الحزن والقلق من سمات العراقيين اليوم، في حين تأتي أحلامهم وطموحاتهم مقيّدة. أينما وُجدوا، في الشارع أو المدرسة أو المنزل أو العمل، هم لا يشعرون بالأمان. عندما يخرج أحدهم إلى السوق، كثيراً ما يتساءل إن كانت عودته إلى أطفاله مضمونة. هل يختطف مثلاً أو يعتقل أو ربما يموت بانفجار هنا أو بقذيفة أو صاروخ هناك؟ كأنما الجميع ينتظر حتفه. وهكذا، راح العراقيون يكتبون وصاياهم، تحسّباً.
"أمي الحبيبة، لم أستطع منع نفسي من كتابة هذه الكلمات على الرغم من علمي أنها ستكون مؤلمة لقلبك الكبير. لكنني مضطر إلى ذلك، فربما لن أعود. اعتنِ بأخي محمد وليهتم بدراسته، ريثما أجمع بعض المال وأرسله إليكم إن تمكنت من الوصول إلى أوروبا، فالبحر لا يرحم. وإن غرقت، أوصيكِ بالدعاء لي ولأصدقائي. استندت من صديقي عامر مبلغاً من المال، فإذا بلغكم خبر غرقي سددوا المبلغ عني". هذا ما كتبه ياسر عثمان قبل أن ينطلق بحراً إلى اليونان في طريقه إلى أوروبا الغربية، لعله يحظى بفرصة جديدة وحياة أفضل. هو يأمل في جمع بعض المال ليتمكن أخوه الأصغر من إكمال دراسته الجامعية.
تخبر أم ياسر أنها كلما قرأت كلماته هذه، "أجهشتُ بالبكاء واحتضنتُ أخاه الأصغر. هو من بقي لي بعد مقتل والدهما في بغداد. ياسر كان مصراً على الهجرة. لم نستطع السفر معاً، إذ لا نملك المال الكافي". وتتابع: "لم أكن أتخيل أنني سوف أفقده بهذه الطريقة. كانت صدمة كبيرة عندما بلغني خبر غرقه في البحر مع مهاجرين عراقيين وسوريين، خلال محاولتهم بلوغ السواحل اليونانية".
والعراقيون لا ينسون شيئاً عند كتابة وصاياهم، فيذكّرون عائلاتهم بالدَّين والإرث والاهتمام بالأطفال ورعايتهم ومصيرهم ودراستهم وزواجهم وقضاياهم الاجتماعية وغيرها. أم علي مثلاً، تجمع في كل يوم أبناءها الخمسة وتقرأ عليهم وصية أبيهم التي تركها قبل أن يقتل في انفجار سيارة مفخخة عند توجهه إلى عمله ذات يوم. تقول: "كتب أبو علي في وصيته التي حفظها في كتاب قديم، كل شيء تقريباً. هو أوصاني وأولادي بمتابعة دراستهم، وبعدم إجبار أحدهم على الزواج في حال لم يكن يرغب في ذلك. أيضاً، كتب المنزل باسمي، حتى لا يحصل خلاف بين أبنائنا بعد رحيله".
إلى ذلك، يلجأ آخرون إلى كتابة وصاياهم وتأمينها لدى أحد المحامين أو الأقارب الذين يثقون بهم. يقول المحامي مضر الراوي إنّ "عدداً كبيراً من أصحاب رؤوس الأموال والأعمال الحرة وحتى المواطنين البسطاء، يستشيرونني في قضايا قانونية وحقوقية تتعلق بكتابة وصاياهم، تحسباً لتعرضهم إلى أي مكروه. نحن نعيش فوضى أمنية عارمة في البلاد، ما يدفع العراقيين إلى كتابة وصاياهم، خشية رحيلهم وبقاء القضايا عالقة قانونياً أو اجتماعياً أو عائلياً خصوصاً". يضيف الراوي لـ"العربي الجديد"، أن "الوصية أمر مهم جداً وظاهرة حضارية في الحقيقة، لكنها تعكس مدى ألم العراقيين وحزنهم. وأنا من جهتي كتبت وصيتي وأمّنتها لدى أحد أقربائي، تحسباً لرحيلي بطريقة مفاجئة. الموت المتجوّل لا يرحم أحداً".
