تغير الوضع بعد ظهور ما يعرف بتيار السلفية المدخلية، والذي يشن حرباً لتشويه السنوسية واتهامها وعلمائها بالابتداع والانحراف، كما يضيف الغماري لـ"العربي الجديد".
ما هي السنوسية؟
الطريقة السنوسية واحدة من الطرق الصوفية المنتشرة بين المسلمين، وقد تأسست في القرن التاسع عشر على يد الجزائري محمد السنوسي الذي أسس في عام 1840 طريقته في شرق ليبيا، لكن الطريقة سرعان ما امتدت إلى جنوب الصحراء وصولا إلى تشاد. قاتلت السنوسية الاستعمار الإيطالي في النصف الأول من القرن العشرين، بقيادة عمر المختار، ثم قدمت السنوسية الملك الذي حكم ليبيا بعد استقلالها، إدريس الأول السنوسي وبعد انقلاب العقيد القذافي العسكري في عام 1969 أصبحت السنوسية حركة شبه محظورة.
غياب روح الليبيين الجامعة
"رغم كون السنوسية حركة دينية أساساً، إلا أن غيابها كرابط كان يجمع المجتمع حوله، عقّد من مهمة بناء الدولة عقب الثورة، لأن الحركة كانت قادرة على إنهاء معارك وخصومات القبائل والمناطق" يقول الشيخ الغماري.
وهو ما يتفق معه أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة عمر المختار رمضان بن طاهر، والذي يرى أن الإشكال القائم في ليبيا حالياً يرجع إلى كون المجتمع فاقداً للهوية التي كانت تتمثل في رابطة السنوسية التي كان يجتمع حولها كلما عانى التفتت القبلي والمناطقي.
بن طاهر أشار إلى أن القذافي أحيا القبلية طوال عهده، مما أدى لظهورها بشكل فج بعد غيابه، وهو ما يرفع من الحاجة إلى السنوسية وموروثها لاستعادة وحدة المجتمع وهويته الجامعة".
ما هي المدخلية؟
تُعدّ المدخلية إحدى فئات التيارات السلفية واسعة الانتشار، أسسها السعودي ربيع المدخلي، تقوم فكرتها على أنه لا يجوز معارضة الحاكم مطلقاً، ولا حتى توجيه النصيحة إليه في العلن، وتعتبر ذلك أصلا من أصول عقيدة أهل السنّة والجماعة، ومخالفة هذا الأصل يعتبر خروجا على الحاكم المسلم.
كيف نشأت المدخلية في ليبيا ؟
يرى المقاتل السابق في أفغانستان والباحث في الجماعات الإسلامية عثمان القطعاني، أن المدخلية نشأت في ليبيا على يد المقاتلين الليبيين العائدين من أفغانستان أواخر الثمانينيات، حيث تلقفتهم المخابرات السعودية عندما أقاموا في المملكة عقب عودتهم من أفغانستان لعدم قدرتهم على العودة إلى ليبيا في ظل سياسة نظام القذافي.
وقتها نجح الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، مؤسس التيار المدخلي بإيعاز من المخابرات السعودية في تجنيد عدد كبير منهم - يقول القطعاني - ويتايع: "قام سيف الإسلام القذافي بمبادرة مع تلك المجموعات، عُرفت بـ"تسوية الوضع" إذ يقوم كل شاب منهم يرغب في العودة إلى ليبيا بتسوية وضعه مع الأمن الخارجي ثم يعود إلى ليبيا حاملاً فكرة طاعة ولي الأمر مهما فعل من جرائم، ويختلقون له المبررات، وكل من يتكلم في مخالفات الحاكم، هو عندهم من الخوارج".
آلية عمل المداخلة في ليبيا
التيار المدخلي في ليبيا ليس له رموز أو قادة معروفون، وإنما تأتي تحركاتهم في شكل جهود فردية، كلٌ في منطقته. في مدينة البيضاء شرق ليبيا التقينا بـ"موسى سالم" أحد دعاة التيار المدخلي في أحد الأحياء الشعبية المعروفة بحضورهم فيها.
يعتبر سالم الحركة السنوسية مبتدعة، لا تنتمي إلى أهل السنة والجماعة، باعتبارها حسب وصفه تدعو إلى البدع وما يخالف السنّة. يقول سالم "نهدف للقضاء على ما وصفه بالبدع والانحرافات التي انتشرت في المجتمع على يد السنوسية".
