّ على توسع الاحتلال وما أفرزه اتفاق أوسلو من استبداد وتهميش، إلا أن إسرائيل وحلفاءها الغربيين ضربوا بهذه الديمقراطية عرض الحائط، وقاطعوها. وجرى بالفعل اعتقال العديد من النواب المنتخبين ديمقراطيًا. وهكذا فإن الفلسطينيين، حتى وهم يحاولون تكذيب شكوكهم بالعملية السياسية وجدوى الانخراط بها، لم ينالوا سوى الرفض والقمع، وحكم عليهم بالبقاء تحت قيادة أوسلو الفاسدة.
أخيرًا: لقد أحدث اتفاق أوسلو انقسامًا في المجتمع الفلسطيني، وما انفكت إسرائيل تحاول استغلال هذه الانقسامات وإذكاءها كي تتحول إلى مواجهات عنيفة عبر التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية (باستهداف فصائل المقاومة الفلسطينية) وعبر سياسة عزل غزة وفصلها عن الضفة الغربية. وقد أدى تأجيج الخلافات الداخلية الفلسطينية إلى سيطرة حماس بالقوة على قطاع غزة 2007، وطردها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة. وما يزال هذا الشرخ الفلسطيني يتسع حتى الآن. فحركة حماس تتشبث بخيار النضال المسلح من جهة، وهو خيار تخلت عنه حركة فتح عام 1988. بينما تتمسك هذه الأخيرة بدورها كممثل للفلسطينيين في بيروقراطية الأروقة الدبلوماسية والتنازلات التي لا تنتهي.
وتكاد تكون المصالحة مستحيلة الآن: فهي تمثل تهديدًا لما اكتسبه كلا الطرفين من سلطة ونفوذ. لذا فإن كلًا من فتح وحماس تعملان حاليًا على إسكات أي معارضة داخلية عبر نظام إدارة سلطوي، مع استمرار إخفاق كل من الحركتين في تحسين حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال. لقد استنفد كلا الطرفين ثقة المجتمع الفلسطيني بعد الكثير من الوعود الفارغة بالاستقلال والتحرير. وقد وصل الوضع إلى طريق مسدود، وبات لزامًا كما اتضح لدى بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب، إدراك أن العمل المسلح وكذا عملية السلام في إطار اتفاق أوسلو خياران آلا إلى الفشل.
تنشأ لدينا هنا ضرورة التفكير باستراتيجية جديدة للنضال- عبر اجتراح واقع سياسي ديمقراطي جديد يستفيد من الشرعية التي تمثلها الإرادة الفلسطينية الشعبية. ويمكن القول إن النضال الشعبي الناشئ عن التنظيم الذاتي يمثل الأمل الأكبر للوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. وليس أدل على فعالية هذا الخيار من المظاهرات الشعبية الواسعة التي اندلعت احتجاجًا على الإجراءات الإسرائيلية القمعية قرب المسجد الأقصى في القدس هذا العام، بالإضافة إلى المسيرات الحاشدة التي شهدها قطاع غزة مؤخرًا.
فهل يمكن أن نشهد في الذكرى السبعين للنكبة إحياءً للإرادة السياسية الشعبية وما تعد به من إمكانات؟ هل سيقف العالم يتفرج؟ وهل سيتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في المجتمعات الغربية لو توقفت الهجمات المسلحة؟ هل سيتمكن الناشطون المتضامنون مع القضية الفلسطينية من نقل رسالة إلى مجتمعاتهم بضرورة إنهاء المأساة التي يعيشها الفلسطينيون؟ إن الوجود الفلسطيني في فلسطين يعتمد على تقديم إجابات عن هذه الأسئلة.
