كلّما تمعنتُ في لوحات فاتح المدرِّس الموزعة صورها في الدوريات الفنية، أو صادفتُ حواراً معه نُشر ذات يوم في جريدة قديمة، أو مقالاً تأملياً داخل عدد من مجلة تعود للسنة الأخيرة من حياته 1999، أو أعدتُ قراءة قصة له تضمنتها مجموعته "عود النعنع" 1986؛ كلّما صار أنْ تكررت واحدة من تلك الوقفات، بين حين وآخر؛ أجدني أفكّر كم نحن نخسر عندما يرحل عنا مبدع يملك رؤية ورؤيا مثل فاتح المدرّس. كم في خسارة واحد فقط من هذا "الطراز" نخسرُ كَرَمَ وقتٍ أتاحَ لمن عاشوه فسحةَ تذوق خبز الجَمال ومنْحه، وارتشاف مياه الفكر وتبادله. وإني لأعْجَبُ وأتعجّبُ وأُعْجَبُ، حيال نوعية العطاء الكُلي الذي تركه هذا الفنان ووفْرته: فناً هو علامة ومدرسة في لوحات بلا حصر، وكتابة تتعامل مع اللغة بالحساسية نفسها التي يتعامل بها مع ألوانه، وآراء في الحياة والفن تخصّه هو دون سواه - خاصة معشر الفنانين العرب الذين تعجز غالبيتهم عن مجاراة اللغة (كلاماً وكتابة) مجاراتها لفرشاة لوحاتها، وتفاعلاً حوارياً يجريه مع قامات شعرية عالية توثق في كتب.
كانت تجربة اللقاء التفاعلي الفني/ الشِعري الذي أجراه على مدى أيام، مع أدونيس، تجربة فريدة بحق إذ خرجا بنتاجٍ إبداعيّ اشتركا في بَذْر جمالياته من حولهما: رسماً أخرجه الشاعر من طبقةٍ أخرى من طبقات روحه (أدونيس)، وبوحاً أفاض واستفاض ونثره الرسّام (المدرّس) على وقع أسئلة الشاعر وتساؤلاته. إنه التفكّر، وتخطيطات الاثنين للرؤى والخيال الخلّاق بتعبيرات جمالية شتّى.
إنه التعبير أولاً وأخيراً. أن نعبِّر عنا - أفراداً وجماعات - وعن عالمنا، وعن العيش وكيف يكون. وهذا، لمّا يمارسه المرء منا، إنما يعبّر، أيضاً، عن افتتانه بالحياة نفسها محافظاً على الدهشة أمام كلّ ما يحدث فيها. ما ننجزه ليس سوى وَهَج الدهشة المانحة لذواتنا معناها الأول، ولعلّه الأطهر والأسمى. دهشة الطفل الذي يأبى أن يكبر فينا و"يتعقّل" (يقول المدرّس عن افتقاد الإنسان لعنصر الدهشة: يعني موته منذ زمن) ليصبحَ سَهْل الانقياد لشروطٍ ظالمة وأسيادٍ طغاة. والطغاة قَتَلَة بالضرورة يتناسلون مُسوخاً على هيئة بَشَر كاملي "الأناقة"، وفاتح المدرّس رسمَ الأبيضَ المضيء إلى جوار الأسود الدموي في لوحة سماها "بيروت: ليل الحرب الأهلية"، ولعلّه فعل هذا كثيراً دون أن ندري! دون أن نقرأ جيداً لغة التكوينات البسيطة في اللوحة وألوانها! رسمها ودعانا لإجراء الحوار، ولم يَدْعُ لإجرائه بينهما - إذ لا حوار بين القتَلَة والقَتْلى -، هو حوار مع اللوحة وما خلفها. عندها، إذا امتلكنا رؤيا الطفل "المندهش/ الحي" المتعثّر بـ"أغلاط البشر القاتلة"؛ نصبحُ على قَدْرٍ من النُضْج المعرفي! المعرفة الآتية من الجَمال، والموقف النابع من الجميل. ذلك نحوزه بتفاعلنا مع الفن وإطلاق تأويلاتنا للجماليات فيه، مع تكوينات فاتح المدرّس التي نتهجّى أبجدياتها عساها تفي بـ "تضميد أرواحنا". ولكن؛ أيكفينا هذا؟ ولكن؛ أيُبْطِلُ هذا آلية القتل أو يوقفها؟
أبداً.
