19 أكتوبر 2019
ليبيا: الشرعية ومعضلة التدخل الأجنبي
صحيح أن سعي الأطراف الإقليمية والدولية إلى إيجاد شرعية سياسية في ليبيا، تجمع شمل الفرقاء، وتجعل البلد يتكلم بصوت في الداخل والخارج، حجة تحسب على هذه الفواعل في مساعيها إلى إخراج ليبيا من حالة الانقسام السياسي والتعفن الأمني. إلا أن هذا المسعى الإقليمي والدولي ليس بهذه الصورة التي تبدو، من الوهلة الأولى، بسيطة وبدون أجندة مصلحية ذات رهانات سياسية متناقضة. فالأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الليبي متفقة على شيء واحد، هو إيجاد شرعية سياسية (حكومة وفاق وطني شرعية) في البلاد، لكنها في خلاف حول الغرض من هذه الشرعية. وهذا ما يضع حكومة الوفاق الوطني الليبية الجديدة التي حطت التو ترحالها في طرابلس، في وضع سياسي حرج للغاية. فالأطراف التي تدعمها لا تفعل ذلك للغرض نفسه، بل مقاصدها متناقضة. ومن ثم فالشرعية المنشودة في ليبيا توظف مطية لخدمة مآرب سياسية وعسكرية، لا تقل بالضرورة خطراً عن الوضع الأمني المتردي في البلاد.
لكن، قبل أن نذهب بعيداً، نتوقف بسرعةٍ عند المشهد السياسي في ليبيا: حكومتان وبرلمانان يتصارعان حول السلطة السياسية في بلادٍ تصلب فيها عود المليشيات والتنظيمات الإرهابية المنطوية تحت لواء داعش؛ وحكومة وفاق وطني جديدة، تلقى معارضة من الحكومتين المتصارعتين، وهذه نقطة التوافق الوحيدة بينهما، لكنها مدعمة من أطراف إقليمية ودولية نافذة.
إنه مشهد سياسي في غاية من التعقيد. التقاء ثلاثة عوامل أساسية جعل ليبيا من أبرز الشواغل الأمنية لدول الجوار والقوى الدولية. وتتمثل هذه العوامل في: غياب الشرعية السياسية بسبب تناحر مختلف الأطراف السياسية الليبية؛ تغوّل الميليشيا المرتبطة بها أو المستقلة؛ استيطان تنظيمات إرهابية في بعض أجزاء البلاد. وتتخوف دول الجوار والقوى الدولية من بسط داعش سيطرتها على البلاد وتحويلها إلى إمارة إرهابية. ولتجنب ذلك، انخرطت عدة أطراف إقليمية ودولية في عملية تسويق للتدخل الأجنبي في البلاد مجدداً، وبشكل واسع هذه المرة، لأن صيغة التدخل الانتقائي والمنقطع الذي اعتمدته بعض الدول الإقليمية (مصر والإمارات) لم ولن تؤتى أكلها، لأن هذا التدخل يقوم على حساباتٍ ضيقةٍ وآنيةٍ، بل هو امتداد للعبة السياسية المحلية (في البلدين المتداخلين). وعليه، فالمشهد قبل تشكيل حكومة الوفاق الوطني لا يسهل التدخل لأن هذا الأخير سيكون، في نهاية المطاف، تدخلاً لصالح طرف ليبي ضد طرف آخر (كما هو شأن التدخل المصري-الإمارتي)، وبالتالي، فمآله الفشل، فضلاً عن عدم استناده إلى أي شرعية.
وحتى يكتمل مثلث الاستعصاء السياسي-الأمني في البلاد استوطن فيها داعش، عبر فروعه المحلية والعابرة للأوطان. وبقدر ما يمثل هذا تهديداً للدول الإقليمية والدولية، بقدر ما يمثل لها فرصة لإقناع القوى الليبية المتناحرة بضرورة التوافق السياسي، قبل أن يأتي عليها داعش. لكن التوظيف متبادل. فكما أن القوى الخارجية توظف ورقة داعش للدفع بالقوى السياسية المحلية نحو الاتجاه المرغوب، توظف الأخيرة الورقة نفسها لدفع القوى الخارجية للاهتمام أكثر بالشأن الليبي لإيجاد تسوية سياسية لأزمة البلاد.
