28 أكتوبر 2024
مؤتمر فلسطينيي الخارج حجر في مياه راكدة
ضجة كبرى وتساؤلات واتهامات رافقت الدعوة إلى عقد مؤتمر لفلسطينيي الخارج في إسطنبول. توزّع مطلقوها على اتجاهين رئيسين؛ أولهما، أنصار السلطة الوطنية الفلسطينية الذين تدرّجت اتهاماتهم، من العتب على عدم تنسيق منظمي المؤتمر مع دوائر منظمة التحرير التي يُفترض فيها، بحسب رأي أصحاب الاتهام، أن تُشرف على مثل تلك النشاطات (للمغتربين) الفلسطينيين، متجاهلين المدلول الخطير لإطلاق اسم (المغتربين) عليهم، وعلى الدائرة التي تزعم التكلّم باسمهم، وكأنّ هنالك وطنًا قد اختاروا الاغتراب عنه بمحض إراداتهم ومشيئتهم، وهي دائرة قد استُحدثت بعد اتفاقية أوسلو الكارثية، وفي هذا الاسم ما يُغني القارئ عن الاستفاضة في الكلام، وصولًا إلى تكرار الاتهامات الممجوجة حول السعي إلى استبدال منظمة التحرير، والتآمر عليها، عبر استبدالها بكيان سياسي جديد .
غاب عن هؤلاء أنّ النظام الداخلي للمجلس الوطني الفلسطيني يحتّم عليه الانعقاد مرة كل عام، وأنّه منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وحتى مؤتمر الجزائر عام 1988، عُقد 22 اجتماعًا في 24 عامًا، لكنّه أُدخل ثلاجة الموتى بعد اتفاق أوسلو، فلم يُعقد أي اجتماع له، أي أنّه وُضع في الثلاجة، وجرى تجميده منذ 29 عامًا. ويندرج هذا الحال على واقع المنظمات الشعبية بأغلبيتها التي لم تُجدد شبابها، ولم تعقد مؤتمراتها، أو تختار ممثليها طوال هذه الفترة، فضلًا عن أعضاء المجلس الوطني واللجنة التنفيذية التي مضى على عضوية من تبقى أحياء منهم أكثر من 47 عامًا. تُرى، بعد هذه الأرقام التي لا تقبل الجدل، من هو المتهم بمحاولة القضاء على منظمة التحرير، واستبدال مؤسساتها بمؤسسات السلطة الفلسطينية، ونسيان كل ما هو خارج الأرض الفلسطينية المحتلة من الفلسطينيين خارج الوطن، أو في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ 1948.
الاتجاه الثاني الذي أوسع المؤتمر شتمًا ضم بعض الرفاق، وأصدر بيانًا انتقد فيه حال منظمة التحرير، ودعا إلى إصلاحها! ولكن لم يعجبه مكان انعقاد المؤتمر، في تركيا، على خلفية
اعتبر آخرون أنّ المؤتمر جاء ردًا على مؤتمر طهران، ضمن حالة الاستقطاب الإقليمي، ولم يحالفهم الصواب في ذلك، إذ ثمّة من حضر المؤتمرين، بل وجاء من طهران إلى إسطنبول، فضلًا عن الفارق أنّ الأول سنوي لدعم فلسطين يتم بدعوة من الحكومة الإيرانية، فيما الثاني مؤتمر شعبي فلسطيني، لم يحضره أي مسؤول تركي أو وفد عربي أو أجنبي. وقد حرص المؤتمر، في بيانه الختامي، على أن يوضح رفضه الكامل الانضمام إلى أي محور إقليمي أو التدخل في شؤون أي دولة عربية، مستلهمًا شعار "فتح" التاريخي في ذلك، ونبذ الانقسام والفرقة، إذ إنّ الهدف والدافع والبوصلة لا يتعدّون فلسطين.
المؤتمر الشعبي الذي عُقد تحت شعار "مشروعنا الوطني طريق عودتنا" حضره أكثر من خمسة آلاف شخص من خمسين دولة، ولم يكن مهرجانًا خطابيًا فحسب، إذ شهد عشرات الفعاليات الفكرية والندوات وورش العمل، وإبداعات الشباب في مختلف المناطق، كما شهد اجتماعّا للهيئة العامة ضم أكثر من 300 شخص من اتجاهات مختلفة، وانبثقت عنه أمانة عامة، وصدر عنه بيان سياسي، أعاد التمسك بالميثاق الوطني الفلسطيني 64-68، وبحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، وبتحرير كامل التراب الفلسطيني. كما أعلن عزمه على العمل من أجل إصلاح منظمة التحرير، بوصفها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، على قاعدة الالتزام بالثوابت وبالوحدة الوطنية وبالتمثيل الديمقراطي. بإيجاز، يطرح البيان السياسي بوضوح برنامجًا مختلفًا ومناقضًا لبرنامج المفاوضات والحلول السياسية التي أوصلتنا إلى هذا الانحدار.
أكثر ما آلمني في المؤتمر مشاهدة الوفود القادمة من الدول الأوروبية، لا أُبالغ إذا قلتُ إنّ من بين كل ثلاثة إخوة التقيتهم كان هنالك اثنان خدما في لبنان مع "فتح" وفصائل أخرى، وكانوا
تميّز المؤتمر بوجود أبناء لقيادات فلسطينية تاريخية، وبالرسائل التي جاءته من رئيس أول مجلس وطني فلسطيني، عبد المحسن القطان، ومن رئيس اللجنة التي وضعت الميثاق الوطني، أنيس فوزي القاسم، ومن عضو المكتب السياسي السابق للجبهة الشعبية، والعضو السابق أيضًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الرفيق صلاح صلاح. كما شهد كلمات ومشاركة من شخصيات فكرية وسياسية مستقلة وبارزة، مثل المهندس سلمان أبو ستة، ومنير شفيق، وأنيس مصطفى القاسم وعشرات غيرهم. وعبّر عن مضمون الرسائل من هذه الشخصيات البيان السياسي الذي جاء حصيلة توافق الأفكار والاتجاهات المختلفة.
نجح خمسة آلاف من فلسطينيي الخارج في إلقاء حجر كبير في بركة مياه راكدة، ستتفاعل دوائرها، لعلها تعود إلى صفائها الثوري.