02 نوفمبر 2024
لمن تُفتح أبواب قرطاج؟
شهدت تونس، في الأسبوعين الماضيين، جدلاً واسعاً وانقساماً كبيراً حول مسألة طارئة، تتعلق بدعوة فنان فرنسي من أصل تونسي، لتقديم عرض كوميدي له في مهرجان قرطاج، وهو ميشال بوجناح، المعروف لدى الأوساط التونسية بمواقفه الصهيونية المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي. وقد تركّز موقف المدافعين عن دعوته على أنه موقفٌ يتعلق بوطن الفنان تونس، وأن مواقفه السياسية من إسرائيل تلزمه وحده، وأن إلغاء دعوته سوف يلحق الضرّر بصورة تونس وبموسم السياحة، وأن الثقافة تقبل تعدد الآراء والأذواق، وأن منع عرض هذا الفنان سوف يمثل هديةً لإسرائيل كي تصوّر "نفسها" ملاذ اليهود غير المقبولين في بعض البلدان. فيما تركّزت آراء المعارضين، ومنهم الاتحاد التونسي للشغل، على أن من غير المقبول دعوة فنانٍ يُجاهر بتأييده الصهيونية وجيش الاحتلال، في بلدٍ يلتزم بمواثيق مقاطعة إسرائيل، وسبق أن تعرّض (وهو تونس) لاعتداءٍ إسرائيلي على حمام الشط، وأن هذا الحدث هو بمثابة تطبيعٍ صريح مع رمز صهيوني، ولا علاقة لهذا الموقف بيهودية الرجل (اليهودية ليست غريبة عن النسيج الاجتماعي التونسي)، فالاعتراض على صهيونيته حصراً، وليس على أي شيء آخر.
يجدر بالتنويه هنا أن إسرائيل لا تستقبل فنانين معارضين للصهيونية، أو مؤيدين للحق الفلسطيني، لأي جنسيةٍ انتموا، حتى لو كانوا يهوداً، وتحتفل بالفنانين المؤيدين للصهيونية، كالحال مع الممثلين الأميركيين، بربارة ستراند وآرنولد شوارزنيجر وسيلفستر ستالون وباميلا أندرسون وكيم كاردشيان والمطربة الكولومبية من أصل لبناني شاكيرا والمطربة الأميركية مادونا. وفي مقابل هؤلاء، هناك أدباء عالميون (بعضهم راحلون) تمقتهم إسرائيل لمواقفهم الأخلاقية ضد احتلالها، وتغلق الأبواب في وجوههم، أمثال النيجيري وول سونيكا والبرتغالي جوزيه ساراماغو والتركي أورهان باموق والألماني غونتر غراس والفرنسي جان ماري غوستاف لوكيزيو والألمانية هيرتا ميلر والجنوب إفريقي جون كويتزي والأميركية توني ميرسون والبيروفي ماريو فارغاس يوسا (انقلب إلى ناقد لإسرائيل، بعد أن كان صديقاً لها بعد زيارته تل أبيب في 2005) والبريطاني هارولد بنتر.
بل قد "تتسامح" إسرائيل مع سياسيٍّ يقف ضدها، أما الفنانون والأدباء المعارضون لعنصريتها، فترى فيهم خطراً داهماً عليها، ولا تتهاون في صدّهم، وحتى تشويه سمعتهم. ويدرك الصهاينة
جيداً الأهمية الحاسمة للحقل الثقافي والفني، حيث يسهم الأدباء والفنانون في تشكيل وجدان (ووعي) ملايين البشر من مختلف الأعمار والمستويات الثقافية، بطريقةٍ مؤثرةٍ وغير مباشرة.
يتساءل المرء هنا إن كان الممثل بوجناح يحترم حقاً مشاعر ملايين التونسيين، حين يجاهر بوقوفه مع جيش الاحتلال، وإن كان هذا الفنان يحترم حق الشعوب والأفراد في الحياة والحرية، وهو ينكر على شعب فلسطين حقه في الكرامة والاستقلال، بعد أكثر من قرن من الكفاح في سبيل هذه الحقوق الأساسية، وإن كان هذا الفنان قادراً، بعد هذه المواقف التي يتخذها، على مخاطبة وجدان أحد، أو إثارة بهجتهم.
من حق إدارة مهرجان قرطاج أن تبرمج نشاطاتها كما تشاء وتدعو من تشاء، وتلغي برمجة من تريد (لضعف الميزانية على ما صرح مدير المهرجان المختار الرصاع). لكن، من الصعب قبول منطق أن مواقف بوجناح تلزمه وحده، فهي سوف تنعكس ضمنياً على المهرجان، بمجرد مشاركة هذا الفنان. وقد يزداد الأمر سوءاً لو أن الممثل المدعو عمد، في أحد عروضه، ولو من طرف خفي، لترويج إسرائيل وجيشها ومستوطنيها، وهجاء شعب فلسطين، ومن يؤيد قضية هذا الشعب. أو لو اكتفى بالإيماء لهذه المواقف، في كلمةٍ تسبق العرض، أو تأتي في ختامه. هل ستلزمه هذه المواقف حينها وحده، وتنعكس عليه وحده؟.
