ماذا دها الجمهورية الإسلامية؟
يستبطن السؤال، في العنوان أعلاه، شعوراً جارفاً بالدهشة والاستغراب الشديديْن، ليس فقط إزاء ما تتعرّض له المواقع والمراكز الحساسة في إيران من هجماتٍ منهجيةٍ متواصلة، بوتيرةٍ شبه يومية، وكأن سماء البلد المدجّج بالصواريخ البالستية قد أصبح مستباحاً كالسماء السورية، وإنما إزاء ما تبديه طهران من استكانةٍ وضعفٍ وقلة حيلة، أمام تحدٍّ لها هو الأقسى منذ الحرب مع العراق عام 1988، وربما الأكثر إيلاماً، سيما أنه يطاول أثمن ما لدى الجمهورية الإسلامية من ممتلكات نفيسة وذخائر استراتيجية، بما فيها البنية النووية، ويكسر الصورة التي نجح نظام الولي الفقيه بتظهيرها عن نفسه، قوةً إقليميةً، يحسب لها الحساب كله.
اللافت أن طهران، المصدومة بهذه الاختراقات العميقة، عمدت بكل ثمنٍ إلى التقليل من شأن الاستهدافات العميقة، والتهوين ما أمكن من أضرارها الفادحة. ومن اللافت كذلك أن ماكينة الدعاية، ذات الفم الكبير، دخلت في حالةٍ من "الصمت الرهيب" إزاء هذه الضربات المركّزة على بؤبؤ عين مرشدها الأعلى، وتصرّفت كأن شيئاً لم يكن. غير أن اللافت أكثر تحاشي الوكلاء في العواصم العربية الأربع المخطوفة، الإشارة إلى المُدبرين المعلومين، على الرغم من أنهم درجوا على تحميل الشيطانيْن، الأكبر والأصغر، تبعات كل تطاولٍ أرعن على سماء قلعة الأخ الأكبر، والتهديد برد انتقامي لا يبقي ولا يذر على كل حماقةٍ محتملة.
إذا صدّقنا الخطاب الإعلامي الإيراني القائل إن هذه الانفجارات والحرائق، المتتابعة بصورة منتظمة، ليست سوى حوادث عرضية، تسبّبت بها درجات الحرارة المرتفعة، وربما الأخطاء البشرية، فيما الوضع تحت السيطرة، فتلك مصيبةٌ في حد ذاتها، كونها تقول بالفم الملآن إن البنية التحتية لدى أصحاب المشروع الامبراطوري قد أصبحت متهالكة، وأن الإدارة الحكومية باتت مفكّكة، ناهيك عن أن الحرس الثوري، درع إيران ورمحها، قد أصابه الكلال، ونال منه الإخفاق المتواصل، ليس في الخارج فحسب، وإنما في الداخل أيضاً.
كان لمثل هذه الرواية الإيرانية المتهافتة أن تصيب سهماً من الحقيقة في الأيام الأولى، وأن يظل المخاطَبون بها بين مكذّب ومصدّق، سيما وأن جهة بعينها لم تأخذ على عاتقها مسؤولية "الحوادث الغامضة" هذه. أما وقد تطوّع الفاعل، لاحقاً، بالإفصاح عن هويته عبر الإعلام الأميركي، بعد أن استمرأ قلة الأدب بدون عقاب، وتيقن أن البلد المنهك المريض (25 مليوناً مصابون بفيروس كورونا) المفلس (ربع مليون ريال مقابل الدولار) ليس في وسعه ردّ الصاع صاعين، أو بألف صاع، وفق ما تعهد به حسن نصر الله، نقول فإن الصمت المطبق، والحالة هذه، يقدّم الإجابة المختصرة على السؤال في العنوان أعلاه، وهي أن الجمهورية الإسلامية اليوم ليست تلك التي كانت قبل تصفية قاسم سليماني.
بكلام آخر، وبحسب الوقائع التي جرت منذ مقتل قائد فيلق القدس، صار جلياً لكل ذي لب أن تغييب هذا الجنرال الذي كان بمثابة روح إيران، فخرها وتميمة سرّها، شكّل نقطة تحوّل فارقة في مسار ثورة آية الله روح الله الخميني، وإن من قرّر إزهاق روح سليماني كان قد قرر اختطاف روح هذه الثورة التي تقمصها رجل إيران القوي بجدارة، فكان للقاتل على رؤوس الأشهاد ما أراد من تلك المقتلة المتلفزة، حيث تفاقمت بعد ذلك مصاعب الداخل الإيراني بالجملة، وأتت المواجهات مع الخارج كلها خاسرة، وانتقلت الجمهورية الإسلامية من حالة الهجوم إلى وضعية الدفاع المتراجع، وفق ما تشي به أحوال العواصم الأربع، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، التي شرع بعضها في خلع الجلباب الذي ألبسه لهن الجنرال ذاته.
وأحسب أن هذا الاستقواء على إيران، وكل هذا الفجور غير المسبوق في التمادي عليها، يعود لسببين: حاجة إسرائيل الملحة إلى الاستثمار بكثافةٍ في ما تبقى من الوقت الأميركي المستقطع حتى الانتخابات الرئاسية. واستخذاء طهران المديد أمام مئات الضربات الإسرائيلية التي طاولت الحرس الثوري في سورية، وبعد ذلك العراق، الأمر الذي فتح شهية الجنرالات المتعطشين للحرب في واشنطن وتل أبيب، للقيام بهذه النقلة النوعية، بتوسيع بيكار الهجمات أكثر فأكثر، وانتقاء الأهداف الأشد أهميةً بلا تحسّب، بعد أن استقر في وعيهم الاستخباري أن المتوعدين بالرد الساحق الماحق على أي عدوان يطاول عرينهم، مصابون بالذعر، وربما الهلع من الانجرار إلى حربٍ شاملة.