شهدت ليبيا خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي وبدايات هذا العام، ما يشير إلى عودة تنظيم "داعش" الإرهابي إلى نشاطه وقوته، بعد عامين من انكسار شوكته في مدينة سرت على يد قوات "البنيان المرصوص" عام 2016.
وأكدت حادثة الانتحاري الذي فجر نفسه أمس الثلاثاء، داخل مركز شرطة منطقة غدوة، جنوب البلاد، استمرار خطره ووجوده، ولا سيما في الجنوب الليبي، وهي المنطقة الرخوة في خاصرة البلاد، بما تشكله الحدود المفتوحة التي توفر السلاح والمقاتلين للتنظيم وسط غياب كامل لسيطرة حكومات البلاد، والفوضى الأمنية التي سببتها عشرات المليشيات المسلحة، بعضها تعود لحركات معارضة تشادية تتخذ من الجنوب نقطة لمعارضة النظام التشادي.
ومع إعلان قادة قوات اللواء خليفة حفتر أمس، تمكن القوات من تحرير 23 رهينة من أهالي الجنوب كانوا في قبضة "داعش"، خلال اشتباكات مسلحة خاضتها ضد فصيل للتنظيم بمنطقة الدوائر الزراعية جنوب غدوة، أعلنت وزارة داخلية حكومة الوفاق، مساء ذات اليوم، مباركتها لمباحثات رسمية بينها وبين مديرية أمن بنغازي، مؤكدة أن هدف توحيد المؤسسة الأمنية جاء بالدرجة الأولى لمواجهة خطر تنظيم "داعش" والمجموعات الإرهابية في البلاد، ولسدّ حالة الفراغ الأمني التي أبقت الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الإرهاب.
ويشير ذلك إلى استمرار اختلاف وجهات نظر بنغازي وطرابلس في كيفية معالجة خطر الإرهاب، فقوات حفتر تتجه إلى العمل المسلح والمواجهة، وطرابلس تتجه إلى مقاربة أمنية لتوحيد جهود المؤسسة الأمنية.
وعلى الرغم من تمكن البلاد من كسر شوكة التنظيم، خلال عام 2016 في سرت وانهيار حلم إقامة "الدولة الإسلامية"، لا يزال شتات هذا التنظيم يشكل خطراً كبيراً في عدة مناطق، فقد أثبتت تصريحات مسؤولين أمنيين أن الخطر لا يزال في شكل خلايا نائمة في مدن كبرى، وبعض هذه الخلايا خرج عن صمته من خلال عدة هجمات لم يتوقف التنظيم عن تنفيذها خلال عامي 2017 و2018.
"داعش" في الجنوب
لكن الظهور الأبرز للتنظيم كان باتجاه الجنوب، حيث الحدود المفتوحة وإمكانيات التمويل، ولا سيما من خلال تجارة البشر التي توفر للتنظيم المال والمقاتلين، وكانت أول تصريحات مسؤولي البلاد على لسان رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام في طرابلس، الصديق الصور، في سبتمبر من عام 2017، عندما أكد أن "داعش" أسس جيشاً في الصحراء بقيادة الليبي المهدي سالم دنقو المعروف بلقب "أبو بركات"، وفي إشارة لعودة قوة التنظيم، أوضح الصور بأن جيش دنقو مؤلف من ثلاث كتائب.
وفي مارس 2018 أكد العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم قوات حفتر، وجود تقارير تشير إلى نشاط التنظيم في الجنوب وصولاً إلى صحراء جنوب سرت شمالاً، بل يتلقى الدعم من مجموعات قبلية تمده بالوقود والسلاح والغذاء.
أما دولياً، فالتقارير الأممية المتوالية تشير إلى أن التنظيم استفاد بشكل كبير من الحدود الليبية المفتوحة على ست دول مجاورة لليبيا، وأن خطره في تزايد واتساع، مشيرة في أكثر من مناسبة إلى أنه يستفيد بالدرجة الأولى من حالة الانقسام السياسي والأمني التي تعانيها البلاد ليعيد تنظيم نفسه.