فاتح المدرّس يكتب:"ماذا يستطيع الفنان التشكيلي أو الأديب الشاعر أو الموسيقار أن يفعل أمام حفرة تحوي آلاف جثث الآدميين الذين قُتلوا رشاً ودراكاً أمام بعضهم البعض؟" وكان قبل هذا قد تشكك في قدرة الجَمال، وحده، على إنقاذ العالم من القَتَلَة.
الجَمال لا يُنقذ العالم من القَتَلَة، والمدرّس أدركَ هذا ولم يخدع نفسه. تماماً مثلما ندركه جميعاً. غير أني لأقف اليوم مشدوها، كطفل الفنّان الذي يأبى أن يموت، وأتساءل عمّا سيرسم لو ظل على قيد العيش وسط حقول المجزرة في بلده وساحاتها. ماذا ستكون لوحته الأخيرة، الشاهدة على وقتٍ خرجَ منه واستراح.
(كاتب وروائي أردني)
اقــرأ أيضاً
كانت تجربة اللقاء التفاعلي الفني/ الشِعري الذي أجراه على مدى أيام، مع أدونيس، تجربة فريدة بحق إذ خرجا بنتاجٍ إبداعيّ اشتركا في بَذْر جمالياته من حولهما: رسماً أخرجه الشاعر من طبقةٍ أخرى من طبقات روحه (أدونيس)، وبوحاً أفاض واستفاض ونثره الرسّام (المدرّس) على وقع أسئلة الشاعر وتساؤلاته. إنه التفكّر، وتخطيطات الاثنين للرؤى والخيال الخلّاق بتعبيرات جمالية شتّى.
إنه التعبير أولاً وأخيراً. أن نعبِّر عنا - أفراداً وجماعات - وعن عالمنا، وعن العيش وكيف يكون. وهذا، لمّا يمارسه المرء منا، إنما يعبّر، أيضاً، عن افتتانه بالحياة نفسها محافظاً على الدهشة أمام كلّ ما يحدث فيها. ما ننجزه ليس سوى وَهَج الدهشة المانحة لذواتنا معناها الأول، ولعلّه الأطهر والأسمى. دهشة الطفل الذي يأبى أن يكبر فينا و"يتعقّل" (يقول المدرّس عن افتقاد الإنسان لعنصر الدهشة: يعني موته منذ زمن) ليصبحَ سَهْل الانقياد لشروطٍ ظالمة وأسيادٍ طغاة. والطغاة قَتَلَة بالضرورة يتناسلون مُسوخاً على هيئة بَشَر كاملي "الأناقة"، وفاتح المدرّس رسمَ الأبيضَ المضيء إلى جوار الأسود الدموي في لوحة سماها "بيروت: ليل الحرب الأهلية"، ولعلّه فعل هذا كثيراً دون أن ندري! دون أن نقرأ جيداً لغة التكوينات البسيطة في اللوحة وألوانها! رسمها ودعانا لإجراء الحوار، ولم يَدْعُ لإجرائه بينهما - إذ لا حوار بين القتَلَة والقَتْلى -، هو حوار مع اللوحة وما خلفها. عندها، إذا امتلكنا رؤيا الطفل "المندهش/ الحي" المتعثّر بـ"أغلاط البشر القاتلة"؛ نصبحُ على قَدْرٍ من النُضْج المعرفي! المعرفة الآتية من الجَمال، والموقف النابع من الجميل. ذلك نحوزه بتفاعلنا مع الفن وإطلاق تأويلاتنا للجماليات فيه، مع تكوينات فاتح المدرّس التي نتهجّى أبجدياتها عساها تفي بـ "تضميد أرواحنا". ولكن؛ أيكفينا هذا؟ ولكن؛ أيُبْطِلُ هذا آلية القتل أو يوقفها؟
أبداً.
فاتح المدرّس يكتب:"ماذا يستطيع الفنان التشكيلي أو الأديب الشاعر أو الموسيقار أن يفعل أمام حفرة تحوي آلاف جثث الآدميين الذين قُتلوا رشاً ودراكاً أمام بعضهم البعض؟" وكان قبل هذا قد تشكك في قدرة الجَمال، وحده، على إنقاذ العالم من القَتَلَة.
الجَمال لا يُنقذ العالم من القَتَلَة، والمدرّس أدركَ هذا ولم يخدع نفسه. تماماً مثلما ندركه جميعاً. غير أني لأقف اليوم مشدوها، كطفل الفنّان الذي يأبى أن يموت، وأتساءل عمّا سيرسم لو ظل على قيد العيش وسط حقول المجزرة في بلده وساحاتها. ماذا ستكون لوحته الأخيرة، الشاهدة على وقتٍ خرجَ منه واستراح.
(كاتب وروائي أردني)