يكشف سالم أن التيار المدخلي أو الدعوة السلفية - كما سماها - تميزت بانتشارها في ليبيا أكثر من أي دولة عربية أخرى، إذ بات ما نسبته 75% من مساجد ليبيا يقوم عليها دعاة منها، حسب قوله.
وأبدى تفاؤله بتقلص انتشار أنشطة السنوسية، مع انها ما زالت موجودة في بعض المناطق بنسب كثافة مختلفة، أبرزها منطقة واحة الجغبوب جنوب شرق ليبيا، ومنطقة الجبل الأخضر على حد قوله.
تبعية للثورة المضادة
منذ إعلان اللواء المتقاعد خليفة حفتر محاولته الرامية للانقلاب على ثورة السابع عشر من فبراير/شباط 2014 والتيار المدخلي جزء من معادلة الصراع السياسي والعسكري في ليبيا، إذ يستخدم دعاته منابر المساجد في التحريض الممنهج على إقصاء أي فكر أو تيار يخالف منهجهم أو يختلف سياسياً مع تحرك الثورة المضادة الذي يقوده حفتر، ولو كان ذلك بالقتل أو التهجير.
الناشط الليبي عبدالله كشكر، أحد ثوار مدينة بنغازي، تعرض لتحريض متكرر من قبل منتسبي التيار المدخلي، يرى أن منتسبي التيار المدخلي يستندون إلى اعتقادهم بأن كل فكر أو تيار أو جماعة لا تحمل فكرهم وتنتهج منهجهم، تعد ضالة ومنحرفة يجب التصدي لها ومحاربتها.
ويشير كشكر إلى أن المداخلة يستخدمون نعوت الدواعش والقاعدة والإرهاب لكسب تعاطف عامة الناس وتشويه خصومهم، كما يعتمدون على غطاء شرعي من فتاوى تأتي من السعودية، وهي غالبا ما تكون فتاوى سياسية تهدف لإرباك الثورات في دول الربيع العربي.
كشكر الذي قاتل ضد نظام القذافي إبان الثورة ينعته منتسبو التيار بأنه من الخوارج، ولكن المثير - كما يقول - أن "كل من يواجه محاولة الانقلاب التي يقودها حفتر أو يؤيد خصومه أصبح كذلك من الخوارج".
يقول كشكر "بعد موجة الاغتيالات والتفجيرات والقتل لضباط وجنود الجيش والشرطة الممنهجة بعد الثورة استغل المداخلة هذه الحوادث، وأصحبوا يلفقون هذه التهم من قتل وتفجير لخصومهم بدافع الانتقام من الفصائل التي انضمت إلى الثورة، في حين كان لهم موقف معادٍ للثورة، فقد عُرفوا بجماعة "الزم بيتك" (لرفضهم المشاركة في الثورة) وأن القذافي ولي أمر، ولا يجوز الخروج عليه".
ويشير كشكر إلى أن الأحداث أظهرت حضور أحد منتسبي التيار المدخلي، ويدعى أشرف الميار، اجتماعات ما يعرف بعملية الكرامة بزعامة اللواء خليفة حفتر.
يقود الميار مجموعة من المسلحين من منتسبي المدخلية، تقاتل في صفوف ما يعرف بالجيش الوطني الليبي، وقد ظهر الميار عبر الفضائيات يهدد خصومه ويحرض على قتلهم واصفاً إياهم بالخوارج، وهو ما دفع بكثير من الخبراء إلى استغراب مشاركتهم عسكرياً، في حين عرف عنهم رفضهم حمل السلاح، على اعتبار مثل هذه الأحداث من الفتن التي يجب اجتنابها، وهو التناقض الذي يرجعه الباحث عثمان القطعاني إلى عدم وجود ضوابط لمنهجهم، ما يجعلهم يتبنون الموقف ونقيضه أحيانا خدمة لأطراف سياسية. وأضاف القطعاني، أنهم يعتبرون "برلمان طبرق" أهل حلٍّ وعقد (حسب النظرية الإسلامية التاريخية للحكم) وأن من يعارضونه خوارج، يجب قتالهم، وللسبب نفسه يدعمون حفتر ضد خصومه.