ليبيا منذ اتفاق الصخيرات
تشهد ليبيا مجموعة من التغيّرات المعقدة والمتناقضة، وتشكل تهديداً مباشراً للاتفاق السياسي، فبغض النظر عن انقسام المؤسسات السياسية، فإن ارتفاع وتيرة الصراع السياسي والعسكري يثير الجدل بشأن الإطار السياسي الملائم للمرحلة المقبلة، وخصوصاً مع تراخي الأمم المتحدة والدول الكبرى عن دعم المسار الانتقالي.
جدل الشرعية السياسية
لقي إعلان المجلس الأعلى للدولة مزاولة مهامه سلطة تشريعية انتقاداتٍ محلية ودولية، كان الانتقاد الواضح من جهة الخصوم السياسيين، حيث اعتبروا أنه يتناقض مع الاتفاق السياسي ومحاولة لخلط الأوراق، وكانت ملاحظات رئيس حكومة التوافق فائز السراج ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، واضحة في اتجاه أنه محاولة لتجاوز صلاحياته الدستورية. وهذا ما يثير التساؤل حول قبول "المجلس الرئاسي" والجهات الدولية على أهمية منح "حكومة التوافق" الثقة من "النواب" منفرداً، على الرغم من تحفظه على اتفاق الصخيرات، وعدم اكتمال الإطار الدستوري الجديد، وأن "الاتفاق" هو بطبيعته منشئ للسلطات. وعلى مدى الشهور الماضية، أخذت المسألة هذه جانباً محدوداً من النقاش، استناداً لمبدأ حسن النية. ولكن، بمرور الوقت،
صارت سلطة مجلس النواب في منح الثقة من الحقوق المكتسبة مع احتفاظه بمسافةٍ بعيدةٍ عن مقتضيات "الاتفاق السياسي"، ما ترتب عليه تعقيداتٌ قانونيةٌ وسياسيةٌ كان من شأنها تعطيل الاتفاق والدخول في حلقة مفرغةٍ، زادت من الصراع المسلح، وبشكل جعل "الصخيرات" محط المطالبة بالتعديل.
وهناك مسائل جدلية في الاتفاق السياسي، فبينما وضعت المادة (1/ 5) الأساس القانوني لسحب الثقة من الحكومة، بموافقة 120 عضواً، وهي قاعدة مستمدة من "الإعلان الدستوري"، لكنه في المادة 3 أشار إلى اعتماد الحكومة في مجلس النواب، من دون تحديد نصابٍ دستوري، وهو ما يشير إلى تسهيل إجراءات الاعتماد، لكنه يقرّر أن الاتجاه العام في التصويت على شكل الحكومة يكون وفق النّصاب المحدّد، وليس حسب أغلبية الحاضرين. ولذلك يكون نصاب (120 عضوا) معبراً عن تماثل مستوى الشرعية بالمنع والمنح. وهنا يمكن تفسير رفض المجلس في 22 أغسطس/ آب 2016، بحضور 101 عضواً وامتناع 34 عن المشاركة في التصويت، تشكيل الحكومة باعتباره موقفاً سياسياً يسعى من خلاله إلى مراجعة الاتفاق السياسي، واستثمار التغيرات في المعارك والصراع المسلح.
كما تشير المادة (2/1) إلى اختيار أعضاء الحكومة، وفق مقتضيات الإعلان الدستوري، وباعتبار أن قانون العزل السياسي من الميراث الدستوري، فإنه ينطبق على تشكيل المؤسسات الحالية، لكنه تحت وقع الأزمة السياسية، لم تكن هذه النقطة محل اهتمام الأطراف الليبية، وكانت أقرب إلى القبول بتسوياتٍ سياسيةٍ لتجاوز الحرب الأهلية، وهي تسوياتٌ بدأت مع انتخابات مجلس النواب (يونيو/ حزيران2014)، حيث لم تطبق معايير النزاهة وفق قانون الانتخاب (10/ 2014) سوى بعد مرحلتي الترشيح وإعلان نتائج الانتخابات، وتم تطبيقها بشكل محدود، بسبب اندلاع معارك حول مطار طرابلس واتساع نطاق الصراع المسلح.
