تعرّض السبسي للنقد الشديد من قبل مخالفيه إلى آخر يوم من حياته. وكانت آخر الانتقادات بسبب عدم توقيعه على تعديلات قانون الانتخابات التي أقرّها البرلمان في شهر يونيو/حزيران الماضي. لكن الجميع تقريباً شعروا بالحزن لفقدانه، وترحموا عليه، وأقروا بأنه كان رجل دولة، عمل على إنقاذ تونس، وكان محباً لها ومدافعاً عن سيادتها واستقلال قرارها. اجتهد وأخطأ، لكن يقرّ الكثيرون بأنّه كان سياسياً من الدرجة الأولى بحكم خبرته الطويلة التي تمتد إلى سبعين عاماً، تقلّب خلالها في مناصب عديدة داخل مؤسسات الدولة.
تشعر أطراف عديدة بفقدان السبسي، أولها أسرته وبالأخص نجله حافظ. ولا شك في أنّ موت الأب في هذا الظرف بالذات، سيؤثر كثيراً على الابن، ويفقده السند المادي والمعنوي الذي كان يتمتع به من قبل. والمستقبل وحده هو الكفيل بالإجابة عن السؤال التالي: هل سينجح حافظ قائد السبسي بأن يواصل تجربته السياسية بعد غياب والده؟
من جهة أخرى، تلقّى حزب "نداء تونس" بموت السبسي، ضربة قوية قد تؤثّر في مستقبله كحزب، خصوصاً أنّ أوضاعه الداخلية في تراجع متواصل بسبب الأزمة الهيكلية التي يعاني منها منذ سنتين على الأقل. فالسبسي الأب هو مؤسس الحزب، وكان محركه الرئيسي، ورمزه المحوري، وكانت النية متجهة إلى آخر لحظة نحو التمسّك بترشيحه لعهدة ثانية على الرغم من تقدّم سنه. لهذا، بغيابه يفقد الحزب داعمه وراعيه الأساسي.
بدوره، شرح زعيم حركة "النهضة" راشد الغنوشي، أهمية السبسي في أول تعليق له على أثر وفاة الرجل، بقوله إنه "جنّب البلاد الصدام بين حزب نداء تونس وحركة النهضة، عندما لخص حكمته في القول إن الخطين المتوازيين يمكن أن يلتقيا". وأضاف الغنوشي أنّ السبسي بذلك "جنب تونس إراقة الدماء وحفظ استقلالها من التأثيرات الخارجية".
كان السبسي الشخصية السياسية ذات الوزن الكبير التي تحمّلت مسؤوليتها، ووضعت يدها في يد رئيس حركة "النهضة"، وقرّرت الدخول في مغامرة التحالف معه، وبناء ائتلاف حكومي على الرغم من معارضة الكثيرين. وقبِل السبسي بأن يتصدّع حزبه بسبب ذلك، ولم يتردّد في التمسّك بهذا التحالف داخلياً وخارجياً، كما لم يتردّد في الدفاع عن "النهضة" أمام رؤساء الدول الكبرى، وهو ما ساعد كثيراً على القبول بها كشريك في إدارة السلطة في دولة مثل تونس، تعتبر صديقة للغرب ومؤسسها هو الحبيب بورقيبة.
كان السبسي يتمتّع بعلاقات دولية واسعة، ويحظى بثقة أغلب رؤساء العالم، وهو ما دعم مكانة تونس الخارجية في مرحلة كانت فيها الثورة في أشدّ الحاجة إلى بناء الثقة من جديد، ومدّ الجسور مع الجميع. لم يورط البلاد في سياسة المحاور على الرغم من أنه طلب منه ذلك، وقدمت له إغراءات من أجل تغيير سياساته الداخلية والإقليمية، إلا أنّه تمسّك بقناعاته المبدئية، وجنّب بذلك البلاد الوقوع في كل ما من شأنه أن يمسّ من استقرارها ووحدتها. يمكن القول إنّ السبسي ترك فراغاً في هذا الشأن سيكون من الصعب ملؤه بسرعة على الصعيد الخارجي، نظراً لمكانته وشبكة العلاقات التي كان يتمتّع بها.
قبل السبسي بقواعد اللعبة الديمقراطية، وتحمّل النقد الشديد من قبل الجميع، خصوصاً من قبل وسائل الإعلام التي هاجمته وسخرت منه، وأحياناً أساءت إليه، وفي أحيان أخرى أثارت غضبه ورد فعله بشكل انفعالي، لكنه أقنع نفسه بملازمة الصبر، والتزم بعدم معاداة حرية الصحافة والتعبير، وكان يرى فيها المكسب الرئيسي للثورة، وشرطا أساسيا من شروط الديمقراطية.
ذكر نجل الرئيس الراحل أنّ والده أوصى بعدم الإقصاء، وهي فكرة رئيسية دافع عنها في حياته، خصوصاً بعد الثورة، وهي تلخّص التحدي الرئيسي الذي تواجهه الديمقراطية الناشئة في تونس، إذ يوجد أطراف محلية وأخرى خارجية، تسعى في سبيل تكريس الإقصاء وإشاعة التباغض وخطاب الكراهية بين التونسيين، لأنها تدرك بأنّ ذلك من شأنه أن يفتت الوحدة الوطنية، ويمكّن من اختراق الساحة التونسية، ويعبّد الطريق أمام عودة الاستبداد الذي جربه التونسيون من قبل، وكانت كلفته باهظة ومؤلمة.
مارس السبسي السياسة بروح أبوية، وذلك بحكم السنّ وسعة التجربة، ولم يكن راضياً عن النظام السياسي الذي ضبطه دستور 2014، لكنه حاول تجنّب مخالفة الدستور، ورفض أن يدعو إلى تعديله إيماناً منه بأنّه يستمدّ شرعيته كرئيس للجمهورية منه. صحيح أنّه اتهم في آخر خطوة سياسية بانتهاك الدستور عندما رفض التوقيع على تعديل القانون الانتخابي، لكنه حاول أن يبحث عن سبب قانوني ما. المؤكد أنّ إدارة الشأن العام في تونس قد تغيّرت بشكل جوهري، وأصبح الحاكم مضطراً إلى الاحتكام للدستور والقانون.
يكفي التوقّف عند انتقال السلطة بشكل سلس وخلال أربع ساعات فقط، حتى يدرك الجميع أنّ تونس حصلت فيها ثورة، وأنّ هذه الثورة غيّرت الكثيرين بمن فيهم الراحل الباجي قائد السبسي نفسه.