لماذا كرهت الشتاء؟

19 نوفمبر 2017
+ الخط -
عندما تعزف أنشودة المطر على رائحة الأرض العطشى تراتيل الرحمة تتناثر الذكريات كأوراق الخريف على وجه الحياة، فترسم القطرات بعشق على أديم الأرض نقوشاً من بديع السماء كما الحناء تزين أصابع العروس.

هكذا يرى صديقي الشتاء، قصيدة ناصعة الملامح على رؤوس السنابل في أواخر الخريف تموج على أهازيج الريح لتزرع الفرح في قلوب عطشى. يرى الشتاء عندما كنا صغاراً نلتف حول المدفأة لتروي لنا الجدة على غمزات السراج قصص الغول وملوك الجان، يرى الشتاء كطفل من خلف نافذته بللها الغيث وتمايلت رؤوس الأشجار على لحن الريح وزمجرة الرعد.


يرى الشتاء ونحن نتراكض في طرق عودتنا للبيت لنبتل بدموع السماء في ظهيرة يوم ماطر فنسرع للدفء على مدفأة الحطب القديمة، يرى الشتاء كقصة غرام عتيقة أبطالها كل عشاق الأرض خطوا تحت المطر ترانيم العشق ودفء المودة وحرارة الوصال، يرى الشتاء عندما كنا صغاراً فنغني للمطر والحقول والموسم فتبهت الريح أصواتنا في أرجاء الوادي وتشتته، يرى الشتاء كفنان يحمل أصباغه المخملية في كل غروب شتوي ليغمز عذارى الغيم بقوس قزح فيرسم من كل مدخنة معلقة بين السماء والأرض قصصاً يسكنها الحب والوئام.

نعم يا صديقي فما زلت مثلك أرى الشتاء بذكريات لا تمحوها الأيام والسنين لتسكن الروح كما يسكنها الطفل الصغير فتثور عندما يزورها بنقراته الناعسة على شباك غرفتي كحبيب جاء تحت ظلام الليل خوف الملامة فذكريات الشتاء تسكننا حنيناً وأشواقاً.

لكن ألا ترى معي طفلة مهجرة في مخيمات اللجوء والقهر تلملم ما بقي من أنفاسها لتشعر بأشباه الدفء، ألا ترى صور الأطفال كدمى العرائس قد تجمدوا تحت نديف الثلوج تيبست أطرافهم وشخصت عيونهم نحو السماء مودعة أحلامهم الصغيرة البريئة، ألا ترى بيوت دمرها القصف والعدوان وأضحت لا يتمنى ساكنوها الغيث لأن سقوفها سماء الله، ألا ترى معي ذلك الشيخ الطاعن في السن في مخيمات اللجوء وهو يصارع خيمته ويمسك بأحبالها كطوق نجاة كمن يمسك بلجام خيول الجان المجنحة وقد لعب فيها الريح بجنون قوته.

يا صديقي طيب القلب لكل هؤلاء الضحايا يكون الشتاء كابوساً مخيفاً لا يرون فيه ريشة فنانك الملهم ولا يسمعون فيه همسات المحبين والعشاق ولا يصل لنخاع عظامهم دفء المدفأة وحرارة البيت، فلا يرون إلا قصف الرعد وهزيم الريح العاتية وتجمد الأطراف ورحيل الأحلام وأصباغ الوحل الذي لوث اللوحة بظله القاتم.. فعذراً يا صديقي لا تسألني لماذا كرهت الشتاء؟
E5AE4999-C745-4F6B-9540-70B4B8689F72
ضرار محمد عبد الله الحروب

أسير فلسطيني محرر وحاصل على الماجستير في مناهج التدريس وأعمل في مجال الإعلام.