في السياق، ترى الباحثة الاجتماعية سهى الملا أنّ "المجتمع العراقي بدأ يشعر بشيء من اليأس من جرّاء الظروف المحيطة به، وسط التجاذبات السياسية والانهيار الأمني والاقتصادي الواضحين". وتشرح لـ"العربي الجديد"، أنّ "فقدان الأمن يرفع من حالة اليأس والضجر، ما يعني أنّ كل مواطن راح يشعر بأنّ الموت أصبح قريباً جداً منه، وفي أي لحظة قد يفارق أسرته وأطفاله. لذا أصبحت للوصايا أهميّة لدى الأسر العراقية". تضيف أنّ "ثمّة وصايا قانونية تُكتب بمساعدة محامين وحقوقيين متخصصين في قضايا الميراث، وثمّة وصايا اجتماعية كالشؤون العائلية الخاصة التي تتعلق بالأبناء وبعادات الأسر وتقاليدها".
إلى ذلك، يرى محللون نفسيون أنّ المواطن العراقي وبسبب فقدانه التام للشعور بالأمان وخشيته على عائلته من بعد رحيله، بدأ يأخذ احتياطات تقلل من احتمال ضياعها من بعده. لذا، يكتب وصيته ليحفظ حقوقهم القانونية أو شؤونهم العائلية الخاصة.
يقول المحلل النفسي ياسين الطيار إنّ "الشعور بفقدان الأمن شيء مؤلم جداً للإنسان، إذ يجعله يدور في حلقة مفرغة ويرفع نسبة الحذر والقلق لديه على نفسه وعلى مستقبل عائلته وأبنائه، وهو ما يجعله يفكّر بوسيلة للتخفيف من حدة الخطر على أفراد عائلته وضمان عدم ضياع حقوقهم".
إقرأ أيضاً: الموت ينعش مهنة حفاري القبور في العراق
"أمي الحبيبة، لم أستطع منع نفسي من كتابة هذه الكلمات على الرغم من علمي أنها ستكون مؤلمة لقلبك الكبير. لكنني مضطر إلى ذلك، فربما لن أعود. اعتنِ بأخي محمد وليهتم بدراسته، ريثما أجمع بعض المال وأرسله إليكم إن تمكنت من الوصول إلى أوروبا، فالبحر لا يرحم. وإن غرقت، أوصيكِ بالدعاء لي ولأصدقائي. استندت من صديقي عامر مبلغاً من المال، فإذا بلغكم خبر غرقي سددوا المبلغ عني". هذا ما كتبه ياسر عثمان قبل أن ينطلق بحراً إلى اليونان في طريقه إلى أوروبا الغربية، لعله يحظى بفرصة جديدة وحياة أفضل. هو يأمل في جمع بعض المال ليتمكن أخوه الأصغر من إكمال دراسته الجامعية.
تخبر أم ياسر أنها كلما قرأت كلماته هذه، "أجهشتُ بالبكاء واحتضنتُ أخاه الأصغر. هو من بقي لي بعد مقتل والدهما في بغداد. ياسر كان مصراً على الهجرة. لم نستطع السفر معاً، إذ لا نملك المال الكافي". وتتابع: "لم أكن أتخيل أنني سوف أفقده بهذه الطريقة. كانت صدمة كبيرة عندما بلغني خبر غرقه في البحر مع مهاجرين عراقيين وسوريين، خلال محاولتهم بلوغ السواحل اليونانية".
