17 مايو 2020
لماذا نحب عادل إمام؟
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان
ما الذي يجعل من عادل إمام، نجمًا متفردًا، وزعيما لجيله، موهبة عادل تؤهله أن يكون (من) أهم كوميديانات جيله، حضوره، وكاريزما الزعيم، يؤهلانه لنجاح سينمائي ومسرحي كبير، بجوار آخرين، ينافسهم، يسبقهم حينا، ويسبقونه، فما الذي يجعل من الجميع متنافسين على المركز الثاني، بعد عادل إمام، الذي ينفرد وحده بقمة هرم النجومية، طوال ما يقرب من أربعين عامًا، وهي أطول مدة حازها فنان عربي، وربما فنان على الإطلاق، وهو يتمتع بكمال العافية الجماهيرية؟ هل أفلام عادل إمام هي الفضلى؟ هل مسرحياته، مسلسلاته؟ الإجابة الأكيدة لا، موهبة أحمد زكي الممثل تتفوق بمراحل، فطرية سعيد صالح الكوميديان تتفوق، روايات صبحي على المسرح تتفوق، حضور سمير غانم الطاغي، يتفوق، محمود عبد العزيز، نور الشريف، يحيى الفخراني، كيف تفوق عادل إمام على الجميع؟ وربما يكون السؤال أوقع لو قلنا: هل تفوق عادل إمام حقًا على الجميع؟
لا أميل إلى القول إن عادل إمام مضحك أكثر منه ممثلا مهما، عادل كوميديان عظيم، ومضحك عظيم، وممثل متميز، ليس بنفس الدرجة، لكنه ممثل، كما أن الكوميديا ليست ترفا أو رفاهية، الكوميديا بدورها فنّ يتطلب مهارة، وجهدًا، وتركيزا، مع الموهبة، وبها، صبي العالمة في سيد درويش ممثل، الهلفوت ممثل، فهمي في "حتى لا يطير الدخان" ممثل، فارس الحريف ممثل، أدوار كثيرة منحتها أقدار المجتهد لعادل إمام كي يثبت أنه ممثل حقيقي.. لكن يظل السؤال: عادل ليس الكوميديان الأفضل وحده، وليس الممثل الأفضل، في جيله، كما أن موضوعاته ليست الأكثر قيمة، فكيف أصبح النجم الأفضل والأوحد والأغلى والأدوم؟
يزداد السؤال تعقدًا وتركيبا حين نتابع مسيرة الزعيم فنجد أنه الأكثر تجارية، الأكثر شعبوية، الأكثر ابتذالا، الأكثر "نحتًا" في جيله، من النجوم، وأن ما قدمه من "قيمة"، تحديدًا في السينما، استثناءات، يتقدم إليها بحذر شديد، ويجرب، فإذا اهتزت إيراداته، عاد فورًا، وبسرعة، وربما بذعر، إلى معادلة السوق، المضمونة، والاستثمار في أمية الناس السينمائية، بدلًا من تحمل مخاطرة الارتقاء التدريجي بذوقهم.
حين يقف أحمد زكي في ضد الحكومة، ويترافع عن فساد جيله، ويقول: أدركت قانون السبعينيات، ولعبت عليه، وربحت، أتذكر فورًا عادل إمام، أكثر من غيره، عادل هو النجم الذي أدرك قانون السبعينيات، الذي يحكم الوعي والذوق المصري إلى اليوم، ولعب عليه وكسب، الابن البار، فنيا، لعبد الحليم حافظ، ذلك الموهوب، الذكي، محدود الإمكانات، بمعايير عصره الطربية، الذي أدرك قانون الستينيات، ولعب عليه، وربح، قد يكون فؤاد المهندس هو مكتشفه، لكن حليم هو دليله، خطته وخريطته، نجم الوطن العربي، الأكثر لمعانًا وتوهجا، رغم مساحة صوته الضعيفة، ذكاءه الحاد، والمرعب، في توظيف ما لديه، قدرته على الاستفادة من السلطة والعلاقات الاجتماعية، والتربيطات مع الصحافة والإعلام والمتعهدين والمنتجين والموزعين، ورجال المال ورجال السياسة، والتقفيل المدروس على كل نجم جديد، يصلح كمنافس محتمل، وتبني المواهب الأقل، التي لا تقلق، ولا تصلح إلا للصف الثاني، كي تعلو، بفضل الأستاذ، وتظل مدينة للأستاذ، وتردد حكايات عن الأستاذ، عن فنه، وتواضعه، وتبنيه للأجيال الجديدة، ولا يعني وجودها ونجاحها واستمرارها سوى المزيد من التأكيد على أستاذية الأستاذ!
