30 أكتوبر 2024
ماذا يخفي الصمت؟
يتعامل الروائي اللبناني، إلياس خوري، في جديد أعماله، رواية "أولاد الغيتو/ اسمي آدم" (2016)، مع ما يخفيه الصمت، ولا سيما حيال جريمةٍ بحجم نكبة فلسطين.
تدور الرواية حول المجزرة التي نفذتها القوات الصهيونية في اللد، تمهيدًا لتطهيرها عرقيًا، وحشر من تبقى من سكانها العرب داخل أسلاك "غيتو".
في أحد سياقات الرواية، يورد الكاتب على لسان أحد شخوصها أن بإمكانها أن تروي حكايات الجثث التي كان يتعين جمعها من أزقة اللد، ومن الحقول والبيوت، لكنها في الوقت عينه تتساءل: ما فائدة ذلك؟ المسألة ليست فقط جريمة تهجير الفلسطينيين من أرضهم، لأن جريمةً أكبر جاءت بعدها، هي فرض الصمت على شعبٍ كامل. ولا يدور الحديث حول الصمت الذي يلي "التروما/الصدمة" في لغة علماء النفس، بل عن الصمت الذي فرضه المنتصر على المهزوم بقوة لغة الضحيّة اليهوديّـة التي سادت في العالم، أي في الغرب، بعد جرائم الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك المحرقة النازيّـة. وتضيف الشخصية ذاتها أن أحدًا لم يسمع، في ذلك الوقت، أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويُشرّدون بصمت، ولذا جاء الأدب كي يصنع للضحية لغتها الجديدة.
جاءت "أولاد الغيتو" نصّاً أدبيّاً مكمّلاً لرواية "باب الشمس" (1998). ويلجأ الكاتب فيها إلى تشكيلة متنوّعة من التقنيات، على غرار الميتاقص (الحديث عن الكتابة في أثناء عملية الإبداع)، واستحضار روائيين آخرين، وأيضاً الاستعانة بمؤرخين، بما يضفي على العمل بُعدًا توثيقيًا. وذلك كله من دون إهمال التخييل. وعلى الرغم من هذا كله، يظل السرد منطوياً على طاقة الإمتاع كفنّ، لا بما يُملـى عليه من تصوراتٍ ذهنيةٍ مسبقة التفكير والأدلجة.
وهي مكمّلـة لتلك الرواية التي سبقتها بنحو ثمانية عشر عاماً، ليس من ناحية تناولها موضوع النكبة الفلسطينية فحسب، وإنما أيضاً أنه، بموازاة سرد الحكاية الفلسطينية التي تمتح من ذاكرات ممضّة، معذّبة، مركّبة، من النقطة الزمنية الراهنة، روت "باب الشمس" ما يمكن اعتبارها حكاية الهزيمة الفلسطينية والعربية في سنة 1948.
وفسّر إلياس خوري ذلك في حينه، قائلًا إن العالم العربي لا يستطيع تأسيس نهضته، من دون أن يعي هزيمته، إذ تبدأ النهضة عبر تسمية الهزيمة باسمها. وعلى العرب الاعتراف بهزيمتهم إذا أرادوا مقاومتها، أمّا إذا أرادوا البقاء في مياه الانحطاط الآسنة، فما عليهم سوى تسمية الهزيمة انتصاراً، والذل فخراً والركوع وقوفاً.
كما قامت تلك الرواية بتحطيم صورة نمطية للبطل الفلسطيني وتحطيم البطولة، فالأدب الذي تعامل مع القضية الفلسطينية طويلاً، بشكل أساسي الأدب الفلسطيني، قدّم نمط الفلسطيني الشجاع، البطل، الشهم، المظلوم، الشاعر، المجدّد. ولكن، في "باب الشمس" نصادف أن الرجلين بطلي الرواية ليسا متسمين بمثل هذه الخصائص، لأنهما المرأتان نهيلة وشمس. كذلك يتم تحطيم كل الأنماط عن معنى البطولة ومعنى الحنين إلى الأرض.
من الروائيين الآخرين الذين يستحضرهم خوري الآن، يبرز على نحو خاص غسان كنفاني وروايته الأولى "رجال في الشمس" التي دان فيها صمت الفلسطينيّ على ما يحيق به من عذاب عربيّ، من طريق دعوته إلى دقّ جدران الخزّان، فعل احتجاج ضد هذا العذاب.
ومع أن "أولاد الغيتو" تشكل "وثيقة دفاعٍ" عن هذا الصمت، ودعوةً إلى تأمل دلالاته، بما يتضاد مع غاية إدانته والتغاضي عن مبرّراته، فإن السرد لا يسلب كنفاني أوالية أسئلةٍ حادّةٍ، أثارتها روايته هذه في حينه، بصفتها نصّاً غير مسبوق، يغوص في العوالم الداخلية المتعدّدة لأبطالها الفلسطينيين.
ليست كتابتي عن هذه الرواية نقدية. ولذا، أنهيها بإشارة المؤلف في "المقدمة" إلى أن هذا الكتاب يكشف حقيقةً لم يتنبّه إليها أحد، هي أن الفلسطينيات والفلسطينيين الذين استطاعوا البقاء في أرضهم، هم أولاد الغيتوات الصغيرة التي حشرتهم فيها "الدولة الجديدة" التي استولت على بلادهم، ومحت اسمها، ولذا قرّر أن يضع للكتاب عنوان "أولاد الغيتو"، وأن يقدّم حكاياتٍ منهم وعنهم.
