كثيرون لا يتردّدون في خوض غمار البحر الأبيض المتوسط ووجهتهم أوروبا. هم يرغبون في التخلّص من مآسيهم التي تختلف طبيعتها في أوطانهم. وبعدما كانت حركة الهجرة السرية قد تراجعت بسبب أزمة كورونا، فإنّها عادت لتنشط أخيراً
تتوالى مأساة المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط فصولاً، مع عودة القوارب التي تقلّ المهاجرين إلى حركتها شبه الطبيعية، بعد فترة انقطاع قسرية بفعل جائحة كورونا وإقفال الدول حدودها وموانئها في وجههم. ولعلّ الأفظع هو ما حلّ قبل أيام، إذ وجد نحو خمسين مهاجراً، 12 امرأة و38 رجلاً بمعظمهم من جيبوتي والصومال، أنفسهم تائهين في عرض البحر لمدّة خمسة أيام على متن قارب مطاطي، على مقربة من الحدود الإقليمية المالطية، قبل أن تكتشف قاربَهم طائرةٌ تابعة لمنظمة الإنقاذ البحري "سي ووتش" الألمانية. ووفق ما ذكرت صحيفة "تاغس شبيغل" الألمانية، فإنّ السلطات في مالطا اضطرّت إلى توجيه أمر إلى قبطان سفينة شحن للمواشي تحمل اسم "تاليا" لإنقاذ المهاجرين. والسفينة كانت قبالة سواحلها، في طريق عودتها من ليبيا إلى إسبانيا حيث أفرغت حمولتها، فنفّذت مهمّة إنقاذ المهاجرين العالقين في البحر، قبل أن يُسمَح لها بالدخول إلى المياه الإقليمية المالطية لفترة قصيرة، بسبب سوء الأحوال الجوية من دون أن تحصل على حقّ الرسو في الميناء. يُذكر أنّها تمكّنت فقط من إجلاء مهاجرَين اثنَين استلزما عناية طبية طارئة. ووفق موقع "دير شبيغل" الألماني، فإنّه وبعد مفاوضات استمرّت لأيام، سُمح لجميع من كان على متنها بمغادرة السفينة بواسطة قوارب إنقاذ إلى شاطئ مالطا، لتنتهي بذلك محنتهم ورحلتهم المأساوية المزرية.
وكانت صحيفة "بيلد" الألمانية قد نشرت صوراً لهؤلاء في خلال عملية إنقاذهم، بعدما كانوا قد اضطرّوا على مدى أيام إلى ملازمة سفينة معدّة لنقل الحيوانات وتغطي أرضيتها القاذورات. وفي حديث صحافي لصحيفة "دير شبيغل"، صرّح قبطان السفينة محمد شعبان بأنّ السلطات المالطية وكذلك الإيطالية رفضت بداية منح إذن الدخول إلى أراضيهما. لكن بناءً على طلب مركز تنسيق الإنقاذ في مالطا، سُمح بذلك، علماً أنّ السفينة كانت على بعد 50 ميلاً بحرياً إلى جنوب غرب جزيرة لامبيدوزا الإيطالية. وأضح شعبان أنّ هؤلاء كانوا في حالة يرثى لها في ظلّ نقص في الإمدادات، لافتاً إلى أنّ 20 منهم كانوا يعانون مشكلات صحية حرجة.
وقد لقي تصرّف السلطات المالطية سخطاً من قبل تحالف يضمّ أكثر من 35 منظمة غير حكومية انتقدت وفق ما ذكرت "دير شبيغل" عناد مالطا. وفي بيان، وصف التحالف تصرّف مالطا بأنّه "أكثر من مخجل"، لافتاً إلى أنّ إنقاذ المهاجرين من قبل سفينة الشحن أتى بناءً على تعلميات مالطية صريحة، بالتالي يجب على السلطات ألا تتهرب من مسؤولياتها. يُذكر أنّ رئيس الوزراء المالطي روبرت أبيلا عبّر عن امتعاضه من نظام الهجرة المعمول به حالياً في دول الاتحاد الأوروبي، ووصفه في لقاء مع منسّق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بـ"الفاشل"، ملقياً اللوم على دول أعضاء عدّة في الاتحاد لم تقدّم أيّ مساعدة ملموسة لبلاده في أسوأ مراحل أزمة كورونا.
المعاناة واضحة
التباين بين دول الاتحاد الأوروبي حول أهمية التضامن بخصوص توزيع المهاجرين شكّل محور نقاشات في اجتماع لوزراء داخلية الاتحاد الأوروبي عُقد عبر تقنية الفيديو قبل أيام، واختتم من دون اتفاق ملموس على كيفية التعامل مع مهاجري القوارب. من جهته، شدّد وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي حتى نهاية العام الجاري، على ضرورة التضامن بين الدول الأعضاء والعمل على تعديل سياسة الهجرة واللجوء. ولم يستبعد زيهوفر استخدام أساليب الضغط في حقّ المتخاذلين، مشيراً إلى أنّه من المخزي عدم إيجاد حلّ بعد لآلية استقبال طالبي اللجوء بعد خمس سنوات. أضاف أنّه مع وصول كلّ قارب يقلّ مهاجرين، فإنّ الأمر يتطلب جهوداً مضنية للاتفاق على كيفية توزيعهم على الدول الأعضاء في الاتحاد، معبّراً عن امتعاضه من رفض دول عدّة التدخل والمساعدة، في مقابل عدد قليل فقط من الدول الأوروبية التي تعلن استعدادها للتعاون وتقبل أعداداً من هؤلاء. وشدّد زيهوفر على أنّه من غير المسموح أن تستمرّ إيطاليا وإسبانيا ومالطا بإدارة هذه المسالة بمفردها، مقرّاً بأنّ تحقيق ذلك صعب جداً، فيما توقّع وصول مزيد من المهاجرين في خلال فصل الصيف هذا إلى أوروبا عبر المتوسط.