(أكاديمي فلسطيني وأستاذ جامعة كنت)
(ترجمة: محمد زيدان)
لقد كان مشهد القناصة الإسرائيليين وهم يطلقون النار على المتظاهرين السلميين، (أصيب بعضهم في ظهره) أمرًا يصعب على البروباغاندا الإسرائيلية أن تفسره. فقد كان جليًا للجميع أن المتظاهرين لم يكونوا يشكلون أي تهديد عسكري أو أمني لإسرائيل. كما كان من الواضح أن تلك المظاهرات التي حدثت قرب الحدود هي مظاهرات شعبية، وأنها وعلى الرغم من سياسة القتل التي تنتهجها إسرائيل وتهدد بها بكل تبجح وعناد، شهدت حضوراً لافتًا من أهل غزة جميعًا، وليس من أنصار حماس وحسب.
يعد النضال غير المسلح ضد الاحتلال من الأساليب الفعالة سياسيًا، ولعل هذا ما يفسر خوف إسرائيل من هذا النوع من الحراك، فتراها تحرص على قمعه وتسعى إلى تحويله إلى مواجهات عنيفة (كما فعلت عام 2000 في الأسابيع الأولى من الانتفاضة الثانية، حين تم إطلاق مليون رصاصة على المتظاهرين السلميين). إن للنضال غير المسلح قدرة على تغيير السردية السائدة التي تتعلق بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي تحوّلَ النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وفقها إلى حرب يخوضها المحتل ضد الإرهاب، وبيان طبيعة هذا النضال بوصفه نضالاً مناهضًا للاستعمار ضد المحتلّ. فهذا الشكل من المقاومة عصيّ على الشيطنة (بخلاف صواريخ حماس، أو العمليات الانتحارية، أو الهجمات التي تستهدف المدنيين، والتي أثبتت عدم جدواها بالإضافة إلى إشكالها أخلاقيًا).
كما أن للمظاهرات السلمية للفلسطينيين فائدة أخرى إضافية. فهي تعمل على إحداث شرخ داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، في حين يستدعي العنف والكراهية ضرورة الاتفاق ووحدة الموقف، مما يؤدي إلى إضعاف فعالية ما يتقنه السياسيون الإسرائيليون من استدعاء المشاعر العنصرية ضد العرب بعد أي عملية للمقاومة المسلحة. ولعل ما يؤكد ذلك هو أن هذه المظاهرات السلمية الأخيرة قد دفعت منظمة بتسيلم الإسرائيلية لحقوق الإنسان إلى إطلاق حملة غير مسبوقة تدعو الجنود الإسرائيليين إلى رفض الأوامر العسكرية بإطلاق النار على المتظاهرين المدنيين.
**************
فإن كانت المظاهرات الشعبية الضخمة فعالة إلى هذا الحد فما الذي يفسر عدم اللجوء إليها كثيرًا طوال الفترة الماضية؟ سنستعرض هنا بعض الأسباب.
أولًا: للفلسطينيين تحت الاحتلال تجربة مع المقاومة غير المسلحة. فقد كانت الانتفاضة الأولى عام 1987، وعلى حد وصف إدوارد سعيد، "واحدة من أكبر الانتفاضات السلمية المناهضة للكولونيالية في التاريخ الحديث". ففي تلك الانتفاضة تحرك المجتمع بأكمله ونظّم نفسه ليس من أجل مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتحدي سيطرته وحسب، بل كذلك من أجل العمل على إنشاء بنى بديلة للحكم الذاتي. فقد نظم النساء والطلبة والمعلمون والعمال أنشطة مقاومة شعبية (إضرابات ومظاهرات ورفض لدفع الضرائب وغير ذلك)، مما أتاح لهم الوقوف في وجه التضييقات التي تفرضها إسرائيل على حياتهم. كما أدرك العمال أن الاقتصاد الإسرائيلي قد كان معتمداً بشكل كبير على العمالة الرخيصة للمهاجرين الفلسطينيين، وقد رأوا في ذلك وسيلة للضغط على الاحتلال الإسرائيلي. وفي ذلك الحين، عمد ناشطو السلام الإسرائيليين، على خطى النشطاء الفلسطينيين، إلى تنظيم حراك ضد نظام الاحتلال في دولتهم.
