09 نوفمبر 2024
مؤشّر "الإيكونوميست".. وارتداد الديمقراطيات الكبرى
تنشر مؤسّسة إيكونوميست البريطانية، بداية كل عام، تصنيفا لحالة الدّيمقراطية في العالم، من خلال مؤشّرات عديدة تُحتسب، في نهايتها، مرتبة كل دولة. وقد صدر قبل أيام التّصنيف الجديد الذي يربط بين اتّجاهين متّفقين، تماما، حيث لوحظ تراجع المؤشّر في الدّيمقراطيات الكبرى مع استمرار إدراج البلدان العربية في ذيل التّصنيف، باعتبارها دولا غابت وتغيب فيها الديمقراطية، على الرّغم من ريح الحرية التي قاربت تحقيق هدفها، غداة "الثورات العربية"، والتي ارتدت، جميعها، ثورات مضادة، حروبا أهلية أو ديمقراطيات هشّة.
المتغير الأول المُلاحظ على تصنيف 2019 مرتبط بانتشار الشعبوية في الديمقراطيات الكبرى، لتسجّل "الإيكونوميست" ما وصفته بميلاد ظاهرة "الديمقراطيات غير الكاملة"، أي التي تشهد إشكاليات مجتمعية، على غرار ظواهر عدم المساواة، إضافة إلى الانتشار الواسع للتمييز العنصري ورفض المهاجرين، وذلك كلّه في فضاء لم يقتصر على دول أوروبية بعينها (فرنسا، ايطاليا، المجر...)، بل امتدّ إلى الولايات المتحدة، وخصوصا بعد صعود دونالد ترامب إلى سدّة الرّئاسة فيها، منذ ثلاث سنوات. وحاولت المؤسسة البريطانية تفسير ذلك بمؤشراتٍ اقتصاديةٍ، وأرجعته إلى العولمة والأزمة الاقتصادية العالمية، من دون أن تورد الأسباب المرتبطة، أساسا، باستراتيجية الرأسمالية العالمية، والانخراط الواسع للمحور الصناعي العسكري في رسم دائرة الهيمنة والسيطرة من دون تفكير في القيم المؤسّسة، في تلك الديمقراطيات، على الحرية، المساواة وتكافؤ الفرص. ولكن، على الرغم من ذلك التراجع للديمقراطيات الكبرى في التصنيف، ما زالت قيم الانتخاب الحر والقدرة على الاحتجاج ورفع الصّوت بالنقد لمناورات الرأسمالية العالمية قائمة، وقد يكون مثال "السُّترات الصّفراء" من أمثلة تلك القدرة التي لا يمتلكها غيرُهم من مواطني (أو رعايا) الدّول المصنّفة غير ديمقراطية، أو ديكتاتورية – تسلّطية، في المؤشّر نفسه.
وبشأن العالم العربي، نجد "الإيكونوميست" كأنها تستنسخ مؤشّر العام الماضي، بحيث إنّ دوله لم تتحرّك قيد أنمُلة للخروج من دائرة الاستعصاء عن التغيير الذي أصبح ملازما لها مند
عقود. عند النظر في النقاط التي نالتها الدول العربية في ذلك المؤشّر، نستنتج ارتباط ذلك التصنيف بغياب ظواهر إجرائية عديدة، بوجودها يمكن الإقرار بوجود أدنى درجات الديمقراطية، على غرار الانتخابات الحرّة، الحرية النقابية، حرية الصحافية،.. إلخ.
المهمّ، هنا، ليس التّعليق على ذلك التّصنيف المتكرّر شكلا ومضمونا، عاما بعد عام، بالنسبة للعالم العربي، بقدر ما يهمّ، بالأحرى، ارتباط ذلك التراجع في تصنيف الديمقراطيات الكبرى في المؤشر بالإصرار العربي على البقاء في دائرة الاستبداد والتسلّطية، بحيث إن ذلك الارتباط يؤشّر إلى وفاة ما كان يُعرف بالضّغط الغربي للتحوّل نحو الدّيمقراطية، والذي كانت كلّ من أوروبا والولايات المتحدة تتّخذه ذريعةً لإجراء تغييرات، أو الضغط للوصول إليها عبر "الإصلاح السياسي"، حيث تمّ ذلك من خلال مبادرات "الشرق الأوسط الكبير"، "الشرق الأوسط الجديد"، "الاتحاد من أجل المتوسط"، "سياسة الجوار الأوروبية" وغيرها من المبادرات التي وُلدت وماتت، من دون أن تحدث التغيير الذي كان مأمولا منها.
