21 يونيو 2020
لماريا قحطان "نسمع تحية"
في صف خامس ابتدائي سألني والدي عن اسم معلمتي، جاوبته فعلق "اهاا" بنت أخت فلان. كانت ابنة أخ أحد الفنانين..
في اليوم التالي كنت متحمسة جداً لأسألها عن عمها الفنان.. دخلت الصف وبدأت تكتب البسملة في وسط السبورة الخضراء بطباشير طبية وفي يمين السبورة تكتب اليوم والتاريخ، كانت مرتبة جداً ومنظمة وروحها جميلة تماماً كخط النسخ الذي تطرز به سبورتنا كل يوم.
قمت من كرسيي وذهبت إليها: أستاذة تعرفي الفنان...؟ كانت قد التفتت إلي، لكن ما أن سمعت اسم الرجل حتى أشاحت وجهها وطأطأت رأسها وقالت: نعم هو عمي، وعقبت بسرعة: لكننا تبرينا منه!
شعرت بحزن عظيم يومها لم أعلم سببه بالتحديد، هل لأني ذكرت أمراً أخجل معلمتي بشكل ما أم لأنها خجلت من أمر ما كان يجب أن تخجل منه.
لماذا يخجل الناس من الفن سألت معلمة أخرى، فأجابت: ما يغني إلا قليل الأصل! وعندما حاول والدي شراء أول بيانو حقيقي لي رفضت أمي وقالت: "سعم انحنا مزاينة"! كنت أمقت هذا الاستعلاء الذي يُحرم الحياة علينا لمجرد أن حظك كان أوفر في النسب بينما حقيقة هو حظ عاثر، يمنعك من الاستمتاع بتفاصيل الحياة الجميلة. أنت قبيلي أنت بنت قبيلي احنا قبايل هذا كل ما يمكنك سماعه لو كنت تحب العزف أو الغناء، آنذاك.
أول مرة جربت العزف على العود كنت في بيت جيراننا الهاشميين، كانوا بمثابة العائلة وكنت أقضي عندهم أكثر الأوقات. يومها كان ابنهم قد تخرج من الثانوية بمعدل جيد فأهداه والده عوداً و"أتاري". لعبنا بـ"الأتاري" وعزفنا على العود وغنينا وسجلنا أصواتنا وعندما عدت للبيت سألت أمي: بيت فلان "مزاينة"؟ فنظرت إلي وسألتني: "ليش"؟! قلت لها إنهم اشتروا عوداً.. فضحكت وفهمت مغزى سؤالي وأجابت: هم سادة مش "مزاينة" بس السادة يجوا خفيفين عقول!
وهكذا فقد كبرت محتارة ما بين "المزين" قليل الأصل والسيد قليل العقل! ومع ذلك فقد قضيت وقتاً من طفولتي بينهما، كنت أذهب بيت جيراننا قليلي الأصل لألعب بالأورغ والغيتار والأكورديون، أو بيت قليلي العقل لألعب بالعود، كان هذا في بداية تسعينيات القرن الماضي.
مرت الأيام ولاحظت التغيير الذي طرأ على أمي فقد سمحت لي بشراء بيانو وتخلت عن فكرة الطبقية في الفن، على الأقل في البيت. لكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى تحول تحريم الفن من العيب إلى الحرام..
مع موجة العائدين من السعودية في حرب الخليج وبعد حرب الانفصال في 1994 اختلفت الأمور عما كانت في السابق، تحولت مصطلحات عيب وما يصلحش إلى حرام وما يجوز، وهكذا فإن من عفا عنه نسبه سابقاً لم تعف عنه الموجة الدينية.
الغناء حرام، المعازف حرام ورجس من عمل الشيطان، كانت المعلمة تكرر على مسامعنا كل صباح، فيروز فاجرة تغني القدس لنا وهي مسيحية، الرويشد يلحن اسم الله، المداح أخزاه الله وأماته على ضلالة ليحشره هكذا يوم القيامة، صباح حولها الله لمسخ، أصالة كانت مشلولة وعندما شفاها الله ذهبت للغناء بدلاً من الستر والشكر، إلخ إلخ من الأمثلة التي كانت تسعى لتشويه معاني الفن والجمال في عقولنا..
ومع ذلك فإن تطور التكنلوجيا أحدث نقلة كبيرة في فكر الناس ووعيهم، أتذكر جيداً كيف تابعنا سوبر ستار لأول مرة وعشنا مع المتسابقين لحظة بلحظة وتعاقبت البرامج التي تشجع الأصوات الحقيقية فعرفتنا على رويدا عطية وملحم زين وحلا الترك ومحمد عساف وغيرهم.