الصراع على السلطة التشريعية
ولكن، على الرغم من التوافقات اللاحقة لاتفاق الصخيرات، ظهرت حالة من الصراع على السلطة التشريعية، وصارت تشكل محوراً مهماً في الأزمة السياسية الراهنة. ولعل المعضلة الأساسية كانت في القيود على تفسير الاتفاق السياسي، فبينما اتجهت الأمم المتحدة إلى عقد جلسات للجنة الحوار، فإن "مجلس الدولة اتجه (25 سبتمبر/ أيلول 2016) إلى تفعيل المادة 13 من الأحكام الإضافية، إلى تشكيل اللجنة الخماسية لتفسير الاتفاق، ومناقشة آليات تنفيذ الاستحقاقات المشتركة بين المجلسين.
وقد اعتبر مجلس الدولة (21 سبتمبر/ أيلول 2016) أن تفاقم الصراع العسكري في ليبيا أطاح فرص المصالحة والوئام الوطني، وقد ارتكز موقف المجلس على اعتبارين؛ الأول، أن المعارك في "الهلال النفطي" جاءت في ظل حالة انسداد الأفق السياسي، وأزمة اقتصادية، ونقص في الخدمات العامة، ما يمثل معوقات شديدة ويعمل على تقويض الاتفاق السياسي، أما الثاني، فخلص إلى أن ملامح العودة إلى الدكتاتورية تشكل تهديداً للدولة، ويتضح من بيان " المجلس" أن إطاحة المؤسسات المدنية في شرق ليبيا يقترب من حالة انقلاب عسكري.
ولعل المعضلة التي تواجه مجلس الدولة تتمثل في الإقدام على توفيق أوضاع جانبٍ من أعضاء "المؤتمر الوطني"، حسب الاتفاق السياسي، فيما ظل مجلس النواب محتفظاً بهيكله من دون تغيير، ما يوجد حالةً من اختلاف مصدر الشرعية، وصارت هذه الحالة تشكل هاجساً مقلقاً للمسار السياسي، حيث أن انهيار اتفاق الصخيرات سوف يطيح "مجلس الدولة" فيما يطل "مجلس النواب" تحت شرعية الانتخاب الشعبي، فلم يكن الانتقال من "المؤتمر الوطني" إلى مجلس الدولة متوافقاً مع التغير في المسار السياسي، وكان أقرب إلى مبادرة حسن النية.
ولكن، من الناحية القانونية، تبدو مسألة الشرعية القانونية محل جدل، وخصوصاً بعد تجاوز كل الجهات السياسية للآجال الدستورية، بما فيها "الهيئة التأسيسية"، وتبدو المشكلة ظاهرةً في الصراع حول فراغ السلطة، وبطريقةٍ تفتح المجال لديمومة الصراع المسلح.
ويعكس القلق المصاحب لبيان المجلس الأعلى للدولة أن المناخ السياسي لا يدعم استمرار الاتفاق، إطاراً معبّراً عن تطلع كل الأطراف الليبية. ولذلك، كان التركيز على جانبين؛ الأول، ما اعتبرها انتهاكاتٍ للمرحلة الانتقالية وانقلاباً عسكرياً (بدأ في مايو/ أيار 2014)، وانتهى إلى إطاحة الإدارة المدنية المنتخبة في شرق ليبيا، وهو تفسيرٌ يكشف عن تباعد المسارات وتناقض التصورات لمستقبل الدولة.
أما الجانب الثاني، حيث رأى أن مجلس النواب القائم ظل عقبةً في تنفيذ الالتزامات السياسية، سواء بإعاقة تشكيل الحكومة، أو بعدم توفيق أوضاعه، وفق اتفاق الصخيرات (المواد 16، 17، 18)، واعتبر أن هناك فراغاً في السلطة. ولذلك، أعلن تدخله لملء الفراغ التشريعي والاضطلاع بمهام السلطة التشريعية، ويمكن تفسير هذه الخطوة بأنها محاولةٌ لموازنة سياسة الأمر الواقع التي يتبناها مجلس النواب وخليفة حفتر، ليس فقط فيما يتعلق بالصراع على المنطقة النفطية، ولكن أيضأ بالتلويح بعدم الاعتراف بالمجلس الرئاسي، وتذبذب الموقف من تشكيلة الحكومة.