تتجنّب إدارات المهرجانات الفنية، في برمجتها عروضها، ما قد يثير الجدل أو الانقسام السياسي الحاد أو الحساسية القومية، وما يمسّ حقوق الإنسان والشعوب، وما يندرج في الرؤى العنصرية، فللمهرجانات الفنية طابعها الإنساني الكوني، فكيف تصبح دعوة فنان متصهين أمراً عادياً، بل مرغوباً يتساوق مع تعدّدية الأذواق؟ ماذا لو كان هناك فنان أو فنانة يجاهر أو تجاهر بالعداء للسود، أو لليهود أو المسلمين أو المسيحيين، هل سوف تتم دعوته (أو دعوتها) لتعزيز تعدّدية الأذواق؟.
من الجميل والواجب أن تتم استعادة فنانٍ إلى وطنه وإلى جذوره بعد انقطاعه عنه. ومن
الجميل أيضاً إدراك العائد، حين يعود إلى الإجماعات الوطنية (أو ما يرتقي إلى مرتبتها) لشعبه، وإدراك الحساسية الأخلاقية العالية تجاه قضية شعب فلسطين الذي يتعرّض لمحرقة صهيونية منذ نحو سبعة عقود. علماً أن المرء لا يحتاج أن يكون عربياً (كما كتب مرة الشاعر عباس بيضون) أو فناناً، أو أن ينتمي لدينٍ ما، كي يتخذ موقفاً ضميرياً من احتلالٍ عنصري، يقوم على السطو المسلح على الأرض، وعلى العقوبات الجماعية بحق أصحاب الأرض، وعلى التمييز الديني ضدهم. يكفي أن يكون المرء إنساناً طبيعياً يتمتع بالحد الأخلاقي الأدنى كي يقف مع شعبٍ مُهدد بإبادة سياسية ووطنية.
في هذا الضوء، فإن الترحيب بفنان صهيوني في مهرجان فني عربي هو بمثابة اختراق لمبادئ قارّة، وتحفيزٌ للفنانين الصهاينة لأن يتمسّكوا بما هم عليه، فلا يراجعوا أنفسهم قيد أنملة، فلسوف تأتيهم الدعوات تباعاً، كما أتت لبوجناح.. وعلى نطاق أوسع، فلسوف يواصل الصهاينة من جانبهم رفض التطبيع!. أجل سوف يواصلون هم، تكراراً، رفض التطبيع مع الفلسطينيين، ومع عموم العرب في المشرق والمغرب العربي، فقد دأبوا على رفض مبادرة السلام العربية التي تتيح لهم التطبيع مع 22 دولة عربية، في مقابل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ودأبوا على المجاهرة بعزمهم على الاحتفاظ بالأرض المسلوبة.. على أن تُفتح أبواب العواصم العربية لهم في الوقت نفسه.
يُدرك المرء تراجع مكانة القضية الفلسطينية، نتيجة ظروفٍ متضافرة. ومن حق من يشاء الانشغال أو العزوف عن الاهتمام بما يشاء من قضايا العالم، على أن يبقى منسجماً مع ذاته، مع مبادئه وتاريخه في الوقوف ضد التمييز والعنصرية والعُسف والاحتلال، ومع حرية الشعوب والمساواة بين البشر، وحفظ كرامتهم الوطنية والإنسانية في كل مكان، بما يتعدّى الموقف من قضيةٍ بعينها.
يجدر بالتنويه هنا أن إسرائيل لا تستقبل فنانين معارضين للصهيونية، أو مؤيدين للحق الفلسطيني، لأي جنسيةٍ انتموا، حتى لو كانوا يهوداً، وتحتفل بالفنانين المؤيدين للصهيونية، كالحال مع الممثلين الأميركيين، بربارة ستراند وآرنولد شوارزنيجر وسيلفستر ستالون وباميلا أندرسون وكيم كاردشيان والمطربة الكولومبية من أصل لبناني شاكيرا والمطربة الأميركية مادونا. وفي مقابل هؤلاء، هناك أدباء عالميون (بعضهم راحلون) تمقتهم إسرائيل لمواقفهم الأخلاقية ضد احتلالها، وتغلق الأبواب في وجوههم، أمثال النيجيري وول سونيكا والبرتغالي جوزيه ساراماغو والتركي أورهان باموق والألماني غونتر غراس والفرنسي جان ماري غوستاف لوكيزيو والألمانية هيرتا ميلر والجنوب إفريقي جون كويتزي والأميركية توني ميرسون والبيروفي ماريو فارغاس يوسا (انقلب إلى ناقد لإسرائيل، بعد أن كان صديقاً لها بعد زيارته تل أبيب في 2005) والبريطاني هارولد بنتر.