ارتكزت تلك المبادرات على تشخيص بناء الاستبداد، وسبل الخروج منه بعيدا عن حاجة العرب للحرية وفضاء التعبير، إضافة إلى مسار التشاركية على غرار ما يقع في بلدان كثيرة، عبر العالم، بل ارتكز على تشخيص تلك الحاجة في إطار دائرة مسلّمةٍ واحدةٍ، تتضمّن مقاربة الرّفض للآخر المرادفة للعالم العربي، ومرجعيته الحضارية العربية – الإسلامية، وعلى أساسها حدّدت، متى وكيفما شاءت، المعتدل، المتطرّف، الدّيمقراطي، المجتمع المدني، ظروف الاختيار الحرّ ودرجة التحوّل نحو الديمقراطية، كما حدّدت، أيضا، مصطلحاتٍ بعينها مثل الثّورة والثّورة المضادّة.
أدّى ذلك التّحديد لطبيعة التيارات السياسية المقبولة والخطوط، بل خطوات الديمقراطية المسموح ببلوغها، إلى ديمقراطية ممسوخة تماما، جعلت من العالم العربي الاستثناء العالمي في مسارات الذهاب نحو تبنّي الديمقراطية. وزاد الأمر استفحالا تزامن تلك الإستراتيجية مع انتشار رديف الاستبداد، وهو الإرهاب، وإلصاقه، بهدف تأمين الكيان الصهيوني، بالمنطقة وبساكنيهـا، وبالتالي اقتضاء ذلك تطبيق إستراتيجية جديدة، تتضمّن تأمين الغرب، واحتواء التهديد ثم التّفكير، يوما ما، في استكمال مسار التحوّل نحو الديمقراطية.
نتج من ذلك، بالنسبة للعالم العربي، انقلاب مفاهيم الديمقراطية اللاّئقة بالمنطقة، حيث اقتضى الأمر، من الغرب، تعريفا جديدا لما ترتجيه من المنطقة، هل هو الكفّ عن إنتاج "صناعة الموت" أو انتهاج "مقاربة التغيير"، لنصل إلى ما ورد في العنوان، أي ارتداد الديمقراطيات الكبرى، وارتباط ذلك بمضمون الإستراتيجية الغربية الجديدة، وهو ما يعني أن مؤشّر "إيكونوميست" غير ذي فائدة، لتوصيف الحالة الديمقراطية العربية، إذا لم يتم إرفاق ذلك بمضمون الارتداد الغربي عن الديمقراطية لصالح العولمة، وإلزامية أن يكون العالم العربي ضحية لذلك، حيث نرى صمتا غربيا عن انتهاكات الحرية، بل الكرامة الإنسانية في العالم العربي، وكأنّ الغرب يقول، بلسان حاله، إنّ الإنسان العربي يستحقّ أكثر من الوضع الذي يوجد فيه، وإلاّ انقلب تهديدا لنا، ولحلفائنا، بل ولاقتصادنا المأزوم.
في الجانب العربي، ألهم ذلك الارتداد للديمقراطيات الكبرى عن مواصفات الديمقراطية، من
خلال المؤشرات القيمية والإجرائية، كما حدّدتها "إيكونوميست"، الإصرار على إيجاد ظروف إمّا مانعة للتغيير، كابحة له أو حائلة دون الوصول إليه، وهي أوضاعٌ نجدها منتشرةً على طول الجغرافيا العربية وعرضها، مرتبطةً، بشكل أو بآخر، بمضمون الإستراتيجية الغربية التي حدّدت عدوّها مُمثلا في الإرهاب، وليس في بناء الاستبداد، وهما دائرتان مرتبطتان ارتباطا وشائجيا، لا يمكن أن توجد دائرة دون الأخرى.
يكون العالم العربي، بذلك الإلهام المذكور، جاهزا للبقاء في دائرة الاستبداد والاستعصاء عن التغيير إلى ما يشاء الله، حيث ما زال الحال على ما شاهده عبد الرحمن الكواكبي في مطلع القرن العشرين، وسيبقى، حتما، ببقاء الظروف المولّدة له، وقتا طويلا، حدّده أحد السّاسة الجزائريين بقرن، تأكيدا للرهان الحقيقي لمنظومة الحكم العربية: الاستقرار والأمن مرادفان للبقاء في الحكم والحؤول دون تبنّي مساراتٍ للتغيير، قد تكون هي نفسها "مغامراتٍ" نهايتها تغييب للأمن وتهديد للغرب.