وعلى الرغم من أن بيان رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية، عبد الرحيم السويحلي، تضمن توجهات تفاوضية تقوم على الالتزام بالاتفاق السياسي وتحقيق السلام، فإنها لقيت انتقاداتٍ واسعة، من جهاتٍ داخلية وخارجية، فبينما يتحدث "البيان" عن حماية اتفاق الصخيرات، والسعي إلى تفعيل دور "مجلس الدولة" بوصفه جزءاً من السلطة التشريعية، والتدخل لوقف جرائم الحرب والتهجير القسري.
وثمّة صعوبة في اعتبار بيان مجلس الدولة خطوةً استباقية للاستحواذ على السلطة، بقدر ما هي خطوة دفاعية، تسعى إلى واجهة التغيرات السياسية والعسكرية في المنطقة الشرقية، وتتطلع إلى وضع خريطة طريق للخروج من الأزمة التشريعية على أساس الاتفاق السياسي.
رئاسة الدولة
تكشف التوجهات، منذ يوليو/ تموز 2016، عن تطلع الجنرال خليفة حفتر إلى رئاسة ليبيا، لكن هذه الرغبة ظهرت واضحةً في حوار نشرته "الأسوشيتد برس" في سبتمبر/ أيلول 2016، عندما قال إن ليبيا في حاجة لقائد ذي خبرة عسكرية كبيرة، وهناك مداخل يمكن من خلالها فهم إعادة طرح النقاش بشأن منصب الرئاسة في ليبيا، على الرغم من اضطلاع "المجلس الرئاسي" بمهام السلطة التنفيذية في الفترة الانتقالية.
ويمكن ملاحظة أن عملية "البرق الخاطف" كانت محاولةً لتجنب تداعيات نجاح عملية البنيان المرصوص في سرت وتحييدها، حيث ظلت السيطرة على سرت محور الصراع المسلح منذ فبراير/ شباط 2014، وقت محاولة انقلاب حفتر الأولى، وكانت مرشحةً لصدام مسلح بين الجانبين، لإخراج "داعش" من المدينة، لكن سرعة وجود قوات المنطقة الغربية حال دون دخول قوات حفتر المعارك في سرت، لكنه مع الاقتراب من القضاء على "داعش"، كان لا بد من تغيير الوضع العسكري في وسط ليبيا.
بين فرنسا والأمم المتحدة
لا يخرج دور فرنسا عن حالة استهلاك الوقت، فاجتماع باريس في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، لم يتضمن أجندةً واضحة، وعلى خلاف المؤتمرات السابقة بشأن الأمن في ليبيا، باريس 2013 ثم روما 2014، لم يكن هناك عنوان محدّد لدى السياسة الفرنسية، سوى أن الدعوة إلى انعقاده جاءت في سياق تحولاتٍ في الصراع المسلح وترنح اتفاق الصخيرات، فيما كان الطرح الفرنسي يركّز على دعم الدور القيادي لحفتر في السياسة الأمنية الليبية، وهو ما يشكّل امتداداً لإسناد عملياته العسكرية، في السنوات الماضية. وفي الوقت نفسه، تبدو فرنسا متسقةً مع توجهها في كبح تطور المؤسسات الانتقالية ونضجها، لم يكن آخرها رفض التعاون العسكري مع السراج، لكنها تبنت مشروعات تقسيم ليبيا، والتلويح بالتدخل العسكري، وتكوين مليشيات قبلية في جنوب ليبيا.
ولا يختلف موقف الأمم المتحدة عن الموقف الفرنسي كثيراً، فهي لا تذهب إلى حلٍّ سياسي في ليبيا، بقدر ما أنها تفتح الآفاق أمام الأزمة السياسية، فعلى الرغم من ارتكان أطرافٍ ليبيةٍ كثيرة لقرارات مجلس الأمن لا يبدو شيئاً مستقراً ومضموناً، فالقرارات أخيراً، ومنها القرار 2259، لم تعمل على تحسين دور المؤسسات الانتقالية، أو توفر لها دعماً عسكرياً، بل كانت أكثر تردّداً في المضي نحو إنجاز المهام الاقتصادية أو العسكرية، وبشكل يزيد من سيولة اتفاق
الصخيرات، ويضعه بشكل دائم على طاولة المراجعة والتقييم، وكان من اللافت أن تمديد العقوبات الأوروبية، غير الفاعلة، ضد رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح ورئيس المؤتمر الوطني العام نوري بوسهمين، بسبب إعاقتهما الحل السياسي، لم يشمل خليفة حفتر الذي أعلن معارضته الاتفاق السياسي، ولم يرفع التمديد حظر السلاح عن حكومة الوفاق.