كان عادل، دوما، يمتلك هذه الشخصية التي تتمثل الحكمة الشعبية المصرية وتنفذها بحذافيرها، تظبيط الشغل أهم من الشغل، ذكاؤه الفني والاجتماعي هما رقم واحد في أسباب نجاحه، يليهما مغازلته الدائمة للمزاج والخيال الشعبي، فعادل هو الذكر الذي تحبه كل النساء، "أنا مفيش مره ما بتحبنيش"، جملته الحوارية الشهيرة في سلام يا صاحبي، هي جزء مهم من ولع الشباب، من أي جيل، بعادل إمام، ثقافتنا الجنسية البائسة تمنح الزعيم زخما، لم تمنحه لغيره، ربما لأن أحدًا لم يفهم، هذه الثقافة، ويمثلها ويتمثلها، مثله، جميع بطلات أفلام عادل إمام يعشقنه، ويقبلنه، ويضاجعنه، جميعهن يقبلن منه ما لا يقبلن من غيره، مشاهد السرير الساخنة بسبب وبدون، التحرش اللفظي بسبب وبدون، التحرش بالعين، الأصابع التي تعبث وتقرص بسبب وبدون، عادل هنا لا يغازل خيال المشاهد المحروم فحسب، بل يشارك المشاهد في نظرته الدونية للمرأة بوصفها وعاء جنسيا، من ناحية، وفي نظرته الأدون والأغور للفنانة التي تعمل بهذا المجال، محل الاستهجان الاجتماعي، وتستحق ما يحصل لها، (وفيها)، طالما وافقت، أما الرجل، الذكر، فلا يعيبه شيء، هنا يخبره عادل إمام بأنني "أنا الرجل" الذي يمثلك ويفعل كل ما تتمنى فعله، "شفت عادل إمام عمل إيه في فلانة، فشخها، قطعها، شفته وهو بيشد البلوزة، شفت قميص النوم، السوتيان بان، طرف اللباس، شفت.. أنا شفت.. أنت شفت؟
هكذا كنا نقول أو نسمع في إعدادي وثانوي، وهكذا كانت عايدة رياض تتحرش بشريف منير في سينما مظلمة، في أحد مشاهد "الكيت كات"، وتشير لعادل إمام وهو يداعب يسرا، التي تحاول الإفلات منه، مثلما يحاول شريف الإفلات منها، وتقول: هو الرجل عمل حاجة؟! لتحرك الصنم بجانبها كي يفعل مثلما يفعل "بطل المولد"، فهو لم يفعل ما يستحق اللوم بالنسبة لامرأة تريد!
لا يمثلنا عادل إمام في السرير فقط، بل في كل تفاصيل الحياة، الشاب الكحيان، أبو دم خفيف، أبو بنطلون جينز مقيح، وهو البنطلون الذي لم يكن يغيره عادل إمام في أغلب أفلامه، وما زال يحتفظ به في دولابه، إلى اليوم، بوصفه إحدى تمائم حظه، الشاب الذي يضرب البطل السمج الذي يتمنى المشاهد ضربه، يلكمه، ويصفعه، ويسخر منه، وينتصر عليه، ولو كان يفوقه حجما خمس مرات، عادل إمام يشبهنا مع سبق التمثيل والتمثل، وحين نشاهده نشاهدنا، لا كما نحن، بل كما نحب أن نكون، ولذلك نحبه.
