ليبيا: معاً للحفاظ على وحدة الوطن وسلامته

17 فبراير 2015
معاً لبناء دولة القانون والمؤسسات (محمود تركية/فرانس برس)
+ الخط -

صحيحٌ أن التيار الإسلامي تم إقصاؤه بالكامل في بداية تأسيس المجلس، ولكن الحقيقة أن الإقصاء مرض مارسه الجميع في المرحلة الانتقالية بحجة المصلحة الوطنية العليا.

الوطن اليوم على مشارف الانهيار وعلى حافة الإفلاس، بسبب سياسة الإقصاء التي مارسها الطاغية ومارستها القوى التي جاءت بعده.

الشعب الليبي عليه أن يعي الآثار السيئة التي نشأت في المجتمع بسبب العيش تحت وطأة سنوات الظلم الاثنتين والأربعين التي كان من أوضحها وأكثرها خطورة سياسة الإقصاء المتعمد التي مارسها الطاغية، حتى أضحت سمة بارزة لحكمه. 
لقد عمل الطاغية على إقصاء خصومه رواد المجتمع الذين كمن لهم واستهدفهم ابتداءً بندوة الفكر الثوري، وتوسطاً بالتخلص من أعضاء مجلس قيادة الثورة (الانقلاب) وانتهاءً بحل الجيش والنقابات المهنية واتحادات الطلبة وكل أشكال المجتمع المدني، ليتفرد بعد ذلك بالسلطة حتى قال له من حوله: أنت ربنا الأعلى.
هذا الإقصاء الذي مارسه النظام والذي عاشه الشعب الليبي بوعيٍ أو بدون، لا شك في أن له آثاره السلبية، والتي قد نعاني منها لفترة من الزمن، لذا فمن الواجب أن نتنبه لها وأن ندق ناقوس الخطر، كي لا نسمح بأن يعشش هذا الداء مرة أخرى في مجتمعنا.

العلاقة بين الحاكم والمحكوم تناسبية، بغض النظر عن كونها إيجابية أو سلبية، فالحاكم المستبد الطاغية يعمل ليعيش شعبه حالة من الفوضى والإرباك والبعد عن مصادر العزة والتقدم والازدهار، ومع مرور الوقت يكتسب المحكومون بعضاً من هذه الأخلاق الاستبدادية التي يرفِضونها، ولكن للأسف يمارسونها. والقدر يُباغت الشعوب أحياناً، ليكونوا وجهاً لوجه مع مرحلة لم يخططوا لها ولم يتوقعونها، وقد يتولى أحد المحكومين قيادة البلاد، فإذا ما تُرك من دون رقابة حقيقية ولا محاسبة دقيقة ولم يكونوا له بالمرصاد، كبُر المستبد الصغير الذي ترعرع بين جنبيه طيلة سنوات الظلم والقهر والطغيان، ليمارس بنفسه أخلاق ذلك الطاغية المخلوع.

من هذه الأخلاق، بل الأمراض الفتاكة، مرض الإقصاء الذي غالباً ما يُمارس ضد القوى الفاعلة في المجتمع، لنجد أنفسنا في نهاية المطاف نستبدل ديكتاتوراً بآخر، وهكذا دواليك (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ).

ومن المتوقع أن يكون هناك أخطاء في بداية كل عهد جديد، خاصة إذا كان هذا العهد قد جاء بعد حكم طاغية مستبد، ولكن من غير المتوقع الإصرار عليها. كما أنه من الطبيعي أن يخاف الثوار على ثورتهم، والشعب على مستقبله إذا كانت هذه الأخطاء ممنهجة ومخططا لها. والخوف يكون أشد إذا كان خُلق الإقصاء، الذي مارسه الطاغية المستبد بشكل بشع وكريه، قد عاود الظهور في بداية هذا العهد الجديد، مما يدل على أن الطاغية ما زال يحكم بواسطة الموروث الذي تسرب إلى المحكومين عبر السنين الطوال لحكمه، وعشش في عقولهم، وأضحى يتحكم في تصرفاتهم وينعكس على أقوالهم وأفعالهم.