وعلى الرغم من توسيع حفتر نطاق العمليات العسكرية، ووصوله إلى الموانئ النفطية، فإنه لم يلق ممانعة دولية لحماية الاتفاق السياسي، واقتصرت بيانات مجموعة الدول الست على تأمين سلامة المنشآت النفطية، وسحب القوات بعيداً عنها، وكان الملاحظ أنها انتقلت سريعاً من إدانة الصراع في شرق ليبيا إلى مطالبة المجلس الرئاسي بإعادة تشكيل الحكومة وإتمام خطوات المصالحة، وهو ما يدفع باتجاه إضعاف فرص التسويات السياسية، ويعزّز من التوجهات المسلحة لحسم الخلافات وإعادة التموضع في السياسة الليبية.
وهنا، تبدو تناقضات في المنظور الدولي لإرساء السلام في ليبيا، ليس فقط بسبب نقص الحماية الكافية للاتفاق السياسي، ولكن في ظهور الانتقائية في النظر إلى المؤسسات الليبية، فوفق بيان الاجتماع الدولي حول ليبيا (الجمعية العامة) اعتبر مجلس النواب السلطة التشريعية الوحيدة، ولم يشر إلى الدور التشريعي لمجلس الدولة، ما يضع المؤسسات الليبية أمام حالةٍ انقسامية، تتجاوز آثارها اتفاق الصخيرات، ولا يتوقع أن تقف مظاهر الانقسام على مجلس النواب، وتبدو السياسة الدولية أكثر ميلاً، بشكل دائم، إلى إقرار الوضع القائم.
لعل المشكلة الواضحة منذ صدور الاتفاق السياسي (ديسمبر/ كانون الأول 2015)، تتمثل في أن الميراث الانقسامي صار أكثر ملازمةً للسياسة في ليبيا، وهو ما يشكل حالةً من المراوحة في حماية اتفاق الصخيرات، وطرح إمكانية تعديله، ما يضعف حجيته نصاً دستورياً، ويفتح المجال أمام اهتزاز المؤسسات، ومع تزايد هذه الاحتمالية، تكون ليبيا أمام خياراتٍ مفتوحة على الصراع.
جدل الشرعية السياسية
لقي إعلان المجلس الأعلى للدولة مزاولة مهامه سلطة تشريعية انتقاداتٍ محلية ودولية، كان الانتقاد الواضح من جهة الخصوم السياسيين، حيث اعتبروا أنه يتناقض مع الاتفاق السياسي ومحاولة لخلط الأوراق، وكانت ملاحظات رئيس حكومة التوافق فائز السراج ورئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، واضحة في اتجاه أنه محاولة لتجاوز صلاحياته الدستورية. وهذا ما يثير التساؤل حول قبول "المجلس الرئاسي" والجهات الدولية على أهمية منح "حكومة التوافق" الثقة من "النواب" منفرداً، على الرغم من تحفظه على اتفاق الصخيرات، وعدم اكتمال الإطار الدستوري الجديد، وأن "الاتفاق" هو بطبيعته منشئ للسلطات. وعلى مدى الشهور الماضية، أخذت المسألة هذه جانباً محدوداً من النقاش، استناداً لمبدأ حسن النية. ولكن، بمرور الوقت،
وهناك مسائل جدلية في الاتفاق السياسي، فبينما وضعت المادة (1/ 5) الأساس القانوني لسحب الثقة من الحكومة، بموافقة 120 عضواً، وهي قاعدة مستمدة من "الإعلان الدستوري"، لكنه في المادة 3 أشار إلى اعتماد الحكومة في مجلس النواب، من دون تحديد نصابٍ دستوري، وهو ما يشير إلى تسهيل إجراءات الاعتماد، لكنه يقرّر أن الاتجاه العام في التصويت على شكل الحكومة يكون وفق النّصاب المحدّد، وليس حسب أغلبية الحاضرين. ولذلك يكون نصاب (120 عضوا) معبراً عن تماثل مستوى الشرعية بالمنع والمنح. وهنا يمكن تفسير رفض المجلس في 22 أغسطس/ آب 2016، بحضور 101 عضواً وامتناع 34 عن المشاركة في التصويت، تشكيل الحكومة باعتباره موقفاً سياسياً يسعى من خلاله إلى مراجعة الاتفاق السياسي، واستثمار التغيرات في المعارك والصراع المسلح.
