25 ابريل 2019
لن تنفع الأدعية القديمة!
بينما كنت أتصفح في وريقات كتبتها سابقاً كانت أشبه بالمذكرات المتناثرة، جمعتها في ملف ورقي تهالك مع مرور أكثر من خمس سنوات، متنقلاً معي بين الأنبار وبغداد وسامراء ثم السليمانية، فعاد معي إلى الرمادي ليبقى في أحد رفوف غرفتي الذي كنت قد خصصته للكتب التي قرأتها في السنوات الماضية، حيث لم تكن لي مكتبة خاصة، ومن بين الأوراق صفحتان كتبت فيهما تفاصيل لأحداث شهدتها في تلك الفترة، مقتبساً من كتاب كما يليق بطيرٍ طائش "دعهم يأخذون الغد".
جعلت من حافةِ اليأس شرفةً للنجاة، مُحِزاً وريدَ الصمت ورافعاً سقف العتب، فقد تبدّى سواد الكحل حليباً أبيض وتبيّن النورُ عمًى مُطبقاً مكشوفاً حنظل وجهه، وأدار القمر ظلاله للياسمين وشبك يديه خلف ظهره ومدَّ خرطومه للنار وسكينهُ لرقبة الصمت. كان ينعشني الشتاء وهو مختف في عيون الصغار، وتنعشني النظرات وتلك الجديلة المتطايرة فوق حِصان الجُمل، وحين يمر قطيع الخيانة من خلف الجبال البعيدة لا يعود للجغرافيا مساحيق تغطي بها وجه الحقيقة العاري.
هل نقر بالهزيمة؟! .. نعترف بالجناية كي تتكسر العصي مجتمعةً ونحمل خريطة اليأس ونرمي بها بحيرة الفناء، فلن تنفع حينها الدعوات ولن تستجيب السماء للمتشحين بالليل، ولا الثكالى أو اليائسين، لكنها تسقط دفعة واحدة في يدِ مقامرٍ جريء.
دعهم يأخذون الغد، فلم يعد يروقنا أن نبلغ نشوة التملك، ولم يعد بوسعنا أن نواصل الصعود إلى الجلجلة وقد أدمانا الشوك والصوان.. دعنا نعترف أن لا فائدة في مصاحبة اللئام وأن لا سبيل للتقرب من الضباع والأفاعي.
لنكن واقعيين ونحن نطرد البسمة عن شفاه الكسل، ولنكن أكثر حكمة من جيرة امرئ القيس للروم، وأكثر غربة من سجن أبي فراس الحمداني وأوسعُ زهواً من المتنبي.. لنكن أكثر فردانية من أبي ذر وأقرب من نجوم عمر الخيّام لمرصده الفلكي.. لنكن خياليين، مراوغين ونحن نُخاطب الورد عن مستقبل العطور في قطعان النتانة وحشود الرثاثة، وفي أرض العفن المتجذر في استعارة الأمر.
لا يفوتني أن أعدل فكرتك عن عبقريتي، فقد خذلت الريح وهي تحصل على جائزة الحياة من منجم الصحراء، خنت البنفسج حين مدحت الغيوم في حديقة السواد، فها أنا ذا أعلمك مجدداً أني لم أكن براً بنفسي حين جعلت النهر يتدفق في جوف الجفاف، كنت حينها أمارس طيبة النعاس وخشخشة أوراق العنب المتساقطة في نار الكراهية، كنت أخادع نفسي وأنا أثق بالواقع.. لذا لم يعد لي عملٌ نافع سوى ذلك.
وعند الرحيل أو العودة لن تجد مستقبلين بانتظارك، لن تجد بساطاً أحمر أو أكفاً تتهافت عليك بالسلام، ولا وجوهاً تبتسم لتقبيل محياك، لن تجد ما ترتاح به وإليه من وعثاء السفر والشعور بالغربة اللفظية في ديار النأي، ولن تجد حتى مقعداً بانتظارك أو عصا تتكئ عليها، أما أنا فلست سوى عابر.. لن أترك أثراً على المكان حتى لو أقمت فيه كل عمري وأفنيت جلّ عقلي وعروق جسدي، ولن يمنحي المكان صفرته وحرارته حتى لو ولدت فيه وشربت ماءه، وصنعت خيطاً من هدب الشمس أو ضياءً من ذلك النور الخافت.