ما زال بعضهم يرى أن هذه البرامج غزو فكري تستهدف الشباب، وبعضهم يراها مجرد برامج تجارية لكن أياً كانت نظرتنا لها فكثير منها قد ساعد على نشر الوعي الفني بشكل كبير وجعل الكثير يتجه للمشاركة بغض النظر عن نسبه وأصله وفصله وحتى عن خلفيته الدينية. كلنا تابعنا عمار العزكي بحب وشغف كباراً وصغاراً سياسيين ومثقفين أطباء وباعة متجولين، الجميع بدون استثناء شجع عمار وتمنى له الفوز.
حالياً يعرض برنامج "ذا فويس كيدز" على قناة إم بي سي، ولأول مرة يشارك أطفال من اليمن. دخلت ماريا وهي تجر قدميها نحو المسرح وما أن وقفت وبدأت في الغناء حتى بهرت كل الحكام والجمهور والمشاهدين.
وكعادة اليمني الطيب كانت ماريا، طفلة جميلة موهوبة لكنها أكبر من عمرها بكثير. دعا بعض الناس في وسائل التواصل أن لا تقلد الكبار، أن تكون بعفويتها متناسين كم الدمار الهائل الذي وقع على قلوبنا فعجل بأعمارنا. ماريا نبتت من أرض مسحوقة وخرجت من بين الرماد والدمار، زهرة بيضاء شدتنا جميعاً إليها، لم تكتف بذلك الظهور الأسطوري بل أصرت أن تأسر أعماقنا بصوتها وها نحن اليوم جميعاً ننظر إليها كرمز للخلاص.
لاحقاً، علمت أن معلمتي أصبحت تفتخر بعمها، ونحن نردد أغانيه في أجمل مناسباتنا حتى هذه اللحظة. وتذكرت رد والدي لي يومها، بأنك عندما تخالفين الناس سيتبرأون منك، سيقفون في طريقك، سيتهمونك بالجنون بالكفر بالعصيان ولن يلجمهم إلا نجاحك، وقتها فقط ستجدهم جميعاً حولك يصفقون لك ويحرصون على ذكر علاقتهم بك.
و"نسمع تحية ".. لماريا قحطان.
في اليوم التالي كنت متحمسة جداً لأسألها عن عمها الفنان.. دخلت الصف وبدأت تكتب البسملة في وسط السبورة الخضراء بطباشير طبية وفي يمين السبورة تكتب اليوم والتاريخ، كانت مرتبة جداً ومنظمة وروحها جميلة تماماً كخط النسخ الذي تطرز به سبورتنا كل يوم.
قمت من كرسيي وذهبت إليها: أستاذة تعرفي الفنان...؟ كانت قد التفتت إلي، لكن ما أن سمعت اسم الرجل حتى أشاحت وجهها وطأطأت رأسها وقالت: نعم هو عمي، وعقبت بسرعة: لكننا تبرينا منه!
شعرت بحزن عظيم يومها لم أعلم سببه بالتحديد، هل لأني ذكرت أمراً أخجل معلمتي بشكل ما أم لأنها خجلت من أمر ما كان يجب أن تخجل منه.
لماذا يخجل الناس من الفن سألت معلمة أخرى، فأجابت: ما يغني إلا قليل الأصل! وعندما حاول والدي شراء أول بيانو حقيقي لي رفضت أمي وقالت: "سعم انحنا مزاينة"! كنت أمقت هذا الاستعلاء الذي يُحرم الحياة علينا لمجرد أن حظك كان أوفر في النسب بينما حقيقة هو حظ عاثر، يمنعك من الاستمتاع بتفاصيل الحياة الجميلة. أنت قبيلي أنت بنت قبيلي احنا قبايل هذا كل ما يمكنك سماعه لو كنت تحب العزف أو الغناء، آنذاك.
أول مرة جربت العزف على العود كنت في بيت جيراننا الهاشميين، كانوا بمثابة العائلة وكنت أقضي عندهم أكثر الأوقات. يومها كان ابنهم قد تخرج من الثانوية بمعدل جيد فأهداه والده عوداً و"أتاري". لعبنا بـ"الأتاري" وعزفنا على العود وغنينا وسجلنا أصواتنا وعندما عدت للبيت سألت أمي: بيت فلان "مزاينة"؟ فنظرت إلي وسألتني: "ليش"؟! قلت لها إنهم اشتروا عوداً.. فضحكت وفهمت مغزى سؤالي وأجابت: هم سادة مش "مزاينة" بس السادة يجوا خفيفين عقول!