كما تشير المادة (2/1) إلى اختيار أعضاء الحكومة، وفق مقتضيات الإعلان الدستوري، وباعتبار أن قانون العزل السياسي من الميراث الدستوري، فإنه ينطبق على تشكيل المؤسسات الحالية، لكنه تحت وقع الأزمة السياسية، لم تكن هذه النقطة محل اهتمام الأطراف الليبية، وكانت أقرب إلى القبول بتسوياتٍ سياسيةٍ لتجاوز الحرب الأهلية، وهي تسوياتٌ بدأت مع انتخابات مجلس النواب (يونيو/ حزيران2014)، حيث لم تطبق معايير النزاهة وفق قانون الانتخاب (10/ 2014) سوى بعد مرحلتي الترشيح وإعلان نتائج الانتخابات، وتم تطبيقها بشكل محدود، بسبب اندلاع معارك حول مطار طرابلس واتساع نطاق الصراع المسلح.
الصراع على السلطة التشريعية
ولكن، على الرغم من التوافقات اللاحقة لاتفاق الصخيرات، ظهرت حالة من الصراع على السلطة التشريعية، وصارت تشكل محوراً مهماً في الأزمة السياسية الراهنة. ولعل المعضلة الأساسية كانت في القيود على تفسير الاتفاق السياسي، فبينما اتجهت الأمم المتحدة إلى عقد جلسات للجنة الحوار، فإن "مجلس الدولة اتجه (25 سبتمبر/ أيلول 2016) إلى تفعيل المادة 13 من الأحكام الإضافية، إلى تشكيل اللجنة الخماسية لتفسير الاتفاق، ومناقشة آليات تنفيذ الاستحقاقات المشتركة بين المجلسين.
وقد اعتبر مجلس الدولة (21 سبتمبر/ أيلول 2016) أن تفاقم الصراع العسكري في ليبيا أطاح فرص المصالحة والوئام الوطني، وقد ارتكز موقف المجلس على اعتبارين؛ الأول، أن المعارك في "الهلال النفطي" جاءت في ظل حالة انسداد الأفق السياسي، وأزمة اقتصادية، ونقص في الخدمات العامة، ما يمثل معوقات شديدة ويعمل على تقويض الاتفاق السياسي، أما الثاني، فخلص إلى أن ملامح العودة إلى الدكتاتورية تشكل تهديداً للدولة، ويتضح من بيان " المجلس" أن إطاحة المؤسسات المدنية في شرق ليبيا يقترب من حالة انقلاب عسكري.
ولعل المعضلة التي تواجه مجلس الدولة تتمثل في الإقدام على توفيق أوضاع جانبٍ من أعضاء "المؤتمر الوطني"، حسب الاتفاق السياسي، فيما ظل مجلس النواب محتفظاً بهيكله من دون تغيير، ما يوجد حالةً من اختلاف مصدر الشرعية، وصارت هذه الحالة تشكل هاجساً مقلقاً للمسار السياسي، حيث أن انهيار اتفاق الصخيرات سوف يطيح "مجلس الدولة" فيما يطل "مجلس النواب" تحت شرعية الانتخاب الشعبي، فلم يكن الانتقال من "المؤتمر الوطني" إلى مجلس الدولة متوافقاً مع التغير في المسار السياسي، وكان أقرب إلى مبادرة حسن النية.
ولكن، من الناحية القانونية، تبدو مسألة الشرعية القانونية محل جدل، وخصوصاً بعد تجاوز كل الجهات السياسية للآجال الدستورية، بما فيها "الهيئة التأسيسية"، وتبدو المشكلة ظاهرةً في الصراع حول فراغ السلطة، وبطريقةٍ تفتح المجال لديمومة الصراع المسلح.
ويعكس القلق المصاحب لبيان المجلس الأعلى للدولة أن المناخ السياسي لا يدعم استمرار الاتفاق، إطاراً معبّراً عن تطلع كل الأطراف الليبية. ولذلك، كان التركيز على جانبين؛ الأول، ما اعتبرها انتهاكاتٍ للمرحلة الانتقالية وانقلاباً عسكرياً (بدأ في مايو/ أيار 2014)، وانتهى إلى إطاحة الإدارة المدنية المنتخبة في شرق ليبيا، وهو تفسيرٌ يكشف عن تباعد المسارات وتناقض التصورات لمستقبل الدولة.
