عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر من 70 سنة إلى الوراء في زيارته لبنان التي بدأها مساء الاثنين، مستحضراً دور المندوب السامي الفرنسي، فارضاً شروطاً أقرب إلى الإملاءات على الطبقة السياسية الحاكمة ومحذراً من عقوبات في حال لم تمتثل لتحقيق "تغيير" يطالب به. تغيير ينطلق أولاً من رؤيته للوضع المستقبلي للبنان قبل الأخذ بالاعتبار مطالب الشارع اللبناني بإصلاح حقيقي يُخرج الطبقة الحاكمة الحالية من السلطة، بينما يعوّل عليها ماكرون راهناً لتحقيق أجندته، وقد نجح بدفعها للاتفاق سريعاً على تعيين مصطفى أديب رئيساً مكلفاً لتشكيل حكومة جديدة.
وفيما كان لبنان يحتفل بالذكرى المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير من قِبل المفوض الفرنسي، كانت تصريحات ماكرون أمس وتصرفاته في بيروت، ومنها تأخره نحو ساعة عن مأدبة غداء أقيمت له في قصر الرئاسة في بعبدا، تدل على أنه يتصرف كوصي على الساسة اللبنانيين، الذين لم يجدوا في ذلك حرجاً بعد المقاطعة الدولية للطبقة الحاكمة منذ انطلاق انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول، قبل أن يأتي انفجار بيروت في 4 أغسطس/آب الماضي ليفك العزلة عن الحكم. في المقابل، حرص الشارع على إيصال صوته للرئيس الفرنسي عبر تظاهرة في ساحة الشهداء وسط بيروت عصر أمس حملت شعار "غضب لبنان الكبير"، وتمددت إلى إحدى بوابات مداخل مجلس النواب حيث عمد بعض المتظاهرين إلى رمي الحجارة لتقع بعض الاشتباكات مع القوى الأمنية التي ردت بإطلاق القنابل المسيلة للدموع.
حدد ماكرون مهلة 3 أشهر حاسمة لتحقيق التغيير في لبنان، محذراً من فرض إجراءات عقابية
وحدد ماكرون مهلة 3 أشهر حاسمة لتحقيق التغيير في لبنان، محذراً من أنه إذا لم يحدث ذلك فقد يتم فرض إجراءات عقابية. وفي مؤشر على جديته بمراقبة هذه المطالب التي جاءت بصيغة الأمر، قرر العودة في ديسمبر/كانون الأول المقبل إلى بيروت، كما أعلنت الرئاسة الفرنسية. وجاء كلام ماكرون الأبرز في تصريحات لصحيفة "بوليتيكو" على متن الطائرة التي أقلته إلى بيروت مساء الاثنين، إذ قال إن الشهور الثلاثة المقبلة ستكون حاسمة في ما يتعلق بتحقيق التغيير في لبنان، مضيفاً أنه إذا لم يحدث تغيير فقد يترتب على ذلك فرض إجراءات عقابية. وأضاف أن الإجراءات العقابية المحتملة يمكن أن تتراوح بين تعليق مساعدات إنقاذ مالي وعقوبات على الطبقة الحاكمة. وأضاف أنه يطالب زعماء لبنان "بالتزامات موثوق بها" و"آلية متابعة دقيقة" وكذلك إجراء انتخابات تشريعية في غضون ما بين 6 و12 شهرا. وقال ماكرون إنه سيستخدم ثقله للضغط من أجل تشكيل حكومة جديدة، مضيفا أنه لن يسمح بتحرير الأموال التي تم التعهد بها في مؤتمر للمانحين في 2018 في باريس ما لم تكن هناك إصلاحات.
ورداً على سؤال حول تكليف مصطفى أديب بتشكيل الحكومة، قال ماكرون "يجب منحه كل وسائل النجاح"، بعدما كان أكد في وقت سابق أنه "لا يعود لي أن أوافق عليه أو أن أبارك اختياره". وقال ماكرون رداً على سؤال عن إمكان مواجهة "حزب الله": "لا تطلبوا من فرنسا أن تشن حرباً على قوة سياسية لبنانية"، معتبراً أن ذلك "سيكون عبثياً ومجنوناً". واعتبر أن مساعيه في لبنان هي "الفرصة الأخيرة لهذا النظام"، مضيفا "أدرك أني دخلت مقامرة محفوفة بالمخاطر... أضع على الطاولة الشيء الوحيد الذي أملك: رأس مالي السياسي".