والعراقيون لا ينسون شيئاً عند كتابة وصاياهم، فيذكّرون عائلاتهم بالدَّين والإرث والاهتمام بالأطفال ورعايتهم ومصيرهم ودراستهم وزواجهم وقضاياهم الاجتماعية وغيرها. أم علي مثلاً، تجمع في كل يوم أبناءها الخمسة وتقرأ عليهم وصية أبيهم التي تركها قبل أن يقتل في انفجار سيارة مفخخة عند توجهه إلى عمله ذات يوم. تقول: "كتب أبو علي في وصيته التي حفظها في كتاب قديم، كل شيء تقريباً. هو أوصاني وأولادي بمتابعة دراستهم، وبعدم إجبار أحدهم على الزواج في حال لم يكن يرغب في ذلك. أيضاً، كتب المنزل باسمي، حتى لا يحصل خلاف بين أبنائنا بعد رحيله".
إلى ذلك، يلجأ آخرون إلى كتابة وصاياهم وتأمينها لدى أحد المحامين أو الأقارب الذين يثقون بهم. يقول المحامي مضر الراوي إنّ "عدداً كبيراً من أصحاب رؤوس الأموال والأعمال الحرة وحتى المواطنين البسطاء، يستشيرونني في قضايا قانونية وحقوقية تتعلق بكتابة وصاياهم، تحسباً لتعرضهم إلى أي مكروه. نحن نعيش فوضى أمنية عارمة في البلاد، ما يدفع العراقيين إلى كتابة وصاياهم، خشية رحيلهم وبقاء القضايا عالقة قانونياً أو اجتماعياً أو عائلياً خصوصاً". يضيف الراوي لـ"العربي الجديد"، أن "الوصية أمر مهم جداً وظاهرة حضارية في الحقيقة، لكنها تعكس مدى ألم العراقيين وحزنهم. وأنا من جهتي كتبت وصيتي وأمّنتها لدى أحد أقربائي، تحسباً لرحيلي بطريقة مفاجئة. الموت المتجوّل لا يرحم أحداً".
في السياق، ترى الباحثة الاجتماعية سهى الملا أنّ "المجتمع العراقي بدأ يشعر بشيء من اليأس من جرّاء الظروف المحيطة به، وسط التجاذبات السياسية والانهيار الأمني والاقتصادي الواضحين". وتشرح لـ"العربي الجديد"، أنّ "فقدان الأمن يرفع من حالة اليأس والضجر، ما يعني أنّ كل مواطن راح يشعر بأنّ الموت أصبح قريباً جداً منه، وفي أي لحظة قد يفارق أسرته وأطفاله. لذا أصبحت للوصايا أهميّة لدى الأسر العراقية". تضيف أنّ "ثمّة وصايا قانونية تُكتب بمساعدة محامين وحقوقيين متخصصين في قضايا الميراث، وثمّة وصايا اجتماعية كالشؤون العائلية الخاصة التي تتعلق بالأبناء وبعادات الأسر وتقاليدها".
إلى ذلك، يرى محللون نفسيون أنّ المواطن العراقي وبسبب فقدانه التام للشعور بالأمان وخشيته على عائلته من بعد رحيله، بدأ يأخذ احتياطات تقلل من احتمال ضياعها من بعده. لذا، يكتب وصيته ليحفظ حقوقهم القانونية أو شؤونهم العائلية الخاصة.
يقول المحلل النفسي ياسين الطيار إنّ "الشعور بفقدان الأمن شيء مؤلم جداً للإنسان، إذ يجعله يدور في حلقة مفرغة ويرفع نسبة الحذر والقلق لديه على نفسه وعلى مستقبل عائلته وأبنائه، وهو ما يجعله يفكّر بوسيلة للتخفيف من حدة الخطر على أفراد عائلته وضمان عدم ضياع حقوقهم".
إقرأ أيضاً: الموت ينعش مهنة حفاري القبور في العراق