27 أكتوبر 2024
ماذا لو لفّقنا كذبةً إلى دي ميستورا؟
الأول من نيسان/ إبريل هو يوم الكذب لدى أغلبية الشعوب، ويأخذ البحث عن حقيقته طابع الحكاية الأسطورية، كما هي حكايات الماضي التي ينتبه إليها العالم فجأةً، فيراها راسخة في حياة البشر بديهيةً لا تحتمل الجدل ولا النقاش، فتثير فضوله من أجل التقصّي والبحث عن حقيقتها.
ربما هو توق النفوس البشرية إلى التحرّر من قيد القوالب التي تراكمت فوق أرواحها خلال الزمن، التحرّر من الخوف في الدرجة الأولى الذي زرعه كل السلاطين على مرّ الزمان، سلطان الأعراف والموروث الثقافي الاجتماعي، سلطان العقيدة والدين، سلطان الحكم والسياسة، سلطان الأغلبية التي تحارب كلّ ما هو مختلفٍ عن نهجها وفلسفتها ونظم حياتها وفكرها، السلطان البطريركي الذي يُمارس بجدارةٍ في معظم البيوت كنموذج لطاغية كبير. التوق إلى لحظةٍ حقيقيةٍ، أو ربما إلى الفطرة الأولى، بعيداً عن ضوابط العقل وصرامته، ومنح الأرواح فسحة لتحلّق في فضاءٍ من الفرح المنعش.
كذبة نيسان نحمّلها أمانينا ورغباتنا المكبوتة وأحلامنا وطموحاتنا، بل نسعى، في يوم كهذا، يفرض قوانينه وشروطه القائمة على الغفران بالدرجة الأولى، إلى نبش قاع أرواحنا، وما يعتمل فيها من خيباتٍ وأمانٍ تبدو مستحيلةً، بموجب معطيات الواقع الذي نعيش فيه. لا يخشى الأشخاص من البوح، وهم يلبسون الأقنعة، كما في عيد "الوجه الثاني" في مسرحية "هالة والملك" للأخوين رحباني، فهم يختبئون تحت قناعٍ، هو في الحقيقة يحمل الوجه الحقيقي لنفوسهم، أما وجوههم الحقيقية فهي التي يلبسونها طوال العام، يمارسون فيها الكذب والرياء والنفاق والاحتيال، لكي يستطيعوا العيش، فمتى يخجل الإنسان، أو يخاف من إبداء رأيه، أو الإفصاح عن رغباته، إلا في البيئة التي تسيطر عليها مفاهيم قامعة للحرية، وتقاليد صارمة مستبدة، لها سطوةٌ قد تفوق سطوة القوانين، فكيف إذا كان هناك نظام سياسي قمعي شمولي، يتدخّل في أدق تفاصيل الحياة الفردية والجماعية؟
زماناً، كان لدينا ما يكفي من أسباب الفرح والمرح والمزاح. لم نكن متجهّمين، وكنا نحب
عيشنا البسيط، بما يمنحنا من مساحةٍ للأحلام. وكان لهذا اليوم، الأول من أبريل/ نيسان، وقع خاص يشبه الاحتفالية الصباحية، إذ يكون الناس قد نشطوا واجتهدوا وفكّروا وأخرجوا المقالب التي سيمارسونها بحق أصدقائهم والمقرّبين إليهم، يبهجهم أن يتابعوا تأثير الحدث، وردّة فعل الشخص المستهدف من الكذبة المقلب، لكنهم يتركون الأمر يتصاعد، حتى يصل إلى ذروته الدرامية. حينها يعلنون، بضحك وتحببٍ كثيرين، أنها كذبة أول نيسان. ومع أن الأمر لم يكن يخلو من بعض الكذبات التي تحصد نتائج سيئة، إلاّ أن الخلاف بين الناس لم يكن يصل إلى حدّ الانتقام والثأرية أو القطيعة، كانت الحياة أرحم، وكان الناس أكثر قدرة على الفرح والبهجة.
فماذا عن كذبة الأول من نيسان اليوم؟ يأتي هذا اليوم في فترة استراحةٍ منحها المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، للوفود السورية التي كانت مجتمعة في جنيف من أجل التفاوض، للوصول إلى حلّ سياسيٍّ، بات واضحاً أن الأطراف اللاعبة بمصيرنا وفوق أرضنا، وبوقود من أفراد شعبنا، تريده بعد أن "متنا من الكذب الصادق إلى درجة الحقيقة"، خمس سنوات دامية.
