في الأعوام القليلة الماضية، حظيت أفلام السِّيَر بحيّز كبير من المُعالجة الجمالية في الصناعة السينمائية العالمية، تختلف أنماط معالجتها من فيلمٍ إلى آخر، بحسب الشروط السياسية والاجتماعية والجمالية التي يحتكم إليها الفيلم. مرجعيات كهذه لها تأثير كبير في صناعة هذا النوع السينمائي، فتُبجِّل قيمة السيرة للشخصية، أو تُضعِف حجمها وقيمتها وإسهاماتها، في العلم أو الثقافة أو الاجتماع أو السياسة.
هذه الأخيرة تتحكّم فيها أمور سياسية أكثر منها سينمائية وجمالية، لوضعها المخرج أمام سلطة رسمية في بلده. مخرجون قليلون يتمرّدون عليها، ويجترحون للسيرة آفاقاً سينمائية جديدة ومغايرة، تُفكّك الموجود والمُتوارث من أفكارٍ وتصوّرات حول الشخصية. بالإضافة إلى بعديه التوثيقي والجمالي، يلعب النمط دوراً استقصائياً ومُفكِّكاً، كما في "نشاط إشعاعي" (2019) للفرنسية الإيرانية مارجان ساترابي (1969)، التي تناولت فيه، سينمائياً، سيرة العالِمة البولندية (الفرنسية الجنسية) ماري كوري (روزاموند بايك)، مازجة السيرة بالتخييل، ومركّزة على جماليات الصورة وقسوة الحكاية.
ساهم المزج الفنيّ في تعزيز قيمة الفيلم، مُخرجاً إياه من التنميطات السينمائية الأخرى، التي جعلت أفلام السِّيَر تتوغل في التاريخ والأرشفة الأكاديمية المُتصلّبة، نافية الأبعاد الحميمة والوجدانية في حياة الشخصيات، بوصفها بشراً، أكثر من كونها سِيَراً علمية. هذا حدست به ساترابي، فتبدّى جيداً منذ البداية، مع ظهور اضطرابات نفسية تعانيها ماري كوري في مختبرات علمية، بسبب أسلوبها الثائر في التفكير العلمي، فطردها غبريال ليبمان (سيمون راسل بيل)، فاحتضنها بيار كوري (سام رايلي)، الذي تنشأ بينهما علاقة حبّ، ستكون خيطاً جماليّاً للفيلم، بنسجِ صُوَرٍ رومانسية تُتيح اجتراح جماليّات مُبتكرة، وتُسلّط الضوء للمرّة الأولى على الحياة الحميمة الخاصة بماري، المُغيّبة في تاريخها الشخصي، وفي دراسات أكاديمية تقريرية تناولت سيرتها فحصاً ودراسة.
تبرز جزالة الرؤية السينمائية لدى ساترابي، وقدرتها على كشف المخبّأ في الحياة الشخصية لماري، الذي لم تهتمّ به الدراسات الجافة، كذلك فإنّ أحداً لم يلتقط اللحظات الأكثر حميمية في سيرتها، رغم أنّها أحدثت ثورة في العلم، على نقيض كاميرا ساترابي التي تُنقّب عن هذا المنسيّ واللامُفكّر فيه، وجعله يحتلّ في الصورة السينمائية منزلةً أساسية. في السيرة جراح وقهر وثورة وعصيان على أنماط التفكير العلمي، بالنسبة إلى امرأة عرفت، منذ بداية حياتها، المعاناة وارتجاج الذات، منذ وفاة والدتها وهي صغيرة. تقول ماري لبيار: "عندما ماتت أمي، لم أستطع التكلّم لأسبوع. الناس ظنّوا أنّ هذا بسبب الحزن. لكنّه لم يكن كذلك، لأنّي لم أستطع أنْ أفهم لماذا شيء مهمّ أُخِذ منّي".
سينمائياً، تطرح ساترابي سؤالاً جوهرياً، يتّصل بالسيرة والتأريخ، وبما يمارسانه من أدوارٍ مهمّة في السينما. فأفلام السِّيَر شكّلت لمخرجين عديدين مادّة خصبة لبلورة كتابة تاريخية بصرية جديدة، قِوامها الصورة والسرد والحركة، وهذه الكتابة البصرية تختلف من سيرة إلى أخرى، ومن فيلم إلى آخر، فنوع السيرة يُحدّد نمط التناول السينمائي. ساترابي مزجت السيرة بالتاريخ، من دون أنْ تسمح للتاريخ العلمي لماري كوري بالتهام الصورة، وجعلها توثيقية وصنميّة عمياء.
هذا مطبّ أفلام كثيرة ظلّ عنصر التخييل فيها غائباً. في "نشاط إشعاعي"، تشتغل سيرة كوري كإطار زمنيّ يولِّد أحداثاً، تنصاع كلّياً لجماليّات السرد والصورة، وتُلغي التوثيق. فالصورة أكبر من الحكاية، التي جعلتها ساترابي مُتشظّية في سردها، فهي تلتقط تفاصيل مُهمّة من الحياة العلمية لكوري، ما جعل بعض مشاهدها غامضاً، لارتكازه على التخييل. والمخرجة تقبض على قسوة الحميمي وعذاباته وآلامه إزاء العلم، لا يُكسر من حدّته إلا الحبّ الذي حظيت به من زوجها، ما جعل الفيلم لغة سينمائية سلسة، اشتغالاً وسرداً، لمعاينته سيرة تراجيدية ورومانسية حميمة، بدلاً من الاكتفاء بسرد ابتكار النشاط الإشعاعي، الذي يُستعمل إلى الآن.