أما الجانب الثاني، حيث رأى أن مجلس النواب القائم ظل عقبةً في تنفيذ الالتزامات السياسية، سواء بإعاقة تشكيل الحكومة، أو بعدم توفيق أوضاعه، وفق اتفاق الصخيرات (المواد 16، 17، 18)، واعتبر أن هناك فراغاً في السلطة. ولذلك، أعلن تدخله لملء الفراغ التشريعي والاضطلاع بمهام السلطة التشريعية، ويمكن تفسير هذه الخطوة بأنها محاولةٌ لموازنة سياسة الأمر الواقع التي يتبناها مجلس النواب وخليفة حفتر، ليس فقط فيما يتعلق بالصراع على المنطقة النفطية، ولكن أيضأ بالتلويح بعدم الاعتراف بالمجلس الرئاسي، وتذبذب الموقف من تشكيلة الحكومة.
وعلى الرغم من أن بيان رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية، عبد الرحيم السويحلي، تضمن توجهات تفاوضية تقوم على الالتزام بالاتفاق السياسي وتحقيق السلام، فإنها لقيت انتقاداتٍ واسعة، من جهاتٍ داخلية وخارجية، فبينما يتحدث "البيان" عن حماية اتفاق الصخيرات، والسعي إلى تفعيل دور "مجلس الدولة" بوصفه جزءاً من السلطة التشريعية، والتدخل لوقف جرائم الحرب والتهجير القسري.
وثمّة صعوبة في اعتبار بيان مجلس الدولة خطوةً استباقية للاستحواذ على السلطة، بقدر ما هي خطوة دفاعية، تسعى إلى واجهة التغيرات السياسية والعسكرية في المنطقة الشرقية، وتتطلع إلى وضع خريطة طريق للخروج من الأزمة التشريعية على أساس الاتفاق السياسي.
رئاسة الدولة
تكشف التوجهات، منذ يوليو/ تموز 2016، عن تطلع الجنرال خليفة حفتر إلى رئاسة ليبيا، لكن هذه الرغبة ظهرت واضحةً في حوار نشرته "الأسوشيتد برس" في سبتمبر/ أيلول 2016، عندما قال إن ليبيا في حاجة لقائد ذي خبرة عسكرية كبيرة، وهناك مداخل يمكن من خلالها فهم إعادة طرح النقاش بشأن منصب الرئاسة في ليبيا، على الرغم من اضطلاع "المجلس الرئاسي" بمهام السلطة التنفيذية في الفترة الانتقالية.
من الناحية القانونية، لا تبدو هناك ثقة في إنجاز مشروع الدستور. ولذلك، يمكن القول إن إثارة موضوع الرئاسة بمثابة استباق للدستور والعودة إلى مقررات لجنة فبراير (2014) التي ألغتها المحكمة العليا، وهنا تبدو مشكلة الإطار القانوني الملائم للدخول في ترتيباتٍ لرئاسة الدولة، ما يفتح الباب أمام "مجلس النواب" لسن تشريعاتٍ لوضع ملامح لا ترتبط بمهام الفترة الانتقالية، ومن المحتمل أن تنطلق لتغيير نظام الحكم، كما أنه يفتح الطريق أمام نقل الصراع المسلح إلى العاصمة (طرابلس) خطوة أخيرة لإنهاء مشروع حكومة الوفاق الوطني.
من الناحية السياسية، يستند الإعلان عن تطلع حفتر إلى رئاسة الدولة فقط لقبوله شرعية مجلس النواب، وهو انعكاس لمجموعة من التغيرات السياسية، حدثت أخيراً، كان أهمها تردّد الأطراف الدولية في دعم المسار السياسي، والميل إلى القبول بسياسة الأمر الواقع.ويمكن ملاحظة أن عملية "البرق الخاطف" كانت محاولةً لتجنب تداعيات نجاح عملية البنيان المرصوص في سرت وتحييدها، حيث ظلت السيطرة على سرت محور الصراع المسلح منذ فبراير/ شباط 2014، وقت محاولة انقلاب حفتر الأولى، وكانت مرشحةً لصدام مسلح بين الجانبين، لإخراج "داعش" من المدينة، لكن سرعة وجود قوات المنطقة الغربية حال دون دخول قوات حفتر المعارك في سرت، لكنه مع الاقتراب من القضاء على "داعش"، كان لا بد من تغيير الوضع العسكري في وسط ليبيا.