هكذا مع ولوج داعش الساحة الليبية، عاد إلى الواجهة وبقوة، خيار التدخل العسكري مجدداً في
البلاد، إلا أن الانقسام السياسي، كما قلنا، لا يسمح بذلك، بالنظر لمخاطر المواجهة بين قوى متدخلة وأطراف ليبية، تعتبر أن التدخل يستهدفها في المقام الأول. تفادياً للسقوط في مستنقع أمني جديد في ليبيا، هي في غنى عنه، رأت القوى الإقليمية والدولية المنادية بضرورة التدخل أنه من مصلحتها جمع شمل الفرقاء الليبيين شرطاً مسبقاً لأي تدخل عسكري. فكانت أرضية التوافق مع أطراف إقليمية ودولية أخرى رافضة للتدخل الأجنبي، لكنها تقول بضرورة جمع شمل الفرقاء. من هنا، جاء التوافق حول التوصل إلى تشكيل حكومة سياسية شرعية في البلاد. لكن لكل هدفه، فالأطراف الإقليمية والدولية المطالبة بالتدخل تدعم حكومة الوفاق الوطني الجديدة على أنها تمثل الشرعية السياسية في البلاد، وتنتظر منها أن تطلب التدخل الدولي. بمعنى أن المقصود إيجاد شرعية سياسية محلية لشرعنة التدخل الأجنبي. إذ تنتظر هذه الأطراف، وبفارغ الصبر، تقدم حكومة الوفاق الجديدة بطلب رسمي للتدخل حتى ترسل بقواتها إلى ليبيا... أما الأطراف الإقليمية والدولية المعارضة للتدخل، فقد سعت إلى إيجاد شرعية سياسية في ليبيا، للحيلولة دون التدخل. فهدفها دعم الأخيرة سياسياً، وحتى عسكرياً، لتبسط سيطرتها على البلاد، وتكون محاوراً جدياً لها يقي البلاد والمنطقة برمتها عواقب تدخل عسكري أجنبي.
فالتوافق المبدئي حول الشرعية السياسية في ليبيا لا تحركه الدوافع والمقاصد نفسها، ما يجعل حكومة التوافق الوطني الجديدة في ليبيا في وضعٍ لا تحسد عليه. بل إن تعارض مآرب الأطراف الخارجية الداعمة لها قد يقود، في نهاية المطاف، إلى إسقاطها. فشرعية هذه الحكومة تستند، بالأساس، إلى الدعم الخارجي، ومن ثم، فأي خلل يقع في هذا الأخير قد يقود وبسرعة إلى انهيارها.
هكذا تجد حكومة الوفاق الوطني الليبية نفسها بين مطرقة الأطراف الإقليمية والدولية الساعية للتدخل والمعارضة له، وذلك حتى قبل أن يستتب أمرها محلياً. ولا خيارات حقيقية لهذه الحكومة للخروج من هذه المعضلة السياسية، ما عدا المراهنة على الشرعية المحلية باستمالة مختلف الأطياف السياسية للتخفيف من ثقل البعد الدولي لشرعيتها. أي ربح دعم الأطراف المحلية واحتكار العنف المشروع في البلاد. لكن مثل هذا المسعى محفوف بالمخاطر. فمن جهة جنوحها نحو "الاستقلالية" عن أي مظلة خارجيةٍ سيعرّضها للضغط، وربما للسقوط. ومن جهة ثانية، سعيها إلى احتكار العنف المشروع في البلاد سيدخلها في صراع مفتوح مع القوى المناهضة لها محلياً. بمعنى آخر، لمواجهة هيمنة الخارج حكومة التوافق الوطني بحاجة إلى ربح مساندة الداخل، ولافتكاك احتكار العنف المشروع فهي بحاجةٍ إلى مساندة الخارج...
لكن، قبل أن نذهب بعيداً، نتوقف بسرعةٍ عند المشهد السياسي في ليبيا: حكومتان وبرلمانان يتصارعان حول السلطة السياسية في بلادٍ تصلب فيها عود المليشيات والتنظيمات الإرهابية المنطوية تحت لواء داعش؛ وحكومة وفاق وطني جديدة، تلقى معارضة من الحكومتين المتصارعتين، وهذه نقطة التوافق الوحيدة بينهما، لكنها مدعمة من أطراف إقليمية ودولية نافذة.