لكن القمع الوحشي الذي مارسته إسرائيل، وما اتبعته من سياسات الإغلاق وحظر التجول، إلى جانب تعطش القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية إلى الحصول على أي قطعة من الأرض لممارسة إدارتها عليها، كل ذلك اجتمع على الانتفاضة الأولى وأسهم في فشلها. لقد عملت منظمة التحرير الفلسطينية جاهدة من أجل فرض نفسها على تلك الانتفاضة الشعبية العفوية، وإنهاء حالة التنظيم العفوية التي اتسمت بها، واستغلالها من أجل تحقيق هدف المنظمة ضيق الأفق وهاجسها الأناني في تحصيل اعتراف دبلوماسي بها. ثم أتى اتفاق أوسلو في منتصف التسعينات من القرن الماضي، والذي اعترفت إسرائيل بموجبه بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني مقابل اعتراف الأخيرة بإسرائيل وتحييد القرارات الدولية التي تدعو لحماية حقوق الفلسطينيين. وقد أفرز هذا الاتفاق واقعًا جديدًا لإدارة ذاتية تعتمد على القمع، وتتعهد بضبط الأمن، وتعمل على التنسيق الأمني مع محتل لا يرضيه سوى هضم المزيد من الأرض.
لقد أغرت تلك الظروف الاحتلال الإسرائيلي بالتوسع والتغول في الأراضي الفلسطينية، بحيث لم يترك للفلسطينيين سوى أجزاء صغيرة متفرقة من الأرض بالكاد تكفيهم لكسب عيشهم. وفي ظل الضعف المعهود أصلًا للتضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، والذي ازداد ضعفًا بعد أن فرضت إسرائيل نفسها على المشهد الدولي باعتبارها صانعة للسلام، فقد الأمل الفلسطيني في تقرير المصير الزخم الذي يكفل له الدعم اللازم.
ثانيًا: أدى فشل الانتفاضة الأولى والتوقيع على اتفاق أوسلو إلى نشوء حالة من التوجس من الخيار السياسي والشك في جدواه. ففي حين كانت هنالك طبقة من قيادات السلطة تنتفع من الوضع القائم، كانت الغالبية العظمى من الفلسطينيين تحت نير الاحتلال يعانون من ظروف اجتماعية واقتصادية تزداد سوءًا. فقد كانت المستوطنات تتزايد من حولهم، وتم تضييق الخناق عليهم، وتقييد حريتهم في التنقل داخليًا وخارجيًا أو حظرها تمامًا. وقد خلقت تلك الظروف حالة من الإحباط، جعلت الفلسطينيين يرون أن المقاومة المسلحة والعمليات الانتحارية هي الطريقة الوحيدة التي قد يتسنى لهم من خلالها توجيه ضربة للاحتلال (والذي كان قد ترك المدن الكبيرة تحت تصرف السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية القمعية). وهكذا أخذت الفصائل الفلسطينية بالترويج لمثل هذا النوع من المقاومة المسلحة، وتزايد عدد الاستشهاديين من الفصائل المختلفة. وبالرغم من أن هذا التكتيك العنيف قد نسف المنظومة الإسرائيلية التي تسعى لفرض الأمن وتوسيع رقعة الاحتلال في آن واحد، إلا أنها قد أدت في نهاية المطاف إلى التأثير سلبًا على المجتمع الفلسطيني والإضرار بصورته عالميًا. ثم سنحت الفرصة لإسرائيل لممارسة إرهاب الدولة بشكل أكثر شراسة وذلك إبان الحرب على "الإرهاب الإسلامي" بعد تفجيرات 11 سبتمبر.