ومثلما جرى التنويه في البداية، تحيل هذه الحكايات الصمت إلى كتابةٍ تحمل الكثير من المعنى.
تدور الرواية حول المجزرة التي نفذتها القوات الصهيونية في اللد، تمهيدًا لتطهيرها عرقيًا، وحشر من تبقى من سكانها العرب داخل أسلاك "غيتو".
في أحد سياقات الرواية، يورد الكاتب على لسان أحد شخوصها أن بإمكانها أن تروي حكايات الجثث التي كان يتعين جمعها من أزقة اللد، ومن الحقول والبيوت، لكنها في الوقت عينه تتساءل: ما فائدة ذلك؟ المسألة ليست فقط جريمة تهجير الفلسطينيين من أرضهم، لأن جريمةً أكبر جاءت بعدها، هي فرض الصمت على شعبٍ كامل. ولا يدور الحديث حول الصمت الذي يلي "التروما/الصدمة" في لغة علماء النفس، بل عن الصمت الذي فرضه المنتصر على المهزوم بقوة لغة الضحيّة اليهوديّـة التي سادت في العالم، أي في الغرب، بعد جرائم الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك المحرقة النازيّـة. وتضيف الشخصية ذاتها أن أحدًا لم يسمع، في ذلك الوقت، أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويُشرّدون بصمت، ولذا جاء الأدب كي يصنع للضحية لغتها الجديدة.
جاءت "أولاد الغيتو" نصّاً أدبيّاً مكمّلاً لرواية "باب الشمس" (1998). ويلجأ الكاتب فيها إلى تشكيلة متنوّعة من التقنيات، على غرار الميتاقص (الحديث عن الكتابة في أثناء عملية الإبداع)، واستحضار روائيين آخرين، وأيضاً الاستعانة بمؤرخين، بما يضفي على العمل بُعدًا توثيقيًا. وذلك كله من دون إهمال التخييل. وعلى الرغم من هذا كله، يظل السرد منطوياً على طاقة الإمتاع كفنّ، لا بما يُملـى عليه من تصوراتٍ ذهنيةٍ مسبقة التفكير والأدلجة.
وهي مكمّلـة لتلك الرواية التي سبقتها بنحو ثمانية عشر عاماً، ليس من ناحية تناولها موضوع النكبة الفلسطينية فحسب، وإنما أيضاً أنه، بموازاة سرد الحكاية الفلسطينية التي تمتح من ذاكرات ممضّة، معذّبة، مركّبة، من النقطة الزمنية الراهنة، روت "باب الشمس" ما يمكن اعتبارها حكاية الهزيمة الفلسطينية والعربية في سنة 1948.
وفسّر إلياس خوري ذلك في حينه، قائلًا إن العالم العربي لا يستطيع تأسيس نهضته، من دون أن يعي هزيمته، إذ تبدأ النهضة عبر تسمية الهزيمة باسمها. وعلى العرب الاعتراف بهزيمتهم إذا أرادوا مقاومتها، أمّا إذا أرادوا البقاء في مياه الانحطاط الآسنة، فما عليهم سوى تسمية الهزيمة انتصاراً، والذل فخراً والركوع وقوفاً.
كما قامت تلك الرواية بتحطيم صورة نمطية للبطل الفلسطيني وتحطيم البطولة، فالأدب الذي تعامل مع القضية الفلسطينية طويلاً، بشكل أساسي الأدب الفلسطيني، قدّم نمط الفلسطيني الشجاع، البطل، الشهم، المظلوم، الشاعر، المجدّد. ولكن، في "باب الشمس" نصادف أن الرجلين بطلي الرواية ليسا متسمين بمثل هذه الخصائص، لأنهما المرأتان نهيلة وشمس. كذلك يتم تحطيم كل الأنماط عن معنى البطولة ومعنى الحنين إلى الأرض.
من الروائيين الآخرين الذين يستحضرهم خوري الآن، يبرز على نحو خاص غسان كنفاني وروايته الأولى "رجال في الشمس" التي دان فيها صمت الفلسطينيّ على ما يحيق به من عذاب عربيّ، من طريق دعوته إلى دقّ جدران الخزّان، فعل احتجاج ضد هذا العذاب.
ومع أن "أولاد الغيتو" تشكل "وثيقة دفاعٍ" عن هذا الصمت، ودعوةً إلى تأمل دلالاته، بما يتضاد مع غاية إدانته والتغاضي عن مبرّراته، فإن السرد لا يسلب كنفاني أوالية أسئلةٍ حادّةٍ، أثارتها روايته هذه في حينه، بصفتها نصّاً غير مسبوق، يغوص في العوالم الداخلية المتعدّدة لأبطالها الفلسطينيين.
ليست كتابتي عن هذه الرواية نقدية. ولذا، أنهيها بإشارة المؤلف في "المقدمة" إلى أن هذا الكتاب يكشف حقيقةً لم يتنبّه إليها أحد، هي أن الفلسطينيات والفلسطينيين الذين استطاعوا البقاء في أرضهم، هم أولاد الغيتوات الصغيرة التي حشرتهم فيها "الدولة الجديدة" التي استولت على بلادهم، ومحت اسمها، ولذا قرّر أن يضع للكتاب عنوان "أولاد الغيتو"، وأن يقدّم حكاياتٍ منهم وعنهم.
ومثلما جرى التنويه في البداية، تحيل هذه الحكايات الصمت إلى كتابةٍ تحمل الكثير من المعنى.