مارسيل خليفة يُغنّي من عمّان هذه المرّة، وبالتحديد من "جبل القلعة". سعر التذكرة 120 ديناراً أردنياً (ما يعادل 170 دولاراً أميركياً). وإذا كنتم لا تملكون ثمن التذكرة، بإمكانكم العودة إلى البيت ومشاهدة الحفل عبر التلفاز؛ هكذا قال باعة التذاكر للجماهير المصطفّة في طوابير، للاستماع لمغنّي "انهض للثورة والنار".
وإذا كانت هذه هي إجابة مارسيل خليفة الأخيرة لجماهيره بكل تلك البساطة الشديدة، فللجماهير المصطفّة على هذه الطوابير، رأي آخر. كيف لا، وهي التي حملته على أكتافها لعقود من الزمن، منذ كان صاحب "بين ريتا وعيوني بندقية" يشقّ طريق الجماهيرية بذقنٍ مرسل على طريقة يساريي سبعينيات القرن الماضي، يجوب البلاد شرقاً وغرباً على وقع ألحان: "منتصبَ القامةِ أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتونٍ، وعلى كتفي نعشي"، وكلمات شعراء مثل خليل حاوي، وطلال حيدر ومحمود درويش وحبيب صادق وغيرهم.
لكن المسألة هنا، تتجاوز كونها مظهراً من مظاهر تخلّي "الرموز" عن "الجماهيرية" كإحدى الشروط اللازمة للوصول إلى النخبوية في العمل والأداء والسمعة، بل تتعدّاها، إلى ما يشبه القطيعة مع هذه الجماهير، في رحلة بحث جديدة تكاد تكون حقّقت أول خطواتها إلى جمهورٍ جديد ضيق، مختلف السمات والامكانيات؛ جمهورٌ يتعامل مع الموسيقى بمنطق الاستهلاك الصرف، لا بمنطق الحماسة المحمولة على روح الشعارات التي حملتها أغاني مارسيل نفسه في تلك الفترة، وهذا ما لا يريده مارسيل، الآن تحديداً.
في هذا كله، لا يبتعد ملحّن ومؤدّي غنائية "أحمد العربي" كثيراً، عن أبرز سمات مرض هذا العصر، عصر السرعة والخفّة الهائلة لقيمة الأشياء، في مقابل اللهاث الثقيل أمام المادة، في سمته الأبرز: الربح، كمقياس لنجاعة ونجاح أي جهد آدمي. والربح هذا، الذي كان شرطاً ثانوياً عند مارسيل وإخوانه في فترة الصعود إياها، صار محرّكاً ودافعاً له، ليس في حفل عمّان هذا الأسبوع تحديداً، بل في مناسبات كثيرة سبقته: قرطاج والقاهرة وجرش وغيرها.
ولعل مارسيل، ابن اليسار العربي في فترات ذروته، حامي قلاع الفقراء والمهمّشين، لم يكن له ليصمد أكثر من اليسار نفسه في المنطقة العربية، بعد أن أحاله الزمن، وأحال نفسه، إلى ما يشبه كومة من الشعارات التي ليس لها أي معنى في واقع تجاوزه، فذهب هو ومعظم أدبياته، إلى أدراج الرومانسيات الكلاسيكية التي تملأ جوارير الذاكرة.
من جهتها، لا تبدو الجماهير مأخوذة بالصدمة من الحدث الأخير، إذ إن ذاكرة هؤلاء قد طفحت بكثيرين عبروا من البوّابة ذاتها التي أطلّ منها صاحب "يعبرون الجسر" ذات يوم وغادروها من بوّابة خلفية.. لكنها الجماهير، إياها، وهي الأقدر دائماً على ترديد الأغنية الأثيرة في وجه من يذهبون في ذات الطريق على مرّ الأزمان: "عا كِتر ما طِلع العشب بَيناتنا، بيرعَى الغزال".