09 أكتوبر 2024
لم يكن شيراك صديقاً للعرب
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
رحل الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، تاركاً وراءه صورة "صديق العرب" الذي وقف بجانب الفلسطينيين، ورفض مشاركة بلاده في العُدوان الأميركي على العراق، ودعم أمن لبنان واستقراره، وباقي دول المنطقة. ولكن السياسة التي انتهجها تلميذ شارل ديغول، طوال مسيرته السياسية، تحكي قصة رجل أطلق عليه الصحفيان الفرنسيان، إريك آيشمان وكريستوف بولتانسكي، لقب "شيراك العرب"؛ وهو عنوان كتاب لهما يبرز أوجه التشابه بينه وبين "لورانس العرب"، العميل البريطاني الذي صاحب العرب وخدعهم، فمجّدوه.
بالفعل، بعيدا عن خطاباته، وشجاره مع جنود إسرائيليين لدى زيارته القدس، ودموعه عند وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، تُظهر سياسات شيراك أنه لم يكن صديقا للفلسطينيين، بقدر ما كان حليفا لإسرائيل. وتشير الصحفية إلودي فارج إلى تصريح له، نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، يوم 15 أغسطس/آب 1986، أنه لن يُقبل على ما قد يضر بإسرائيل، ولا يدعم وجود دولة فلسطينية مستقلة، ويرى أن حل القضية الفلسطينية يمر عبر التفاوض مع الأردن. كان هذا رأيه لمّا كان مرشحا للرئاسة، ثم عندما تولاها سنة 1995، اضطرّ إلى أن يتبنّى موقف فرنسا الرسمي، المتقيد بالقانون الدولي، والداعي إلى اعتماد حلّ الدولتين على أساس حدود عام 1967، والحل العادل لقضية اللاجئين، وإنهاء الاحتلال والمستوطنات، والحفاظ على وضع القدس على ما هو، إلى أن يُحل في مفاوضات الوضع النهائي.
عندما أدرك شيراك أهمية القضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية، واقتنع بأن الأخيرة تُغلّب
العاطفة على العقل، أكسب سياساته غطاءً عاطفيا صرفا، فغضب وتشاجر وصافح وعانق بحرارة أكبر رموز القضية، ياسر عرفات، الذي وصفه بـ "الإرهابي" من قبل. ولكن "بطل" القضية الفلسطينية لم يبادر قط إلى إعلان أية خطة أو عملية سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، بل مارس ضغوطا شديدة على ياسر عرفات لقبول "كرم" تنازلات إسرائيل.
وبعد وفاة عرفات، وضع شيراك مسافة بينه وبين الفلسطينيين، واحتفى بأرييل شارون في قصر الإليزيه، فلم ينطق بكلمة استنكار واحدة إزاء جدار الفصل العنصري، وعرقلة إسرائيل عملية السلام الوهمي واضطهاد الفلسطينيين. بل شدد على أمن إسرائيل، ولزم بعدها الصمت حيال قصف غزة في عدوان "أمطار الصيف"، وغيره من جرائم الكيان الصهيوني. هذا هو الرجل الذي نجح في ترسيخ صورة "صديق الفلسطينيين"، مثلما أفلح في تسويق فكرة وقوفه بجانب العراقيين، هو الذي ساهم في الدفع بالعراق نحو الجحيم. كان رئيس وزراء فرنسا حين التقى صدام حسين، نائب الرئيس العراقي آنذاك، سنة 1974، ثم رأى في الأخير الرجل المناسب لإخراج فرنسا من صدمة النفط الأولى. وفي وقت وجيز، نجح في استمالته، فمنح العراق الشركات الفرنسية امتيازات للتنقيب عن النفط العراقي واستغلاله، بالإضافة إلى 23% من موارد العراق النفطية في مقابل أن تساعد فرنسا العراق في بناء مفاعل نووي، وكانت تلك صفقة كبيرة لم تفوتها باريس. وازداد حجم المعاملات بين البلدين، إلى أن أصبح العراق يشتري ثلث صادرات فرنسا من السلاح، ما شجّعه على خوض حرب مكلفة مع إيران. ابتهج أصدقاء شيراك، وألفوا كتابا يمجّدون فيه زبونهم العراقي بعنوان: "صدام، ديغول العراق" (1988). ولا يخفى أنه عنوان يتضمن نوعا من التهكم، خصوصا أنه نُشر بعد ثماني سنوات من حربٍ مدمرة، تركت العراق مثقلا بالديون، وهو ما أدخله في خلافات مع السعودية والكويت، انتهت بغزوه الكويت.