ماذا لو كان هناك "هالة" صبية حالمة تبيع الأقنعة، وتدخل ساحة سورية، توزّعها على المتلهفين لحظة بوح ولحظة حقيقة، حيث "مـِنْ ســـاحـَة لـَســــــاحـَة ضـَــاعـت المـَســـــاحــة، مـَمْنوع الـْحَكي عَ الهـَدى، مـا حـَدا عـارِفْ حـَــــــدا". هذه حالنا: ضاعت المساحة، بعد أن ضاقت الرحابة في صدور أبنائها. ماذا ستلبس أم الشهيد التي يدفعونها إلى مواجهة الكاميرات لتزغرد في "عرس" ابنها الشهيد، وتتبرّع بمن بقي لديها من أبناء، فداءً للوطن وقائد الوطن؟ ماذا ستقول أم المقاتل الذي تخرّج للتو من الدورات الشرعية، وفنون الذبح الحلال، فتطلق الدعوات، وتقرأ آية الكرسي، وتصلي لله بأن يحظى ابنها بحوريةٍ تليق بشبابه ورجولته في دار الخلود؟ أي قناعٍ سيلبس أبٌ ينبش في حاويات الزبالة، ليطعم أطفاله، وهو في الأيام الباقية، يغنّي للوطن، ويقسم على أنه أهمّ من لقمة أبنائه الجوعانين؟ وأي قناعٍ يختار شاباً لم يعرف الاختيار، قبل هذا اليوم، بعد أن حشروه بين: أن يحمل السلاح، أو يفرّ خارج الحدود أو أن يتخفّى عن أعين الدوريات والعسس، أو الاختيار الفرض الممكن: فداء للوطن، أو لبيك اللهم لبيك؟ هل يصرخون بتلك الصبية الحالمة أن تعود من حيث أتت إلى عالم الأحلام، ليبقوا على قيد الانتظار لأن: الحـَقيــْقـَــة بـِتـْخـــــَوِّف، وكي لا تكون: بـِنـْت بسيطـَة مـا معهـا إلا الصـِّدْق غـَلـَبـِتْ مَديـْـــنـِة عايـْمـِة عَ الكِذبْ؟
ماذا لو لفّقنا كذبةً على ستيفان دي ميستورا في مثل هذا اليوم، بعدما أشبعنا كذباً ووعوداً خلّبية، هو والعالم الذي ادّعى صداقتنا، كأن نقول له: نحن شعب سورية العظيم نرفع إليك هذه الوثيقة التاريخية، بعيداً عن قيادتنا الحكيمة، وعن معارضتنا الأكثر حكمةً، لنقول فيها إن هذه الوفود لا تمثلنا، من يمثلنا هم أولئك الصامتون الصابرون المقهورون المكتومون الذين أسكتهم صوت الرصاص والطائرات وصليل السيوف. أليس هذا اليوم المرصود للاحتفاء بالكذب هو يوم الصدق والحقائق المدفونة تحت ركام النفوس المنهكة والأرواح المتهتكة؟
ربما علينا أن نسهر وننتظر الهاشتاغات والتغريدات، وما ستجود به صفحات التواصل من حكاياتٍ ونهفاتٍ ومقالب تشغل العالم، ليكون عالمنا العربي ليوم واحد في العام. هو من يشتغل بالعالم، وليس العكس، كما قال الشاعر الذي غادرنا مرحوماً، قبل أن يرى حدسه يتحقق، محمد الماغوط: نحن لا نشتغل.. العالم يشتغل بنا.
ربما هو توق النفوس البشرية إلى التحرّر من قيد القوالب التي تراكمت فوق أرواحها خلال الزمن، التحرّر من الخوف في الدرجة الأولى الذي زرعه كل السلاطين على مرّ الزمان، سلطان الأعراف والموروث الثقافي الاجتماعي، سلطان العقيدة والدين، سلطان الحكم والسياسة، سلطان الأغلبية التي تحارب كلّ ما هو مختلفٍ عن نهجها وفلسفتها ونظم حياتها وفكرها، السلطان البطريركي الذي يُمارس بجدارةٍ في معظم البيوت كنموذج لطاغية كبير. التوق إلى لحظةٍ حقيقيةٍ، أو ربما إلى الفطرة الأولى، بعيداً عن ضوابط العقل وصرامته، ومنح الأرواح فسحة لتحلّق في فضاءٍ من الفرح المنعش.