يحتاج خطاب الحقيقة إلى إيراد ما أوردناه من ملاحظاتٍ بشأن ذلك المؤشر الذي، على الرغم من فائدته في توصيف حالة الديمقراطية في العالم، إلاّ أن ثمّة أمورا كان يجب التركيز على ذكرها، لتكتمل الصورة الصانعة للوعي العربي، والباعثة على عدم الانخداع بالخطابات الرنانة والمسارات الضبابية التي ليس لها من أهدافٍ إلاّ مداراة ذلك الوعي، وصنع مقاربات للتغيير، غير التي قد تنتج، يوما ما، لعلّه يكون قريبا، التّغيير المقبول والمأمول. وإنّ غدا لناظره لقريب.
المتغير الأول المُلاحظ على تصنيف 2019 مرتبط بانتشار الشعبوية في الديمقراطيات الكبرى، لتسجّل "الإيكونوميست" ما وصفته بميلاد ظاهرة "الديمقراطيات غير الكاملة"، أي التي تشهد إشكاليات مجتمعية، على غرار ظواهر عدم المساواة، إضافة إلى الانتشار الواسع للتمييز العنصري ورفض المهاجرين، وذلك كلّه في فضاء لم يقتصر على دول أوروبية بعينها (فرنسا، ايطاليا، المجر...)، بل امتدّ إلى الولايات المتحدة، وخصوصا بعد صعود دونالد ترامب إلى سدّة الرّئاسة فيها، منذ ثلاث سنوات. وحاولت المؤسسة البريطانية تفسير ذلك بمؤشراتٍ اقتصاديةٍ، وأرجعته إلى العولمة والأزمة الاقتصادية العالمية، من دون أن تورد الأسباب المرتبطة، أساسا، باستراتيجية الرأسمالية العالمية، والانخراط الواسع للمحور الصناعي العسكري في رسم دائرة الهيمنة والسيطرة من دون تفكير في القيم المؤسّسة، في تلك الديمقراطيات، على الحرية، المساواة وتكافؤ الفرص. ولكن، على الرغم من ذلك التراجع للديمقراطيات الكبرى في التصنيف، ما زالت قيم الانتخاب الحر والقدرة على الاحتجاج ورفع الصّوت بالنقد لمناورات الرأسمالية العالمية قائمة، وقد يكون مثال "السُّترات الصّفراء" من أمثلة تلك القدرة التي لا يمتلكها غيرُهم من مواطني (أو رعايا) الدّول المصنّفة غير ديمقراطية، أو ديكتاتورية – تسلّطية، في المؤشّر نفسه.
وبشأن العالم العربي، نجد "الإيكونوميست" كأنها تستنسخ مؤشّر العام الماضي، بحيث إنّ دوله لم تتحرّك قيد أنمُلة للخروج من دائرة الاستعصاء عن التغيير الذي أصبح ملازما لها مند
المهمّ، هنا، ليس التّعليق على ذلك التّصنيف المتكرّر شكلا ومضمونا، عاما بعد عام، بالنسبة للعالم العربي، بقدر ما يهمّ، بالأحرى، ارتباط ذلك التراجع في تصنيف الديمقراطيات الكبرى في المؤشر بالإصرار العربي على البقاء في دائرة الاستبداد والتسلّطية، بحيث إن ذلك الارتباط يؤشّر إلى وفاة ما كان يُعرف بالضّغط الغربي للتحوّل نحو الدّيمقراطية، والذي كانت كلّ من أوروبا والولايات المتحدة تتّخذه ذريعةً لإجراء تغييرات، أو الضغط للوصول إليها عبر "الإصلاح السياسي"، حيث تمّ ذلك من خلال مبادرات "الشرق الأوسط الكبير"، "الشرق الأوسط الجديد"، "الاتحاد من أجل المتوسط"، "سياسة الجوار الأوروبية" وغيرها من المبادرات التي وُلدت وماتت، من دون أن تحدث التغيير الذي كان مأمولا منها.