ولذلك أيضا، كان من الطبيعي أن يكون دور صبي العالمة في فيلم سيد درويش الذي وافق عليه قبل النجومية هو الدور الذي لا يحبه عادل إمام ويتمنى حذفه من تاريخه، ذلك لأنه الدور الذي لا نراه فيه كما تعودنا، كان من الطبيعي ألا تعجبه تجربته مع خان، التي افتقدت إلى الشعبوية، وهي تعالج البطل الشعبي، كان من الطبيعي أن يرفض دور الشيخ حسني في الكيت كات، كان من الطبيعي أن يرفض دخول ابنته إلى عالم التمثيل، ثم لا يتحرج أبدًا من الإعلان عن ذلك، ولا يعنيه أن تغضب زميلاته فنفوذه أكبر من أي ممثلة، وجمهوره سوف يحتفي بالحمش "أبو أحمدات" الذي يفعل ولا يفعل به.... رجل يا عم!
ذكي، ومتحرش وشعبوي ويشبه أحلامنا عن أنفسنا؟ هل هذا هو كل ما يملكه عادل إمام؟ وإذا كان ذلك كذلك فلماذا أحبه كثير من المثقفين، ولماذا أنصفه كثير من النقاد، وكيف يمكننا أن نفسر أفلامه الجادة مع وحيد حامد، وكيف يمكننا أن نحكم على مواقفه الشجاعة في مواجهة الإرهاب، وزيارته لأسيوط في ذروة نشاط المتطرفين، وصورته الحلوة مع فرج فودة، رحمه الله، ألا يتعارض ذلك كله مع الصورة الشعبوية الانتهازية السبعيناتية السابقة؟
هنا تبرز أهم ميزات عادل إمام، وأخطرها، مركز اهتمام عادل هو الشباك، النجاح هو الشباك، الاستمرار هو الشباك، الفلوس طبعا من الشباك، ولذلك فهو يشتغل كل شيء طالما يراه من الشباك، أو يرى الشباك منه، نصيحته لمحمود حميدة كانت: ياض يا محمود/ نعم يا أستاذ/ اشتغل كلللللل حاجة... وذلك ردًا على نصيحة أحدهم لمحمود حميدة بأن ينتقي أدواره لأنه ولد نجمًا، ويجب أن يحافظ على ذلك، عادل لا تعنيه القيمة.. الرسالة الفنية.. النقاد، إنما تعنيه الفلوس والشباك، وطالما الناس انبسطت، ودخلت، ودفعت، فلا شيء يهم، وهو ما جعله يقبل بكل شيء يحقق له ذلك، سواء في مرحلة الانتشار وهذا مفهوم، أو في مرحلة بناء النجومية، وهذا مبرر، أو في مرحلة النجومية الكبيرة وهذا غريب، أو في مرحلة الزعامة وما بعدها وما بعد الأفلام المتميزة وما بعد تحوله إلى براند وقبوله بسيناريوهات مخجلة مثل بوبوس، وهذا مؤسف، ومحزن، .. لكنه عادل إمام.
هذا الاستعداد الانتهازي الكامل والدائم لقبول أي شيء "يجيب فلوس"، جعل من الكم عند عادل إمام مسألة لافتة، في عقدي السبعينيات والثمانينيات، كان عادل إمام يشتغل في العام الواحد أربعة أفلام وأحيانًا خمسة وستة، وأحيانًا أكثر، وجميعها بطولات مطلقة، العام الذي مثل فيه حب في الزنزانة والغول والحريف، عام 1983، هو نفسه العام الذي وافق فيه على تمثيل خمسة باب، وولا من شاف ولا من دري، والمتسول!.. أفلام هامة، وأفلام متوسطة، وأفلام ضعيفة، ومقاولات، ودون المستوى، كله ماشي!