لن يقبلني المكان ولا حتى القاطنون من دونك، لن تتشبث بي الطرقات التي مشيتها ولا الشرفات التي جلست فيها، ولا الجبال التي رسمتها في دفتري المدرسي عندما كنت في الابتدائية، ولا المدينة ولا حتى القرية التي أحببتها، ولا جدران الخواء المتكسر بين يدي الجفاء والقطيعة والخشونة.. لستُ سوى هباء متناثر في كؤوس المساء وفناجين قهوة الصباح وأمسيات الوشاة وأصحاب القلاقل والغيبة.
قل لي حقاً إن الحواجز التي تمنعك من الطيران حقيقية، وإن الإقصاء الذي تشهده طيورك أمرٌ واقعي لكنك في كل مرة كنت تخذلني وتسحبني إلى بيت الحلم وحديقة الخيال وبستان الوهم.
ما عليَّ بعد أن أعيد عليك الدرس فسوف تخونك الكلمات كما خانت كليم الله، ولن تنفعك الأدعية القديمة بعد أن مات صاحباها في كمين واحد، ومكيدة منظمة، فقد كانت تصلح على ما تقبلُ منها للاستعمال مرة واحدة على ما يبدو.
عد لرشدك الآن إن توقفت الخطوات والدروب، وإن سكنت الطرق والشعاب وهجعت الأرض.. واصل طريقك وأدم سيرك فأنت عائد إلى مكانك الذي لم يزل بعد، إلى مكانك الذي فيه يموت العشرات كل يوم في سبيلك.. عُد وأرشق الأفق ببعض الزهور فأنت آليت أن تظل أبيض طاهرا لا تدنسك الوساوس، ولا تخالط مشاعرك المصالح وإن مرت عليها الـ 16 عاماً بقيت فيها محاطاً وحيداً بالعزلة لم تذق طعماً إلا وفيه رائحة الدم، وتتطاير في أرجائه أشلاءٌ من أغصان البرتقال والنخل البرحي.
عُد لتسقي الفرات وتضمد جراحات دجلة، وتمسح دموع أطفالك وشبابك الذين كلما هجرتهم يرحل منهم الكثير إلى اللا عودة.. عُد يا وطني المصلوب فوق كتفي وترجل فقد تعبنا ولم نصل للشاطيء بعد، ولم ترافق خطواتنا أغنيات النصر.. عُد أو دلّني إلى أي طريق هي وجهتك الثانية؟
جعلت من حافةِ اليأس شرفةً للنجاة، مُحِزاً وريدَ الصمت ورافعاً سقف العتب، فقد تبدّى سواد الكحل حليباً أبيض وتبيّن النورُ عمًى مُطبقاً مكشوفاً حنظل وجهه، وأدار القمر ظلاله للياسمين وشبك يديه خلف ظهره ومدَّ خرطومه للنار وسكينهُ لرقبة الصمت. كان ينعشني الشتاء وهو مختف في عيون الصغار، وتنعشني النظرات وتلك الجديلة المتطايرة فوق حِصان الجُمل، وحين يمر قطيع الخيانة من خلف الجبال البعيدة لا يعود للجغرافيا مساحيق تغطي بها وجه الحقيقة العاري.
هل نقر بالهزيمة؟! .. نعترف بالجناية كي تتكسر العصي مجتمعةً ونحمل خريطة اليأس ونرمي بها بحيرة الفناء، فلن تنفع حينها الدعوات ولن تستجيب السماء للمتشحين بالليل، ولا الثكالى أو اليائسين، لكنها تسقط دفعة واحدة في يدِ مقامرٍ جريء.
دعهم يأخذون الغد، فلم يعد يروقنا أن نبلغ نشوة التملك، ولم يعد بوسعنا أن نواصل الصعود إلى الجلجلة وقد أدمانا الشوك والصوان.. دعنا نعترف أن لا فائدة في مصاحبة اللئام وأن لا سبيل للتقرب من الضباع والأفاعي.