وهكذا فقد كبرت محتارة ما بين "المزين" قليل الأصل والسيد قليل العقل! ومع ذلك فقد قضيت وقتاً من طفولتي بينهما، كنت أذهب بيت جيراننا قليلي الأصل لألعب بالأورغ والغيتار والأكورديون، أو بيت قليلي العقل لألعب بالعود، كان هذا في بداية تسعينيات القرن الماضي.
مرت الأيام ولاحظت التغيير الذي طرأ على أمي فقد سمحت لي بشراء بيانو وتخلت عن فكرة الطبقية في الفن، على الأقل في البيت. لكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى تحول تحريم الفن من العيب إلى الحرام..
مع موجة العائدين من السعودية في حرب الخليج وبعد حرب الانفصال في 1994 اختلفت الأمور عما كانت في السابق، تحولت مصطلحات عيب وما يصلحش إلى حرام وما يجوز، وهكذا فإن من عفا عنه نسبه سابقاً لم تعف عنه الموجة الدينية.
الغناء حرام، المعازف حرام ورجس من عمل الشيطان، كانت المعلمة تكرر على مسامعنا كل صباح، فيروز فاجرة تغني القدس لنا وهي مسيحية، الرويشد يلحن اسم الله، المداح أخزاه الله وأماته على ضلالة ليحشره هكذا يوم القيامة، صباح حولها الله لمسخ، أصالة كانت مشلولة وعندما شفاها الله ذهبت للغناء بدلاً من الستر والشكر، إلخ إلخ من الأمثلة التي كانت تسعى لتشويه معاني الفن والجمال في عقولنا..
ومع ذلك فإن تطور التكنلوجيا أحدث نقلة كبيرة في فكر الناس ووعيهم، أتذكر جيداً كيف تابعنا سوبر ستار لأول مرة وعشنا مع المتسابقين لحظة بلحظة وتعاقبت البرامج التي تشجع الأصوات الحقيقية فعرفتنا على رويدا عطية وملحم زين وحلا الترك ومحمد عساف وغيرهم.
ما زال بعضهم يرى أن هذه البرامج غزو فكري تستهدف الشباب، وبعضهم يراها مجرد برامج تجارية لكن أياً كانت نظرتنا لها فكثير منها قد ساعد على نشر الوعي الفني بشكل كبير وجعل الكثير يتجه للمشاركة بغض النظر عن نسبه وأصله وفصله وحتى عن خلفيته الدينية. كلنا تابعنا عمار العزكي بحب وشغف كباراً وصغاراً سياسيين ومثقفين أطباء وباعة متجولين، الجميع بدون استثناء شجع عمار وتمنى له الفوز.
حالياً يعرض برنامج "ذا فويس كيدز" على قناة إم بي سي، ولأول مرة يشارك أطفال من اليمن. دخلت ماريا وهي تجر قدميها نحو المسرح وما أن وقفت وبدأت في الغناء حتى بهرت كل الحكام والجمهور والمشاهدين.
وكعادة اليمني الطيب كانت ماريا، طفلة جميلة موهوبة لكنها أكبر من عمرها بكثير. دعا بعض الناس في وسائل التواصل أن لا تقلد الكبار، أن تكون بعفويتها متناسين كم الدمار الهائل الذي وقع على قلوبنا فعجل بأعمارنا. ماريا نبتت من أرض مسحوقة وخرجت من بين الرماد والدمار، زهرة بيضاء شدتنا جميعاً إليها، لم تكتف بذلك الظهور الأسطوري بل أصرت أن تأسر أعماقنا بصوتها وها نحن اليوم جميعاً ننظر إليها كرمز للخلاص.
لاحقاً، علمت أن معلمتي أصبحت تفتخر بعمها، ونحن نردد أغانيه في أجمل مناسباتنا حتى هذه اللحظة. وتذكرت رد والدي لي يومها، بأنك عندما تخالفين الناس سيتبرأون منك، سيقفون في طريقك، سيتهمونك بالجنون بالكفر بالعصيان ولن يلجمهم إلا نجاحك، وقتها فقط ستجدهم جميعاً حولك يصفقون لك ويحرصون على ذكر علاقتهم بك.
و"نسمع تحية ".. لماريا قحطان.