مأزق معسكر سياسي: الإصلاح والعنف (3-5)
بانت معالم المأزق التاريخي لتيار الإسلام السياسي بين حدّين، هما: 1. ظهور تنظيم الدولة الإسلامية الذي جمع بين شخصية حركة طالبان (التمدّد الأفقي على الأرض، ومحاولة بسط السيادة في تقليد لبنية الدولة) وحركة القاعدة (التعبئة من كل أصقاع الأرض إلى ساحة الجهاد المشتعلة)، مراهناً على تحويل غضب المظلومين إلى حقدٍ طائفي، ومستخدماً وسائل عنيفة غير مسبوقة في حدّتها. 2. فشل تجربة الإسلاميين في الحكم (السودان، ومصر أخيراً) والاغتراب الكامل عن تجربة حكم الإسلاميين في إيران، وتحوّل الأخيرة إلى هدفٍ لتعبئة إسلامية مضادة في البلدان العربية، ولا سيما في العراق وسورية واليمن.
بينت السنوات الأخيرة أن شعار "الإسلام هو الحل" لا يعني إلا التغطية على غياب برنامج، وتحويل القصور إلى فضيلة. وقد بان ذلك بوضوح مع وصول الحركات الإسلامية إلى الحكم، أو حتى كمليشيات في إدارة مناطق. لقد قتل، أخيراً، 700 سوري في اشتباكات بين "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" في مرحلةٍ كانت فيها حلب تُقصَف بوحشية من قوات النظام والطائرات الروسية. فحين كان الشعب السوري يستصرخ ضمير العالم ضد قصف حلب، كانت قوى إسلامية تتعرّض للقصف، وأخرى تسيطر على غوطة دمشق، وجميعها تؤمن بحكم الشريعة، وأن "الإسلام هو الحل"، تشتبك في صراع دموي للسيطرة على ركام حيٍ، وشارعٍ مهدّم، وبنايةٍ متداعية.
لقد انتبهت قوى إسلامية منذ تأسيس حزب الوسط في مصر، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وعبر مراحل تطور حركة النهضة التونسية، إلى أن طريق العمل السياسي في النضال ضد الاستبداد، أو بهدف تولي إدارة المجتمع كتيار منتخب من الشعب، يقتضي حسم بعض القضايا المتعلقة بالبرنامج السياسي، بدءاً بمسألة المواطنة المتساوية، وانتهاءً بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وفيما يتجاوز صرخة "الإسلام هو الحل"، فهذا الشعار الذي هدف إلى التعبئة السياسية في مجتمع متديّن، ولإحراج غير الإسلاميين، أصبح مجرد تأكيدٍ على هوية التيار الإسلامي السياسي. ولكنه ليس حلاً، وصدق عبدالفتاح مورو، إذ وصف علاقة هذا الهتاف بالشعب كحال الطبيب الذي يهتف في وجه المريض، قائلا "الطب هو الحل"، عوض تشخيص المرض، ووصف علاجٍ محدّد له.
ولا يكفي، في هذا السياق، الادعاء أن التيار الإسلامي هو إسلامي لأنه يختلف عن غيره بتبني الأخلاقيات الإسلامية، فالدافع الأخلاقي للفاعلين السياسيين قائم. وهذا تحديد جيد لوظيفة الدين في السياسة كدافع أخلاقي، وليس كبرنامج. ولكن، ثمة حالاتٌ تدفع فيها المصالح الحزبية نحو خطواتٍ غير أخلاقية بأي تعريف. وينشأ في حالة الإسلام السياسي خطر أن يُستخدم الدين مقدّساً يعلو على القيم الأخلاقية، وبالتالي، يتحول إلى مبرر لتجاوز القيم الأخلاقية المتعارف عليها، وليس مصدراً للأخلاق.
وتحديد قيم الإسلام كموجه أخلاقي للحزب الإسلامي قد يتنافى، في النهاية، مع التديّن السياسي.