بين فرنسا والأمم المتحدة
لا يخرج دور فرنسا عن حالة استهلاك الوقت، فاجتماع باريس في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، لم يتضمن أجندةً واضحة، وعلى خلاف المؤتمرات السابقة بشأن الأمن في ليبيا، باريس 2013 ثم روما 2014، لم يكن هناك عنوان محدّد لدى السياسة الفرنسية، سوى أن الدعوة إلى انعقاده جاءت في سياق تحولاتٍ في الصراع المسلح وترنح اتفاق الصخيرات، فيما كان الطرح الفرنسي يركّز على دعم الدور القيادي لحفتر في السياسة الأمنية الليبية، وهو ما يشكّل امتداداً لإسناد عملياته العسكرية، في السنوات الماضية. وفي الوقت نفسه، تبدو فرنسا متسقةً مع توجهها في كبح تطور المؤسسات الانتقالية ونضجها، لم يكن آخرها رفض التعاون العسكري مع السراج، لكنها تبنت مشروعات تقسيم ليبيا، والتلويح بالتدخل العسكري، وتكوين مليشيات قبلية في جنوب ليبيا.
ولا يختلف موقف الأمم المتحدة عن الموقف الفرنسي كثيراً، فهي لا تذهب إلى حلٍّ سياسي في ليبيا، بقدر ما أنها تفتح الآفاق أمام الأزمة السياسية، فعلى الرغم من ارتكان أطرافٍ ليبيةٍ كثيرة لقرارات مجلس الأمن لا يبدو شيئاً مستقراً ومضموناً، فالقرارات أخيراً، ومنها القرار 2259، لم تعمل على تحسين دور المؤسسات الانتقالية، أو توفر لها دعماً عسكرياً، بل كانت أكثر تردّداً في المضي نحو إنجاز المهام الاقتصادية أو العسكرية، وبشكل يزيد من سيولة اتفاق
وعلى الرغم من توسيع حفتر نطاق العمليات العسكرية، ووصوله إلى الموانئ النفطية، فإنه لم يلق ممانعة دولية لحماية الاتفاق السياسي، واقتصرت بيانات مجموعة الدول الست على تأمين سلامة المنشآت النفطية، وسحب القوات بعيداً عنها، وكان الملاحظ أنها انتقلت سريعاً من إدانة الصراع في شرق ليبيا إلى مطالبة المجلس الرئاسي بإعادة تشكيل الحكومة وإتمام خطوات المصالحة، وهو ما يدفع باتجاه إضعاف فرص التسويات السياسية، ويعزّز من التوجهات المسلحة لحسم الخلافات وإعادة التموضع في السياسة الليبية.
وهنا، تبدو تناقضات في المنظور الدولي لإرساء السلام في ليبيا، ليس فقط بسبب نقص الحماية الكافية للاتفاق السياسي، ولكن في ظهور الانتقائية في النظر إلى المؤسسات الليبية، فوفق بيان الاجتماع الدولي حول ليبيا (الجمعية العامة) اعتبر مجلس النواب السلطة التشريعية الوحيدة، ولم يشر إلى الدور التشريعي لمجلس الدولة، ما يضع المؤسسات الليبية أمام حالةٍ انقسامية، تتجاوز آثارها اتفاق الصخيرات، ولا يتوقع أن تقف مظاهر الانقسام على مجلس النواب، وتبدو السياسة الدولية أكثر ميلاً، بشكل دائم، إلى إقرار الوضع القائم.
لعل المشكلة الواضحة منذ صدور الاتفاق السياسي (ديسمبر/ كانون الأول 2015)، تتمثل في أن الميراث الانقسامي صار أكثر ملازمةً للسياسة في ليبيا، وهو ما يشكل حالةً من المراوحة في حماية اتفاق الصخيرات، وطرح إمكانية تعديله، ما يضعف حجيته نصاً دستورياً، ويفتح المجال أمام اهتزاز المؤسسات، ومع تزايد هذه الاحتمالية، تكون ليبيا أمام خياراتٍ مفتوحة على الصراع.