كذبة نيسان نحمّلها أمانينا ورغباتنا المكبوتة وأحلامنا وطموحاتنا، بل نسعى، في يوم كهذا، يفرض قوانينه وشروطه القائمة على الغفران بالدرجة الأولى، إلى نبش قاع أرواحنا، وما يعتمل فيها من خيباتٍ وأمانٍ تبدو مستحيلةً، بموجب معطيات الواقع الذي نعيش فيه. لا يخشى الأشخاص من البوح، وهم يلبسون الأقنعة، كما في عيد "الوجه الثاني" في مسرحية "هالة والملك" للأخوين رحباني، فهم يختبئون تحت قناعٍ، هو في الحقيقة يحمل الوجه الحقيقي لنفوسهم، أما وجوههم الحقيقية فهي التي يلبسونها طوال العام، يمارسون فيها الكذب والرياء والنفاق والاحتيال، لكي يستطيعوا العيش، فمتى يخجل الإنسان، أو يخاف من إبداء رأيه، أو الإفصاح عن رغباته، إلا في البيئة التي تسيطر عليها مفاهيم قامعة للحرية، وتقاليد صارمة مستبدة، لها سطوةٌ قد تفوق سطوة القوانين، فكيف إذا كان هناك نظام سياسي قمعي شمولي، يتدخّل في أدق تفاصيل الحياة الفردية والجماعية؟
زماناً، كان لدينا ما يكفي من أسباب الفرح والمرح والمزاح. لم نكن متجهّمين، وكنا نحب
فماذا عن كذبة الأول من نيسان اليوم؟ يأتي هذا اليوم في فترة استراحةٍ منحها المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، للوفود السورية التي كانت مجتمعة في جنيف من أجل التفاوض، للوصول إلى حلّ سياسيٍّ، بات واضحاً أن الأطراف اللاعبة بمصيرنا وفوق أرضنا، وبوقود من أفراد شعبنا، تريده بعد أن "متنا من الكذب الصادق إلى درجة الحقيقة"، خمس سنوات دامية.
ماذا لو كان هناك "هالة" صبية حالمة تبيع الأقنعة، وتدخل ساحة سورية، توزّعها على المتلهفين لحظة بوح ولحظة حقيقة، حيث "مـِنْ ســـاحـَة لـَســــــاحـَة ضـَــاعـت المـَســـــاحــة، مـَمْنوع الـْحَكي عَ الهـَدى، مـا حـَدا عـارِفْ حـَــــــدا". هذه حالنا: ضاعت المساحة، بعد أن ضاقت الرحابة في صدور أبنائها. ماذا ستلبس أم الشهيد التي يدفعونها إلى مواجهة الكاميرات لتزغرد في "عرس" ابنها الشهيد، وتتبرّع بمن بقي لديها من أبناء، فداءً للوطن وقائد الوطن؟ ماذا ستقول أم المقاتل الذي تخرّج للتو من الدورات الشرعية، وفنون الذبح الحلال، فتطلق الدعوات، وتقرأ آية الكرسي، وتصلي لله بأن يحظى ابنها بحوريةٍ تليق بشبابه ورجولته في دار الخلود؟ أي قناعٍ سيلبس أبٌ ينبش في حاويات الزبالة، ليطعم أطفاله، وهو في الأيام الباقية، يغنّي للوطن، ويقسم على أنه أهمّ من لقمة أبنائه الجوعانين؟ وأي قناعٍ يختار شاباً لم يعرف الاختيار، قبل هذا اليوم، بعد أن حشروه بين: أن يحمل السلاح، أو يفرّ خارج الحدود أو أن يتخفّى عن أعين الدوريات والعسس، أو الاختيار الفرض الممكن: فداء للوطن، أو لبيك اللهم لبيك؟ هل يصرخون بتلك الصبية الحالمة أن تعود من حيث أتت إلى عالم الأحلام، ليبقوا على قيد الانتظار لأن: الحـَقيــْقـَــة بـِتـْخـــــَوِّف، وكي لا تكون: بـِنـْت بسيطـَة مـا معهـا إلا الصـِّدْق غـَلـَبـِتْ مَديـْـــنـِة عايـْمـِة عَ الكِذبْ؟
ماذا لو لفّقنا كذبةً على ستيفان دي ميستورا في مثل هذا اليوم، بعدما أشبعنا كذباً ووعوداً خلّبية، هو والعالم الذي ادّعى صداقتنا، كأن نقول له: نحن شعب سورية العظيم نرفع إليك هذه الوثيقة التاريخية، بعيداً عن قيادتنا الحكيمة، وعن معارضتنا الأكثر حكمةً، لنقول فيها إن هذه الوفود لا تمثلنا، من يمثلنا هم أولئك الصامتون الصابرون المقهورون المكتومون الذين أسكتهم صوت الرصاص والطائرات وصليل السيوف. أليس هذا اليوم المرصود للاحتفاء بالكذب هو يوم الصدق والحقائق المدفونة تحت ركام النفوس المنهكة والأرواح المتهتكة؟
ربما علينا أن نسهر وننتظر الهاشتاغات والتغريدات، وما ستجود به صفحات التواصل من حكاياتٍ ونهفاتٍ ومقالب تشغل العالم، ليكون عالمنا العربي ليوم واحد في العام. هو من يشتغل بالعالم، وليس العكس، كما قال الشاعر الذي غادرنا مرحوماً، قبل أن يرى حدسه يتحقق، محمد الماغوط: نحن لا نشتغل.. العالم يشتغل بنا.
مقالات أخرى
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024
24 سبتمبر 2024