عشية الحرب الدولية على العراق، كانت أزيد من 65 شركة فرنسية وأكثر من عشرة آلاف تقني فرنسي يعملون في بلاد الرافدين التي أصبحت ثاني مزود لفرنسا بالنفط، وأول عميل تجاري لها في الشرق الأوسط. احتفظت فرنسا بجلّ امتيازاتها بعد حرب تحرير الكويت، على الرغم من مشاركتها فيها، بل استفادت أيضا من الحصار الإجرامي على الشعب العراقي، إذ انفرد البنك الفرنسي BNP Paribas بتسيير برنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي بلغت قيمته 64 مليار دولار، واشتهر بفضيحة الرشاوى التي دُفعت بالملايين لنظام صدّام حسين.
دافع شيراك بشراسة عن مصالح بلاده، حين أدرك أن الرئيس الأميركي، جورج بوش، وصقور إدارته، مصمّمون على اقتلاع موارد العراق وسوقه من بين أيدي فرنسا. خسر معركته
الدبلوماسية من أجل منع الحرب، وإبقاء صدّام حسين في الحكم، لكنه نجح في تسويق صورة رجل الأخلاق والمبادئ؛ وهي صورة قد تهزّها اليوم مزاعم الرئيس السابق لاستخبارات بريطانيا (MI6)، ريتشارد ديرلوف، عندما يتهم شيراك بأنه تلقى من صدّام نحو 6.1 ملايين دولار من أجل معارضة غزو العراق. ولا تصدم مثل هذه الاتهامات من يعرف فساد الرئيس الراحل الذي حكم عليه القضاء الفرنسي عام 2011 بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ، لضلوعه في "اختلاس أموال عامة" و"استغلال السلطة" في قضايا "الوظائف الوهمية" و"وظائف مجاملة" عندما كان عمدة باريس (1977 – 1995).
أما حقيقة صداقاته مع العرب، فلا أحد يعرفها أفضل من الشعب الجزائري الذي كان أول من تعرّف إليه، وهو ضابط برتبة ملازم حاربهم بين 1956-1957، للإبقاء على الجزائر مستعمرة فرنسية. شيراك الذي بادر بالاعتذار لليهود، رفض رفضا قاطعا الاعتذار للجزائر عن جرائم استعمار بلاده 132 سنة. وكان هذا الاعتذار شرطا فرضته الحكومة الجزائرية لقبول معاهدة الصداقة التي كان يسعى جاهدا إلى توقيعها مع بلد المليون شهيد. وفي هذا الرفض تكمن حقيقة السياسي الذي يعرفه الفرنسيون بـ"بونابرت الحربائي". وقد ووري شيراك الثرى بالقرب من نابليون بونابرت، لأنه كان أحسن من طبّق مقولة الأخير "قلب رجل الدولة يجب أن يكون في رأسه".
