13 نوفمبر 2024
لنصرة الثقافة في فلسطين
كنت أحد المشاركين في المشاورات التي جرت في عمّـان أخيرًا بشأن "مشروع الاحتفاء بمئويات روّاد الثقافة والتنوير في فلسطين"، والذي اعتبره الزميل معن البياري بحقّ بادرةً كبرى، واضحة الأهداف، محدّدة الآليات، بعد أن أطّره ضمن واحدة من المرات النادرة التي تُقدم فيها وزارة الثقافة الفلسطينية على خطوة مستدامة وإستراتيجية من هذا القبيل ("هذه البادرة الثقافية الفلسطينية"، العربي الجديد، 5/2/2017). وخرجت من ذلك اللقاء بعدة انطباعات حول هذا المشروع وإحالاته.
يفيد أول انطباع بوجود نيّات واعدة لدى وزارة الثقافة الفلسطينية بأن تكون سندًا لهذه الثقافة، من دون أن تقف عند سدودٍ بيروقراطيةٍ أو حدود جغرافية مُصطنعة بين كل أجزاء الشعب الفلسطيني، بما قد يؤهلها لأن تكون بيتًا لهذا الكل، إذا لم تعترضها معيقات ذاتية.
يتعلّق ثاني انطباع بتوقيت إطلاق المشروع عام 2017، حيث أشير، في البيان الخاص به، إلى أنه يصادف ذكرى مرور 100 عام على "وعد بلفور"، ومرور 50 عامًا على احتلال الضفة الغربية وغزة، و30 عامًا على الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وفي الوسع أن نضيف أنه يصادف ذكرى مرور 120 عامًا على المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، و100 عام على الحرب العالمية الأولى، و70 عامًا على قرار تقسيم فلسطين... والقائمة تطول.
وكل هذه محطات تحيل إلى ماهية قضية فلسطين ومآلها. وإذ تستلزم فعلًا ثقافيًا، فهو إعادة تأكيد روايتها التاريخية التي تعرّضت، ولا تزال، إلى طمس مُمنهج، يبدأ بالبُعد الثقافي ولا يتوقف عنده. فمنذ الأيام الأولى لهذه القضية، مع بدايات الاستيطان الصهيوني في فلسطين التاريخية في نهاية القرن الـ19، "ثبّتت" الرواية المضادّة التي صيغت لترسيخ هذا الطمس، العربي والفلسطيني كإنسان تنميطيّ بلا معالم، يقوم ويحيا ويوجد في حيّزٍ شبه همجيّ، بما يسوّغ اعتباره خطرًا أمنيًا أو إستراتيجيًا على ذلك الاستيطان واحتمالات توسعته في ما سميت "أرض الميعاد".
ولئن كانت مداليل هذا العام تقدّم تفسيرًا لتوقيت إطلاق المشروع، فليس فيها بالحتم ما يغمط حق روّاد الثقافة والتنوير في فلسطين الذين مرّت مئوياتهم قبله، وكانوا من طلائع النهضة العربية في مضاميرها المتعدّدة، كما شدّد مرارًا وزير الثقافة إيهاب بسيسو.
ثالث انطباع يأتي من وعي بدا أنه مُستبطنٌ لدى معظم المشاركين، أن الثقافة حقل معرفي لا يتسمّر عند النص الأدبيّ على أهميته الفائقة، بل يتجاوزه إلى ما هو أبعد مدىً ورؤية وأفقًا. وانعكس هذا الوعي في التوافق على قائمة أسماء الروّاد الذين سيتم الاحتفاء بهم على مدار الأعوام الـ15 المقبلة.
وسيصيب هذا الوعي الهدف المرغوب منه أكثر فأكثر، من طريق الربط والضبط بين ذاكرة الماضي والخراب الراهن سياسيًا، من أجل إعادة قضية فلسطين إلى المربّع الثقافي والأخلاقي. فثقافيًا كانت المدن الفلسطينية في بداية الانتداب البريطاني تحتضن نحو ربع السكان الفلسطينيين. وقد زادت هذه النسبة إلى أكثر من ثلث السكان عند انتهاء فترة الانتداب. وبالمقايسة مع أقطار أخرى في الشرق الأوسط، كانت نسبة التمدين في أوساط المجتمع الفلسطيني مرتفعةً بشكل خاص. ومن الناحية التكنولوجية، كانت فلسطين تعدّ من الأقطار المُتقدمة في المنطقة (وهذا تدل عليه الإحصاءات). وشهدت الحركة العامة للمدن الفلسطينية الكبرى (يافا وحيفا والقدس مثلًا) تطورًا ليس للتجارة والبنوك والصناعات الخفيفة والمواصلات فحسب، وإنما أيضًا شهدت تطورًا ملحوظًا للحياة الثقافية والاجتماعية المتنوعة. وهو ما تمثل عليه مجموعة كبيرة من المؤسسات الثقافية الفاعلة، ومن بينها المسارح والفرَق الفنية الأخرى.
وعندما نضع هذه "المعطيات الجافّة" أمامنا، نستطيع أن نستبين أسباب عداء الحركة الصهيونية للمدينة الفلسطينية بحمولتها الثقافية، وكيف تمت ترجمته إلى تعبيرات نافذة في "حرب التقسيم"، فالمدن الفلسطينية احتلت وجرى "تطهيرها" قبل 15 مايو/ أيار 1948، التاريخ الرسمي لاندلاع حرب فلسطين. والجماهير الفلسطينية المدينية طردت في أبريل/ نيسان 1948. وعند انتهاء المعارك، بقي في جميع المدن الفلسطينية أقل من نسبة 5% مما كان فيها من السكان.