بل قد "تتسامح" إسرائيل مع سياسيٍّ يقف ضدها، أما الفنانون والأدباء المعارضون لعنصريتها، فترى فيهم خطراً داهماً عليها، ولا تتهاون في صدّهم، وحتى تشويه سمعتهم. ويدرك الصهاينة
يتساءل المرء هنا إن كان الممثل بوجناح يحترم حقاً مشاعر ملايين التونسيين، حين يجاهر بوقوفه مع جيش الاحتلال، وإن كان هذا الفنان يحترم حق الشعوب والأفراد في الحياة والحرية، وهو ينكر على شعب فلسطين حقه في الكرامة والاستقلال، بعد أكثر من قرن من الكفاح في سبيل هذه الحقوق الأساسية، وإن كان هذا الفنان قادراً، بعد هذه المواقف التي يتخذها، على مخاطبة وجدان أحد، أو إثارة بهجتهم.
من حق إدارة مهرجان قرطاج أن تبرمج نشاطاتها كما تشاء وتدعو من تشاء، وتلغي برمجة من تريد (لضعف الميزانية على ما صرح مدير المهرجان المختار الرصاع). لكن، من الصعب قبول منطق أن مواقف بوجناح تلزمه وحده، فهي سوف تنعكس ضمنياً على المهرجان، بمجرد مشاركة هذا الفنان. وقد يزداد الأمر سوءاً لو أن الممثل المدعو عمد، في أحد عروضه، ولو من طرف خفي، لترويج إسرائيل وجيشها ومستوطنيها، وهجاء شعب فلسطين، ومن يؤيد قضية هذا الشعب. أو لو اكتفى بالإيماء لهذه المواقف، في كلمةٍ تسبق العرض، أو تأتي في ختامه. هل ستلزمه هذه المواقف حينها وحده، وتنعكس عليه وحده؟.
تتجنّب إدارات المهرجانات الفنية، في برمجتها عروضها، ما قد يثير الجدل أو الانقسام السياسي الحاد أو الحساسية القومية، وما يمسّ حقوق الإنسان والشعوب، وما يندرج في الرؤى العنصرية، فللمهرجانات الفنية طابعها الإنساني الكوني، فكيف تصبح دعوة فنان متصهين أمراً عادياً، بل مرغوباً يتساوق مع تعدّدية الأذواق؟ ماذا لو كان هناك فنان أو فنانة يجاهر أو تجاهر بالعداء للسود، أو لليهود أو المسلمين أو المسيحيين، هل سوف تتم دعوته (أو دعوتها) لتعزيز تعدّدية الأذواق؟.
من الجميل والواجب أن تتم استعادة فنانٍ إلى وطنه وإلى جذوره بعد انقطاعه عنه. ومن
في هذا الضوء، فإن الترحيب بفنان صهيوني في مهرجان فني عربي هو بمثابة اختراق لمبادئ قارّة، وتحفيزٌ للفنانين الصهاينة لأن يتمسّكوا بما هم عليه، فلا يراجعوا أنفسهم قيد أنملة، فلسوف تأتيهم الدعوات تباعاً، كما أتت لبوجناح.. وعلى نطاق أوسع، فلسوف يواصل الصهاينة من جانبهم رفض التطبيع!. أجل سوف يواصلون هم، تكراراً، رفض التطبيع مع الفلسطينيين، ومع عموم العرب في المشرق والمغرب العربي، فقد دأبوا على رفض مبادرة السلام العربية التي تتيح لهم التطبيع مع 22 دولة عربية، في مقابل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، ودأبوا على المجاهرة بعزمهم على الاحتفاظ بالأرض المسلوبة.. على أن تُفتح أبواب العواصم العربية لهم في الوقت نفسه.
يُدرك المرء تراجع مكانة القضية الفلسطينية، نتيجة ظروفٍ متضافرة. ومن حق من يشاء الانشغال أو العزوف عن الاهتمام بما يشاء من قضايا العالم، على أن يبقى منسجماً مع ذاته، مع مبادئه وتاريخه في الوقوف ضد التمييز والعنصرية والعُسف والاحتلال، ومع حرية الشعوب والمساواة بين البشر، وحفظ كرامتهم الوطنية والإنسانية في كل مكان، بما يتعدّى الموقف من قضيةٍ بعينها.