إنه مشهد سياسي في غاية من التعقيد. التقاء ثلاثة عوامل أساسية جعل ليبيا من أبرز الشواغل الأمنية لدول الجوار والقوى الدولية. وتتمثل هذه العوامل في: غياب الشرعية السياسية بسبب تناحر مختلف الأطراف السياسية الليبية؛ تغوّل الميليشيا المرتبطة بها أو المستقلة؛ استيطان تنظيمات إرهابية في بعض أجزاء البلاد. وتتخوف دول الجوار والقوى الدولية من بسط داعش سيطرتها على البلاد وتحويلها إلى إمارة إرهابية. ولتجنب ذلك، انخرطت عدة أطراف إقليمية ودولية في عملية تسويق للتدخل الأجنبي في البلاد مجدداً، وبشكل واسع هذه المرة، لأن صيغة التدخل الانتقائي والمنقطع الذي اعتمدته بعض الدول الإقليمية (مصر والإمارات) لم ولن تؤتى أكلها، لأن هذا التدخل يقوم على حساباتٍ ضيقةٍ وآنيةٍ، بل هو امتداد للعبة السياسية المحلية (في البلدين المتداخلين). وعليه، فالمشهد قبل تشكيل حكومة الوفاق الوطني لا يسهل التدخل لأن هذا الأخير سيكون، في نهاية المطاف، تدخلاً لصالح طرف ليبي ضد طرف آخر (كما هو شأن التدخل المصري-الإمارتي)، وبالتالي، فمآله الفشل، فضلاً عن عدم استناده إلى أي شرعية.
وحتى يكتمل مثلث الاستعصاء السياسي-الأمني في البلاد استوطن فيها داعش، عبر فروعه المحلية والعابرة للأوطان. وبقدر ما يمثل هذا تهديداً للدول الإقليمية والدولية، بقدر ما يمثل لها فرصة لإقناع القوى الليبية المتناحرة بضرورة التوافق السياسي، قبل أن يأتي عليها داعش. لكن التوظيف متبادل. فكما أن القوى الخارجية توظف ورقة داعش للدفع بالقوى السياسية المحلية نحو الاتجاه المرغوب، توظف الأخيرة الورقة نفسها لدفع القوى الخارجية للاهتمام أكثر بالشأن الليبي لإيجاد تسوية سياسية لأزمة البلاد.
هكذا مع ولوج داعش الساحة الليبية، عاد إلى الواجهة وبقوة، خيار التدخل العسكري مجدداً في
فالتوافق المبدئي حول الشرعية السياسية في ليبيا لا تحركه الدوافع والمقاصد نفسها، ما يجعل حكومة التوافق الوطني الجديدة في ليبيا في وضعٍ لا تحسد عليه. بل إن تعارض مآرب الأطراف الخارجية الداعمة لها قد يقود، في نهاية المطاف، إلى إسقاطها. فشرعية هذه الحكومة تستند، بالأساس، إلى الدعم الخارجي، ومن ثم، فأي خلل يقع في هذا الأخير قد يقود وبسرعة إلى انهيارها.
هكذا تجد حكومة الوفاق الوطني الليبية نفسها بين مطرقة الأطراف الإقليمية والدولية الساعية للتدخل والمعارضة له، وذلك حتى قبل أن يستتب أمرها محلياً. ولا خيارات حقيقية لهذه الحكومة للخروج من هذه المعضلة السياسية، ما عدا المراهنة على الشرعية المحلية باستمالة مختلف الأطياف السياسية للتخفيف من ثقل البعد الدولي لشرعيتها. أي ربح دعم الأطراف المحلية واحتكار العنف المشروع في البلاد. لكن مثل هذا المسعى محفوف بالمخاطر. فمن جهة جنوحها نحو "الاستقلالية" عن أي مظلة خارجيةٍ سيعرّضها للضغط، وربما للسقوط. ومن جهة ثانية، سعيها إلى احتكار العنف المشروع في البلاد سيدخلها في صراع مفتوح مع القوى المناهضة لها محلياً. بمعنى آخر، لمواجهة هيمنة الخارج حكومة التوافق الوطني بحاجة إلى ربح مساندة الداخل، ولافتكاك احتكار العنف المشروع فهي بحاجةٍ إلى مساندة الخارج...