عندما أدرك شيراك أهمية القضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية، واقتنع بأن الأخيرة تُغلّب
وبعد وفاة عرفات، وضع شيراك مسافة بينه وبين الفلسطينيين، واحتفى بأرييل شارون في قصر الإليزيه، فلم ينطق بكلمة استنكار واحدة إزاء جدار الفصل العنصري، وعرقلة إسرائيل عملية السلام الوهمي واضطهاد الفلسطينيين. بل شدد على أمن إسرائيل، ولزم بعدها الصمت حيال قصف غزة في عدوان "أمطار الصيف"، وغيره من جرائم الكيان الصهيوني. هذا هو الرجل الذي نجح في ترسيخ صورة "صديق الفلسطينيين"، مثلما أفلح في تسويق فكرة وقوفه بجانب العراقيين، هو الذي ساهم في الدفع بالعراق نحو الجحيم. كان رئيس وزراء فرنسا حين التقى صدام حسين، نائب الرئيس العراقي آنذاك، سنة 1974، ثم رأى في الأخير الرجل المناسب لإخراج فرنسا من صدمة النفط الأولى. وفي وقت وجيز، نجح في استمالته، فمنح العراق الشركات الفرنسية امتيازات للتنقيب عن النفط العراقي واستغلاله، بالإضافة إلى 23% من موارد العراق النفطية في مقابل أن تساعد فرنسا العراق في بناء مفاعل نووي، وكانت تلك صفقة كبيرة لم تفوتها باريس. وازداد حجم المعاملات بين البلدين، إلى أن أصبح العراق يشتري ثلث صادرات فرنسا من السلاح، ما شجّعه على خوض حرب مكلفة مع إيران. ابتهج أصدقاء شيراك، وألفوا كتابا يمجّدون فيه زبونهم العراقي بعنوان: "صدام، ديغول العراق" (1988). ولا يخفى أنه عنوان يتضمن نوعا من التهكم، خصوصا أنه نُشر بعد ثماني سنوات من حربٍ مدمرة، تركت العراق مثقلا بالديون، وهو ما أدخله في خلافات مع السعودية والكويت، انتهت بغزوه الكويت.
عشية الحرب الدولية على العراق، كانت أزيد من 65 شركة فرنسية وأكثر من عشرة آلاف تقني فرنسي يعملون في بلاد الرافدين التي أصبحت ثاني مزود لفرنسا بالنفط، وأول عميل تجاري لها في الشرق الأوسط. احتفظت فرنسا بجلّ امتيازاتها بعد حرب تحرير الكويت، على الرغم من مشاركتها فيها، بل استفادت أيضا من الحصار الإجرامي على الشعب العراقي، إذ انفرد البنك الفرنسي BNP Paribas بتسيير برنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي بلغت قيمته 64 مليار دولار، واشتهر بفضيحة الرشاوى التي دُفعت بالملايين لنظام صدّام حسين.
دافع شيراك بشراسة عن مصالح بلاده، حين أدرك أن الرئيس الأميركي، جورج بوش، وصقور إدارته، مصمّمون على اقتلاع موارد العراق وسوقه من بين أيدي فرنسا. خسر معركته
أما حقيقة صداقاته مع العرب، فلا أحد يعرفها أفضل من الشعب الجزائري الذي كان أول من تعرّف إليه، وهو ضابط برتبة ملازم حاربهم بين 1956-1957، للإبقاء على الجزائر مستعمرة فرنسية. شيراك الذي بادر بالاعتذار لليهود، رفض رفضا قاطعا الاعتذار للجزائر عن جرائم استعمار بلاده 132 سنة. وكان هذا الاعتذار شرطا فرضته الحكومة الجزائرية لقبول معاهدة الصداقة التي كان يسعى جاهدا إلى توقيعها مع بلد المليون شهيد. وفي هذا الرفض تكمن حقيقة السياسي الذي يعرفه الفرنسيون بـ"بونابرت الحربائي". وقد ووري شيراك الثرى بالقرب من نابليون بونابرت، لأنه كان أحسن من طبّق مقولة الأخير "قلب رجل الدولة يجب أن يكون في رأسه".
دلالات
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري
مقالات أخرى
19 سبتمبر 2024
27 اغسطس 2024
01 اغسطس 2024