فالسؤال هو: ما هي هذه القيم؟ وفي رأيي أن قيم الإنسان الأخلاقية وظروفه الاجتماعية ونشأته تحدّد قراءته للإسلام، وتحدّد نوع الأخلاقيات التي يستفيدها منه. فالناس المختلفون في ثقافتهم المتكونة نتيجة لعوامل عديدة يقرأون في الإسلام قيماً مختلفة. والسياسة يمكنها أن تحوّل الدين إلى مجرد تبريرٍ لارتكاب أفعالٍ غير أخلاقية، كحال المقدّسات الدنيوية التي تُرفع فوق الأخلاق في الحركات العلمانية المتطرفة، والتي تفيد بأن الأخلاق نسبية، والأفعال تصلح وتقبح تبعاً لمصالح طبقةٍ، أو حزبٍ أو قضيةٍ ما؟ وهو ما يُفضي إلى تبرير حتى جرائم الإبادة في خدمة الهدف الأسمى، فالمقدس يقع فوق الخير والشر.
وهذا وجه أزمة الإصلاحيين الأول، والذي يقود إلى الاستنتاج التالي: إذا كان الدافع هو الأخلاق، فلماذا نحتاج إلى التديّن السياسي، وما المشكلة في التفسير القيمي الإنساني للدين، أو في قيم مثل العدالة والمساواة والحرية وحق الإنسان في الحياة، والتي يمكن لأي متدين أن يتبناها من دون التنازل عن العقيدة الدينية، ومن دون المساومة على التقوى، وهي الأهم.
أما المصدر الثاني للأزمة على طريق من يستنتجون ضرورة المضي، حتى النهاية، في مسألة الإصلاح، فهو الحاجة لحسم بعض القضايا. وسبق أن تطرقنا في المقال الأول للخلط بين مجالي السياسة والمقدّس. وهذا هو المبدأ العام. ولكن، ثمة تفاصيلُ يواجهها التيار العامل في السياسة، وتضطره الى وضع سياساتٍ بناء على اعتباراتٍ مهنيةٍ تخصصيةٍ لا تستفيد من استشارة مرجعياتٍ دينية، وقراراتٍ أخرى لا تتنافى مع مقارباتٍ متدينةٍ وتقَويّةٍ للإسلام. ولكن، قد تتنافى مع مسلّمات الإسلام السياسي، وتتعلق بالدولة وحكم الشريعة والحريات العامة وغيرها. وهذا يتطلب تعديل تعريف الإسلام السياسي يومياً إلى درجةٍ يصبح بعدها من الأفضل التنازل عن هذه التسمية، وتبني فكرٍ ما: يساري أو يميني، ليبرالي أو محافظ، توافقي أم أكثري، وثمّة خياراتٌ أخرى لا تحتاج إلى هذه التسميات، مثل تبني سبل الإدارة العقلانية للمجتمع والدولة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة المتساوية، والتميز في الانتماء للثقافة العربية الإسلامية هويةً، وتنميتها وتطويرها. وهذا بالطبع لا يكفي، فهذه قيم وقواعد عامة، يكمن التحدي في كيفية ترجمتها إلى خطواتٍ وبرامج وقراراتٍ في العمل السياسي.
السير على طريق الإصلاح في المعارضة (ضد الاستبداد مثلاً) أو في الحكم، بالمشاركة في السلطة أو في تحمّل أعبائها منفرداً، تعني الوصول، في النهاية، إلى صدامٍ مع تعريفات الإسلام السياسي وثقافته السياسية المتوارثة، ما يحتم أحد الخيارات التالية: حسم الصراع لصالح خيار مدني ديمقراطي بشكل كامل، مع التأكيد على الهوية الحضارية الإسلامية، كما في حالة الأحزاب المسيحية الديمقراطية (وربما بمقاربةٍ أكثر قرباً من مفهوم العدالة الاجتماعية فهذه أحزاب يمينية)، أو التقوقع والجمود والانعزال عن صيرورة التطور في المجتمع والسياسة، واتخاذ موقفٍ حذر ومحافظ، يواصل تقليد الإسلام السياسي الحركي، كما نعرفه متجسّداً في جماعة الإخوان المسلمين، وبعض ما تفرّع عنها من حركات، أو العنف والصدام مع المجتمع وصيرورات التطور فيه بشكل عام.
في المقال الرابع، نعالج هذا الخيار الأخير ومأزقه.