وخلال زيارته مرفأ بيروت أمس، قال ماكرون لموقع "بروت" الفرنسي "أقترح أن تكون هناك آلية متابعة، في أكتوبر/تشرين الأول ثم في ديسمبر، وهذا ما سألتزم به شخصياً". وأضاف "لن نفرج عن أموال برنامج سيدر طالما لم يتم الشروع في الإصلاحات وفق للجدول الزمني المحدد، وهذا هو (هدف) موعد أكتوبر، وسأعود أيضاً في ديسمبر لمتابعة ذلك". وفي حوار مع ممثلين عن المجتمع المدني والأمم المتحدة على متن حاملة المروحيات "تونّير" في مرفأ بيروت، قال ماكرون "نحن بحاجة إلى التركيز خلال الأشهر الستة المقبلة على حالة الطوارئ وأن نستمر في حشد المجتمع الدولي". وأضاف "أنا مستعد لننظم مجدداً، ربما بين منتصف ونهاية أكتوبر مؤتمر دعم دولي مع الأمم المتحدة".
كما أقيمت مأدبة غداء على شرف ماكرون تأخر عنها نحو ساعة. والتقى ماكرون مع نظيره اللبناني ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري في القصر الرئاسي في بعبدا قبل أن ينضم إليهما وزراء ونواب ومسؤولون على مأدبة غداء. وأفاد محضر اللقاء بين عون وماكرون أن الرئيس اللبناني أكد الاستمرار بالتحقيقات حتى جلاء ظروف انفجار بيروت ومحاسبة المسؤولين. سياسياً، قال عون عن تشكيل الحكومة: "إن شاء الله لا تستغرق وقتا طويلا، والهدف تشكيل حكومة قادرة على مواجهة التحديات في المرحلة المقبلة". وتمنى عون أن تتجاوب كل القيادات المعنية بمسار تشكيل الحكومة لضمان ثقة المجتمع الدولي، خصوصا أن من مسؤولياتها إقرار الإصلاحات ومكافحة الفساد وتصحيح الخلل في القطاع المصرفي. وأكد عون خلال الغداء أن "أملنا اليوم يرتكز على تشكيل حكومة جديدة تكون قادرة على إطلاق ورشة الإصلاحات الضرورية، من أجل خروج البلد من الأزمة الحالية. والأمل يكمن أيضا في جعل آلامنا حافزا يدفعنا الى أن نغدو دولة مدنية، حيث الكفاءة هي المعيار والقانون هو الضامن للمساواة في الحقوق".
ومساء أمس التقى الرئيس الفرنسي ممثلي القوى السياسية البارزة بينها "حزب الله". وصباحاً، زار ماكرون بلدة جاج في قضاء جبيل، حيث زرع شجرة أرز احتفالاً بمئوية لبنان الكبير، بعد يوم من وصوله البلاد. وتُعد زيارة ماكرون إلى المحمية، وفق بيان للإليزيه، "مؤشر ثقة بمستقبل لبنان الذي يأمل أن يشهده رئيس الجمهورية". وزيارة ماكرون إلى لبنان هي الثانية في أقل من شهر، حيث زار بيروت في 6 أغسطس/آب الماضي، بعد يومين على انفجار المرفأ. وكان ماكرون قد استهل زيارته الاثنين بزيارة الفنانة فيروز، في منزلها قرب بيروت، حيث كان عشرات اللبنانيين بانتظاره ورددوا هتافات عدة، رد عليها ماكرون بالقول "أعدكم أنني لن أتخلى عنكم أبداً". وأضاف "أتعهّد لكم... ببذل قصارى جهدي لضمان تنفيذ الإصلاحات ولتعافي لبنان".
وقّع وزير المالية عقوداً مع ثلاث شركات أجنبية تتعلق بـ"التدقيق الجنائي والمالي" في الحسابات المالية
وفي خطوة ذات توقيت لافت، وقّع وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني أمس مع ثلاث شركات أجنبية، عقوداً تتعلق بـ"التدقيق الجنائي والمالي" في الحسابات المالية، وهو ما طالب به ماكرون مراراً. ومن المفترض، بحسب مسؤولين لبنانيين، أن ينسحب التدقيق لاحقاً على مؤسسات رسمية أخرى، تنفيذاً لمطلب من صندوق النقد الدولي. كما أصدر المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي فادي صوان، أمس مذكرات توقيف بحق عدد من المسؤولين الأمنيين في المرفأ بينهم مسؤول المخابرات في المرفأ أنطوان سلوم.