ارتكزت تلك المبادرات على تشخيص بناء الاستبداد، وسبل الخروج منه بعيدا عن حاجة العرب للحرية وفضاء التعبير، إضافة إلى مسار التشاركية على غرار ما يقع في بلدان كثيرة، عبر العالم، بل ارتكز على تشخيص تلك الحاجة في إطار دائرة مسلّمةٍ واحدةٍ، تتضمّن مقاربة الرّفض للآخر المرادفة للعالم العربي، ومرجعيته الحضارية العربية – الإسلامية، وعلى أساسها حدّدت، متى وكيفما شاءت، المعتدل، المتطرّف، الدّيمقراطي، المجتمع المدني، ظروف الاختيار الحرّ ودرجة التحوّل نحو الديمقراطية، كما حدّدت، أيضا، مصطلحاتٍ بعينها مثل الثّورة والثّورة المضادّة.
أدّى ذلك التّحديد لطبيعة التيارات السياسية المقبولة والخطوط، بل خطوات الديمقراطية المسموح ببلوغها، إلى ديمقراطية ممسوخة تماما، جعلت من العالم العربي الاستثناء العالمي في مسارات الذهاب نحو تبنّي الديمقراطية. وزاد الأمر استفحالا تزامن تلك الإستراتيجية مع انتشار رديف الاستبداد، وهو الإرهاب، وإلصاقه، بهدف تأمين الكيان الصهيوني، بالمنطقة وبساكنيهـا، وبالتالي اقتضاء ذلك تطبيق إستراتيجية جديدة، تتضمّن تأمين الغرب، واحتواء التهديد ثم التّفكير، يوما ما، في استكمال مسار التحوّل نحو الديمقراطية.
نتج من ذلك، بالنسبة للعالم العربي، انقلاب مفاهيم الديمقراطية اللاّئقة بالمنطقة، حيث اقتضى الأمر، من الغرب، تعريفا جديدا لما ترتجيه من المنطقة، هل هو الكفّ عن إنتاج "صناعة الموت" أو انتهاج "مقاربة التغيير"، لنصل إلى ما ورد في العنوان، أي ارتداد الديمقراطيات الكبرى، وارتباط ذلك بمضمون الإستراتيجية الغربية الجديدة، وهو ما يعني أن مؤشّر "إيكونوميست" غير ذي فائدة، لتوصيف الحالة الديمقراطية العربية، إذا لم يتم إرفاق ذلك بمضمون الارتداد الغربي عن الديمقراطية لصالح العولمة، وإلزامية أن يكون العالم العربي ضحية لذلك، حيث نرى صمتا غربيا عن انتهاكات الحرية، بل الكرامة الإنسانية في العالم العربي، وكأنّ الغرب يقول، بلسان حاله، إنّ الإنسان العربي يستحقّ أكثر من الوضع الذي يوجد فيه، وإلاّ انقلب تهديدا لنا، ولحلفائنا، بل ولاقتصادنا المأزوم.
في الجانب العربي، ألهم ذلك الارتداد للديمقراطيات الكبرى عن مواصفات الديمقراطية، من
يكون العالم العربي، بذلك الإلهام المذكور، جاهزا للبقاء في دائرة الاستبداد والاستعصاء عن التغيير إلى ما يشاء الله، حيث ما زال الحال على ما شاهده عبد الرحمن الكواكبي في مطلع القرن العشرين، وسيبقى، حتما، ببقاء الظروف المولّدة له، وقتا طويلا، حدّده أحد السّاسة الجزائريين بقرن، تأكيدا للرهان الحقيقي لمنظومة الحكم العربية: الاستقرار والأمن مرادفان للبقاء في الحكم والحؤول دون تبنّي مساراتٍ للتغيير، قد تكون هي نفسها "مغامراتٍ" نهايتها تغييب للأمن وتهديد للغرب.
يحتاج خطاب الحقيقة إلى إيراد ما أوردناه من ملاحظاتٍ بشأن ذلك المؤشر الذي، على الرغم من فائدته في توصيف حالة الديمقراطية في العالم، إلاّ أن ثمّة أمورا كان يجب التركيز على ذكرها، لتكتمل الصورة الصانعة للوعي العربي، والباعثة على عدم الانخداع بالخطابات الرنانة والمسارات الضبابية التي ليس لها من أهدافٍ إلاّ مداراة ذلك الوعي، وصنع مقاربات للتغيير، غير التي قد تنتج، يوما ما، لعلّه يكون قريبا، التّغيير المقبول والمأمول. وإنّ غدا لناظره لقريب.