هذا الكم يصنع النوع.. قدرة عادل إمام على مخاطبة جميع الأذواق.. على مخاصمة جمهور السينما الحقيقي ومصالحته.. على مخاصمة النقاد ومصالحتهم.. الاستقواء على المنتجين بإيرادات أفلامه التعبانة، النجاح الاستثنائي في كل ذلك، صنع "براند" اسمه عادل إمام، لو ظهر على الشاشة وقال "ريان يا فجل" سوف يدخل الجمهور، ويقول هذا فيلم تافه، ويضحك، ويقول هذا فيلم حقيقي ويضحك، ويقول عادل إمام يكرر نفسه ويضحك، ويقول عادل إمام يعيد نفس الحركات ولم يعد يضحكنا ويضحك، ويقرر تجاهل عادل إمام، ويتابع أفلامه بمزاجه أو رغمًا عنه، يتابعه مع زملائه الذين لا يشعرون بخروجة العيد إلا إذا دخلوا فيلم عادل إمام، يتابعه مع أفراد عائلته الذين لا يشعرون بإجازة العيد إلا أمام المشاغبين أو شاهد ما شافش حاجة، أو أي فيلم هايف لعادل إمام يضحكهم ويسليهم.. عادل إمام موجود، ووجوده أكبر من قدرة أي أحد على تجاهله، ولذلك نحب عادل إمام، نحبه بمزاجنا أو رغمًا عنا فهو موجود بحضوره ومفروض بمجهوده وإصراره ودأبه، ولا يخلو مشواره من مصادفات فنية رفيعة المستوى استخدمه فيها مؤلفون مثل وحيد حامد، وغيره، لإيصال رسالتهم ووضعها في فاترينة تشع ضوءا ملونا وتجذب أعين الناظرين.
علاقة عادل إمام بالسلطة مسألة واضحة لا تحتاج إلى شرح، تأييده لمبارك، ثم لجمال مبارك في الصحافة والبرامج التلفزيونية، بل وعلى خشبة المسرح بعد أحد عروض بودي غارد، ثم تأييده لمرسي وكلامه عن ثقافته، ثم سخريته من مرسي بعد عزله، وتأييده للسيسي، كل ذلك فرض على عادل بعض الاستحقاقات.. سفرية أسيوط، حين احتاجوه هناك، فيلم مثل الإرهابي، بالتعاون مع الأمن، الذي وفر معلومات ورواية حقيقية لأحد الإرهابيين العائدين، أصحاب المراجعات، بل ومقابلة بين لينين الرملي رحمه الله، وبطل القصة، وتفاصيلها، مع إضافات لينين وعادل، كل ذلك لزوم استمرار الشغل، والاحتماء بالسلطة التي تملك مفاتيح كل شيء، لم يكن عادل مؤيدًا لأحد أو معارضًا لأحد، في تقديري، لم يكن متابعًا ولا مهتما ولا فاهمًا، إلا بالقطر الذي يخدمه، ويدعم مشروعه، كان فنانا يريد أن يستمر فيدفع "الإتاوة الفنية" المطلوبة، المقربون من عادل، وهذه معلومات، يعلمون جيدا أنه لم يكن ضد ثورة يناير، لكنه كان ضد توقف مسرحه ولو يوما واحدا، أحب الثورة وشبابها، وكان يتمنى لقاء أحمد دومة، ولم يكن لديه مانع من حكم الإخوان، أو غيرهم، كان على استعداد لتأييد أي أحد ما دامت الحياة ماشية والبلد ماشية والسياحة ماشية والمسرح شغال، يأتيه بالتقدير المادي والمعنوي في الإيرادات وفي "هاااااااا" التي يسمعها من جمهور المسرح حين يلقي بأحد إفيهاته فتملأ قلبه سعادة وتشعره بأن الزمن لم يأت عليه بعد، وهو أكثر ما يخيف عادل إمام كما أخبر مفيد فوزي في حواره الشهير معه على هامش تصويره لفيلم المنسي..
في الأخير عادل إمام فنان ناجح، نجح بالقوانين المفروضة على الجميع، ولو ظهر في بلد أفضل ومناخ أفضل وشروط أفضل لظل هو الأفضل، فمثله لا يستطيع أن يفشل، وأصارحك، دون مواربة، بأنني، رغم كل شيء، أحب عادل إمام، ولا أكف عن مشاهدته، كأنه مصر صلاح جاهين: (بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء/ وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء).. حاجة تنقط!