من جانبه، لم يتأخر التنظيم عن تأكيد هذه الأنباء، ففي فبراير من العام الماضي أكد عبر صحيفة تعرف باسم "النبأ" تابعة للتنظيم، أنه بصدد شن عدة هجمات على مواقع ليبية، واصفاً مسؤولي الحكومات الليبية بـ"المرتدين الواجب قتالهم"، ليعلن في ما بعد مسؤوليته عن أكثر من هجمة في ربوع البلاد، كانت أكثرها دموية هجمته على منطقة الفقهاء جنوب البلاد في أكتوبر الماضي، التي أسفرت عن مقتل أربعة مواطنين وخطف 10 آخرين، وتوالت عمليات الاختطاف لتصل إلى 23 مواطناً، بالإضافة للاعتداء على منازل المواطنين وحرق مركز شرطة المنطقة.
وفي أواخر نوفمبر، شنّ التنظيم هجوماً على منطقة تازربو القريبة من الحدود السودانية، وسيطر على مركز الشرطة لعدة ساعات وسط مقتل وإصابة أكثر من 28 شخصاً من أهالي المنطقة.
"داعش" في الغرب والشرق
أما في الغرب والشرق، فقد استهدف التنظيم مسجد بيعة الرضوان في بنغازي في يناير 2018، متسبباً في مقتل 41 شخصاً على الأقل وإصابة 75 آخرين، والشهر التالي استهدف مسجداً بذات المدينة أسفر عن مقتل وإصابة ما يزيد عن 11 شخصاً، وفي مايو من ذات العام استهدف مقر مفوضية الانتخابات وسط العاصمة طرابلس، ما أدى إلى مقتل العشرات.
وفي سبتمبر الماضي، استهدف مقر مؤسسة النفط بالعاصمة التي تمكن من اقتحامها والسيطرة على بعض مكاتبها لساعات، قبل أن يفجر انتحاريان نفسيهما وسط المقر، ليختتم "داعش" العام الماضي بالهجوم على مقر وزارة الخارجية منتصف ديسمبر، مخلفاً عدداً من القتلى والجرحى.
وشكل بيان التنظيم، الذي أعلن مسؤوليته عن الهجوم على مقرّ الخارجية تصريحاً واضحاً بنية التنظيم في الاستمرار في شنّ هجماته، ومن ثم ثقته في عودة قوته، إذ توعد "بالثأر" من كل من ساهم في الحرب ضد من وصفهم بـ"المجاهدين في مدينة سرت وما حولها"، بل شدد على أن "المعركة هناك ما زالت مستمرة ولم تنته إنما امتدت لتشمل كافة المدن التي ساهمت في الحرب على الشريعة".
تبعث تحركات التنظيم برسالة واضحة، مفادها قدرته على التحرك في عدة مناطق واستهداف مراكز حيوية في البلاد، عبر خلاياه النائمة التي سبق أن حذرت أصوات محلية ودولية من انتشارها في المدن الليبية.
كما تشير هجماته المتكررة إلى مساعي التنظيم لتقويض جهود إحلال السلام في البلاد، والإبقاء على حالة الفوضى التي تمثل البيئة المناسبة له للتمدد من جديد في الأراضي الليبية.
ومع نهاية 2018، يذهب الليبيون نحو عام جديد يحمل في طياته انتخابات قادمة تهدف لتوحيد السلطة في البلاد، لكن تواصل الخلافات وغياب مؤشرات التوافق يربك الآمال وينذر بفشل جديد قد يزيد من تعقيد الوضع السياسي في البلاد.
وفي ظل هذا المشهد الغامض، تبقى المخاوف قائمة، مع دخول العام الجديد، من استمرار سفك الدماء الليبية على مذبح الإرهاب، فهل تسهم عودة التنظيم في استمرار الفرقة السياسية أم توفر فرصة أكبر أمام القادة لتفهّم الأوضاع، والبدء في مرحلة سياسية تمكنهم من توحيد الجهود من أجل القضاء عليه؟