ومعاناة المهاجرين تناولتها كذلك منظمة أطباء بلا حدود، مع تمديد إجراءات العزل التي فُرضت على المخيّمات المكتظة في اليونان على خلفية أزمة كورونا. واتّهمت المنظمة أثينا باستغلال الوضع للحدّ من حركة تنقلات هؤلاء. يُذكر أنّ السلطات مدّدت فترة العزل حتى 19 يوليو/ تموز الجاري، بحسب ما أعلنته وزارة الهجرة اليونانية، وحدّدت للمهاجرين أوقاتاً معيّنة للتنقل ومن ضمن مجموعات صغيرة. كذلك، فإنّ "بطش" اليونانيين في حقّ المهاجرين تجلّى كذلك مع تفاقم الانتهاكات في حقّهم في البحر. وقد بيّنت تحقيقات صحافية أنّ عناصر من خفر السواحل عمدوا إلى تدمير وقنص قوارب مهاجرين في عرض البحر بهدف إبعادهم عن الجزر اليونانية. ويُروى أنّ رجالاً ملثّمين أقدموا على تعطيل محرّك زورق مطاطي في داخل المياه الإقليمية اليونانية. بالنسبة إلى عناصر الإنقاذ في المنظمات غير الحكومية فإنّ ما يحدث غير قانوني ومخالف للمواثيق الدولية، ويكشف عن الحقد وكذلك العنف المستخدم في حقّ المهاجرين في المياه الإقليمية.
في المقابل، تنفي اليونان هذه الاتهامات، مشدّدة على أنّ عمل خفر السواحل لديها يتمّ بأعلى مستوى من المهنية، لكنّ "دويتشه فيله" بثّت تسجيلات فيديو على مواقع للتواصل الاجتماعي تبرهن وقوع تلك التجاوزات، وكذلك عمليات الردع والعنف الهادفة إلى إبعاد المهاجرين التي تحصل بشكل متكرر وبطريقة عنفية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ السلطات في اليونان وبحسب تقارير إعلامية، تسعى إلى إقامة حاجز بحري بطول ثلاثة كيلومترات، وارتفاع أكثر من متر واحد في بحر إيجة لمنع المهاجرين من الوصول إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، بحلول نهاية أغسطس/ آب المقبل، وذلك بموجب مناقصة قامت بها وزارة الدفاع اليونانية لتركيب أنظمة حماية عائمة تمنع الزوارق من العبور. وقد انتقدت منظمات تنشط في مجال حقوق الإنسان المشروع بشدّة، من بينها منظمة العفو الدولية التي وجدت أنّ هذه الخطة تثير أسئلة مقلقة حول كيفية تمكّن عناصر الإنقاذ من الاستمرار في مساعدة المهاجرين في البحر الذين يعرّضون حياتهم للخطر بهدف الوصول إلى أوروبا.
عرقلة من خفر السواحل
في السياق، فإنّ سفينة الإنقاذ الألمانية "سي ووتش 3" التي أقلّت أخيراً نحو 200 مهاجر من البحر الأبيض المتوسط إلى إيطاليا، مُنعت من مغادرة ميناء بورتو أمبيدوكلي في جزيرة صقلية الإيطالية من قبل خفر السواحل. وذكرت صحيفة "دي فيلت" الألمانية أنّ السلطات هناك أعادت سبب المنع إلى قصوريتعلّق بالأمان والتشغيل التقني، بالإضافة إلى عيوب فنية وانتهاكات للأنظمة البيئية، مشدّدة على أنّ هذه المخالفات قد تعرّض سلامة السفينة وطاقمها للخطر وكذلك سلامة من يتمّ إنقاذه. وأكّدت السلطات الإيطالية أنّ عمليات الفحص الروتينية هذه تحتكم إلى قواعد ولوائح دولية وأخرى خاصة بالاتحاد الأوروبي لحماية البحر.
وترى منظمات إغاثية وإنسانية أنّ خفر السواحل يعمدون بشكل منتظم إلى عرقلة عملها بسبب الضوابط ومنعها من الإبحار، وفق ما ذكرت صحيفة "دي فيلت". أمّا منظمة "سي ووتش" التي تشغّل السفينة المذكورة، فعدّت ما حصل معها خدعة جديدة لإعاقة سفن الإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط من المغادرة. وقال المتحدث باسم المنظمة روبن نويغباور لـ"وكالة الأنباء الإنجيلية"، إنّ "ما يدّعونه بخصوص العيوب التقنية قديم"، واصفاً ما حصل بـ"الأضحوكة". وأوضح أنّه "في خلال خمس سنوات من العمل في الإنقاذ البحري، لم تُسجَّل حادثة واحدة"، مشدداً على أنّه مقتنع تماماً بأنّ "سفينة الإنقاذ لطالما كانت آمنة ولا تشوبها شائبة ولدينا كلّ المستندات اللازمة". ويعبّر عن خشيته من أن "تطلب السلطات الإيطالية تصنيفاً مختلفاً للسفينة التي تحمل العلم الألماني لتعمل بموجب القانون الإيطالي. بذلك ستكون الإجراءات معقّدة".