لنكن واقعيين ونحن نطرد البسمة عن شفاه الكسل، ولنكن أكثر حكمة من جيرة امرئ القيس للروم، وأكثر غربة من سجن أبي فراس الحمداني وأوسعُ زهواً من المتنبي.. لنكن أكثر فردانية من أبي ذر وأقرب من نجوم عمر الخيّام لمرصده الفلكي.. لنكن خياليين، مراوغين ونحن نُخاطب الورد عن مستقبل العطور في قطعان النتانة وحشود الرثاثة، وفي أرض العفن المتجذر في استعارة الأمر.
لا يفوتني أن أعدل فكرتك عن عبقريتي، فقد خذلت الريح وهي تحصل على جائزة الحياة من منجم الصحراء، خنت البنفسج حين مدحت الغيوم في حديقة السواد، فها أنا ذا أعلمك مجدداً أني لم أكن براً بنفسي حين جعلت النهر يتدفق في جوف الجفاف، كنت حينها أمارس طيبة النعاس وخشخشة أوراق العنب المتساقطة في نار الكراهية، كنت أخادع نفسي وأنا أثق بالواقع.. لذا لم يعد لي عملٌ نافع سوى ذلك.
وعند الرحيل أو العودة لن تجد مستقبلين بانتظارك، لن تجد بساطاً أحمر أو أكفاً تتهافت عليك بالسلام، ولا وجوهاً تبتسم لتقبيل محياك، لن تجد ما ترتاح به وإليه من وعثاء السفر والشعور بالغربة اللفظية في ديار النأي، ولن تجد حتى مقعداً بانتظارك أو عصا تتكئ عليها، أما أنا فلست سوى عابر.. لن أترك أثراً على المكان حتى لو أقمت فيه كل عمري وأفنيت جلّ عقلي وعروق جسدي، ولن يمنحي المكان صفرته وحرارته حتى لو ولدت فيه وشربت ماءه، وصنعت خيطاً من هدب الشمس أو ضياءً من ذلك النور الخافت.
لن يقبلني المكان ولا حتى القاطنون من دونك، لن تتشبث بي الطرقات التي مشيتها ولا الشرفات التي جلست فيها، ولا الجبال التي رسمتها في دفتري المدرسي عندما كنت في الابتدائية، ولا المدينة ولا حتى القرية التي أحببتها، ولا جدران الخواء المتكسر بين يدي الجفاء والقطيعة والخشونة.. لستُ سوى هباء متناثر في كؤوس المساء وفناجين قهوة الصباح وأمسيات الوشاة وأصحاب القلاقل والغيبة.
قل لي حقاً إن الحواجز التي تمنعك من الطيران حقيقية، وإن الإقصاء الذي تشهده طيورك أمرٌ واقعي لكنك في كل مرة كنت تخذلني وتسحبني إلى بيت الحلم وحديقة الخيال وبستان الوهم.
ما عليَّ بعد أن أعيد عليك الدرس فسوف تخونك الكلمات كما خانت كليم الله، ولن تنفعك الأدعية القديمة بعد أن مات صاحباها في كمين واحد، ومكيدة منظمة، فقد كانت تصلح على ما تقبلُ منها للاستعمال مرة واحدة على ما يبدو.
عد لرشدك الآن إن توقفت الخطوات والدروب، وإن سكنت الطرق والشعاب وهجعت الأرض.. واصل طريقك وأدم سيرك فأنت عائد إلى مكانك الذي لم يزل بعد، إلى مكانك الذي فيه يموت العشرات كل يوم في سبيلك.. عُد وأرشق الأفق ببعض الزهور فأنت آليت أن تظل أبيض طاهرا لا تدنسك الوساوس، ولا تخالط مشاعرك المصالح وإن مرت عليها الـ 16 عاماً بقيت فيها محاطاً وحيداً بالعزلة لم تذق طعماً إلا وفيه رائحة الدم، وتتطاير في أرجائه أشلاءٌ من أغصان البرتقال والنخل البرحي.
عُد لتسقي الفرات وتضمد جراحات دجلة، وتمسح دموع أطفالك وشبابك الذين كلما هجرتهم يرحل منهم الكثير إلى اللا عودة.. عُد يا وطني المصلوب فوق كتفي وترجل فقد تعبنا ولم نصل للشاطيء بعد، ولم ترافق خطواتنا أغنيات النصر.. عُد أو دلّني إلى أي طريق هي وجهتك الثانية؟