ثالثًا: حين أتيح للفلسطينيين إجراء انتخابات حرة عام 2006 فإنهم قاموا بالتصويت ضد الوقع القائم، ولصالح حماس، والتي كانت تمثل فصيل المعارضة الأكبر. لكن وعلى الرغم من تبني الفلسطينيين للانتخابات الديمقراطية كردّ على توسع الاحتلال وما أفرزه اتفاق أوسلو من استبداد وتهميش، إلا أن إسرائيل وحلفاءها الغربيين ضربوا بهذه الديمقراطية عرض الحائط، وقاطعوها. وجرى بالفعل اعتقال العديد من النواب المنتخبين ديمقراطيًا. وهكذا فإن الفلسطينيين، حتى وهم يحاولون تكذيب شكوكهم بالعملية السياسية وجدوى الانخراط بها، لم ينالوا سوى الرفض والقمع، وحكم عليهم بالبقاء تحت قيادة أوسلو الفاسدة.
أخيرًا: لقد أحدث اتفاق أوسلو انقسامًا في المجتمع الفلسطيني، وما انفكت إسرائيل تحاول استغلال هذه الانقسامات وإذكاءها كي تتحول إلى مواجهات عنيفة عبر التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية (باستهداف فصائل المقاومة الفلسطينية) وعبر سياسة عزل غزة وفصلها عن الضفة الغربية. وقد أدى تأجيج الخلافات الداخلية الفلسطينية إلى سيطرة حماس بالقوة على قطاع غزة 2007، وطردها الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة. وما يزال هذا الشرخ الفلسطيني يتسع حتى الآن. فحركة حماس تتشبث بخيار النضال المسلح من جهة، وهو خيار تخلت عنه حركة فتح عام 1988. بينما تتمسك هذه الأخيرة بدورها كممثل للفلسطينيين في بيروقراطية الأروقة الدبلوماسية والتنازلات التي لا تنتهي.
وتكاد تكون المصالحة مستحيلة الآن: فهي تمثل تهديدًا لما اكتسبه كلا الطرفين من سلطة ونفوذ. لذا فإن كلًا من فتح وحماس تعملان حاليًا على إسكات أي معارضة داخلية عبر نظام إدارة سلطوي، مع استمرار إخفاق كل من الحركتين في تحسين حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال. لقد استنفد كلا الطرفين ثقة المجتمع الفلسطيني بعد الكثير من الوعود الفارغة بالاستقلال والتحرير. وقد وصل الوضع إلى طريق مسدود، وبات لزامًا كما اتضح لدى بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب، إدراك أن العمل المسلح وكذا عملية السلام في إطار اتفاق أوسلو خياران آلا إلى الفشل.
تنشأ لدينا هنا ضرورة التفكير باستراتيجية جديدة للنضال- عبر اجتراح واقع سياسي ديمقراطي جديد يستفيد من الشرعية التي تمثلها الإرادة الفلسطينية الشعبية. ويمكن القول إن النضال الشعبي الناشئ عن التنظيم الذاتي يمثل الأمل الأكبر للوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. وليس أدل على فعالية هذا الخيار من المظاهرات الشعبية الواسعة التي اندلعت احتجاجًا على الإجراءات الإسرائيلية القمعية قرب المسجد الأقصى في القدس هذا العام، بالإضافة إلى المسيرات الحاشدة التي شهدها قطاع غزة مؤخرًا.
فهل يمكن أن نشهد في الذكرى السبعين للنكبة إحياءً للإرادة السياسية الشعبية وما تعد به من إمكانات؟ هل سيقف العالم يتفرج؟ وهل سيتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في المجتمعات الغربية لو توقفت الهجمات المسلحة؟ هل سيتمكن الناشطون المتضامنون مع القضية الفلسطينية من نقل رسالة إلى مجتمعاتهم بضرورة إنهاء المأساة التي يعيشها الفلسطينيون؟ إن الوجود الفلسطيني في فلسطين يعتمد على تقديم إجابات عن هذه الأسئلة.
(أكاديمي فلسطيني وأستاذ جامعة كنت)
(ترجمة: محمد زيدان)