إن عملية إقصاء أي مكون هام من مكونات هذا المجتمع، والذي يحمل همّ وتطلعات وآمال شعبه، هو في الحقيقة عملية لا أخلاقية ومعيبة. ومع أن الإقصاء كان سمة واضحة في عملية تكوين المجلس الوطني الانتقالي، إلا أن اختيار رمز يقدره الشعب ويحترمه ليترأس هذه المرحلة، هو الذي جعل هذا المكون يُغلّب المصلحة الوطنية العليا على الانشغال بتجاذبات تُؤخر الحسم وتُعطل التخلص من الطاغية.
ومع كل ذلك استمر الإقصائيون في ممارسة هذا الخلق، وأصرّوا على تفويت فرصة ذهبية للتوافق السياسي للشعب الليبي، وشغلوا الساحة الوطنية بجدال جانبي كان من المفترض تجنبه، وهو الأمر الذي لم يعد يحتمل.
إن سابقة الإقصاء والاستمرار فيها، لها أسوأ النتائج على مستقبل الشعب الليبي على المدى القصير والطويل، والإقصائيون وحدهم يتحملون وزر هذه المرحلة، ما لم يتم الإسراع في تصحيح المسار لأن الشعب بالفعل عرف طريقه.

الإقصاء في العمل السياسي هو بمثابة رصاصة موت للمُمارِس والمُمارَس عليه، وهو موت سريري لمستقبل شعب يتطلع أن تلعب الطبقة الواعية فيه دوراً لإخراجه من نفق مظلم عانى منه ويلات اثنتين وأربعين سنة من القهر والظلم والحرمان والطغيان، لا أن تُدخله هذه الطبقة في نفق آخر أشد ظلمة.

لا ينبغي أن ننسج من وحى الخيال صورة مغلوطة عن الآخر، ثم نُصدقها ونُشيعها شرقاً وغرباً زوراً وبهتاناً، رغبةً في الحصول على صك خارجي يسمح بإقصاء الآخر. القواسم المشتركة كثيرة، وغيرها قليل، ويمكن التعامل مع الآخر الذي يخالفنا الرأي بكل رحابة صدر، ليكون الفيصل دائماً إما الإقناع أو الاقتناع، وبالتالي التعاون في المُتَّفَق والتحاكم إلى الصناديق في المُختَلَف.

أعضاء المجلس الانتقالي عليهم أن يعوا أن قوة المجلس، أمر ضروري حتى يؤدي المجلس دوره المنوط به، وهذه القوة تكمن في مدى شرعية هذا المجلس، والتي لا يمكن له أن يحصل عليها من أي طرف آخر سوى الشعب الليبي. وإن الشرعية الثورية التي حكمنا بها الطاغية، 42 سنة، تَفرّق دَمُها بين أفراد الشعب الليبي شرقاً وغرباً، ولا يمكن لكائن من كان أن يدّعي امتلاك الشرعية الثورية، لأن الدماء التي أزهقت لم تَعُد تقبل هذا الهراء، وأن الشرعية دائماً للشعب وبالشعب فقط. 
بهذه الشرعية يكون المجلس قوياً وقادراً على مواجهة الصعاب مهما تعاظمت، وبغيابها يكون المجلس ضعيفاً وغير قادر على قيادة دفة المعركة الآنية والمستقبلية. لذلك فالنصيحة المستمرة للمجلس أن يحرص على أن يكون بالشعب من خلال اختيار أعضائه، وبالطريقة التي يختارها الشعب.

من المتفق عليه التمسك بإنهاء حكم الطاغية وعائلته ووحدة وسلامة الوطن ورفض صياغة مستقبل الوطن السياسي بعيداً عن الشعب ومكوناته الأساسية. لذا، وأمام هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها شعبنا أرى واجباً أن أضع بين يدي كل وطنيٍّ غيور على وطنه ومستقبله "وثيقة معاً" تقويةً للأساس حتى لا يخرّ السقف من فوقنا:

"وثيقة معاً":

تتم مصادقة كل القوى الفاعلة في المجتمع بالقول والفعل على "وثيقة معاً" القليلة الكلمات العميقة المضمون:

1- معاً حتى إسقاط الطاغية وعائلته.

2- معاً للحفاظ على وحدة الوطن وسلامته.

3- معاً لوضع ميثاق العمل السياسي المستقبلي "خارطة الطريق".

4- معاً حتى يختار الشعب، ومعاً لقبول اختياره.

5- معاً لبناء دولة القانون والمؤسسات.

كل ذلك بدون إقصاء ولا تهميش، وبتوافق سياسي تعمل فيه كل مكونات الشعب على أساس من المواطنة وسلطة القانون.