لعلّ الانفتاح وحريّة التغطية والكتابة هي من أبرز مكتسبات الصحافيين السودانيين إزاء الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام عمر البشير. لكن، وبينما يؤكد عاملون في المجال أنّ الرقابة تبددت ويبشّرون بريادتها وحياديتها ووعيها مستقبلاً، يشير آخرون إلى انتشار نوعٍ جديد من الرقابة واستمرار من لهم علاقة بالنظام السابق في العمل الصحافي، ولا يتفاءلون بمستقبل القطاع.
بعد حرمانها من الكتابة بقرار أمني من نظام الرئيس المعزول، عمر البشير، عاودت الصحافية السودانية، سهير عبد الرحيم، كتابة زاويتها اليومية في صحيفة "الانتباه"، مؤكدةً أنّها "تحررت مع بقية الكتاب والصحافيين من كل قيود الماضي التي كبّلهم بها النظام".
تقول عبد الرحيم لـ"العربي الجديد" إنّالمناخ الصحافي تغيّر كلياً بعد نجاح الثورة في السودان. فليس هناك رقابة قبْلية (كانت السلطات الأمنية في عهد البشير تحدد ما يُنشر في الصحف وتحجب صحفاً عن الصدور بسبب محتوى صفحاتها) ولا رقابة ذاتية، بدليل أنّه لم يُحجب لها حتى الآن، حسب قولها، أي مادة كتبتها، ولم يجرِ تعديل أو تغيير على أي حرف كتبته، أو حتى إضافةً كما كان يحدث في السابق.
توضح الصحافية أنّه في الماضي كانت هناك خطوط حمراء تضعها الأجهزة الأمنية بحيث لا يستطيع أي كاتب الاقتراب منها، وهي تشمل موضوعات وشخصيات حكومية وفي الحزب الحاكم، مؤكدةً أن تلك الخطوط "تلاشت تماماً بعد الثورة"، مدلّلة على ذلك بأنها كتبت حتى عن رئيس المجلس العسكري الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، تحت عنوان "موش كدا يا برهان". وترى سهير عبد الرحيم أنّ الصحافة السودانيّة ستكون خلال المرحلة المقبلة على قدر التحدّيات، خصوصاً أنّ الأقلام الصحافية لها درجة عالية من الوعي الوطني وتدرك كذلك مسؤوليتها في ظلّ مؤامراتٍ داخليّة وخارجيّة على البلاد وعلى الثورة تحديداً، معتبرةً أن الإعلام ككلّ سيكون شريكاً جوهرياً في التنوير الذي تحتاجه الثورة والبلاد.
لكن الصحافي أحمد يوسف التاي، الذي عمل من قبل رئيساً لتحرير صحيفة "الصيحة" لا يوافقها الرأي. إذ يقول لـ"العربي الجديد" إنّه غير متفائل لأيّ دور يمكن أن تلعبه الصحافة في المرحلة المقبلة لأن القائمين عليها غير قادرين، حسب تقديره، على تجاوز الحواجز النفسيّة التي خلّفها النظام السابق من خلال ممارسته للرقابة القبلية على الصحف ومصادرتها ومحاصرتها إعلانياً، ومنع كتاب الرأي من الكتابة، فضلاً عن الاستدعاءات والاعتقالات بواسطة الأجهزة الأمنية.
ويضيف التاي عاملاً آخر يحول دون قيام الصحافة بدورها في تقديم المعلومات والحقائق ومراقبة السلطات والكشف عن مواقع الدولة العميقة، وهو عامل استمرار هيمنة أشخاص لهم علاقة بالنظام السابق بشكل أو بآخر. ويُبيّن أنّ تلك الهيمنة لها أثرها الواضح "حتى ما ينشر تشعر أنه يتم فقط تماهياً مع الوضع الجديد وليس قناعةً من الناشرين أو رؤساء التحرير الذين لديهم مصالح مع النظام القديم، ولديهم إحساس أنه موجود وسيعود في أي لحظة"، مشيرا إلى أنّ "الصحف لا تزال تتردد في نشر ملفات فساد النظام السابق وتتردد حتى في نشر حوارات مهمة وذات صلة بالواقع". كما يرى أنّ المطلوب من الصحافة الآن هو "القيام بدورها المهني لعكس نبض الجماهير وممارسة الضغوط على القوى السياسية للعمل على تصفية مؤسسات النظام السابق ومحاكمة رموزه، كشروط ضرورية لإكمال الثورة".
من جانبه، يرى مراسل وكالة "الأناضول"، بهرام عبد المنعم، أنّ ما حدث بعد الثورة للعمل الصحافي هو "قفزة كبيرة في الحريات الصحافية"، مضيفاً في حديث لـ"العربي الجديد" أنّ "السلطات البائدة قامت بسحب ترخيص عمله منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، ولم تسمح له رسمياً بالعمل إلا بعد سقوط النظام".
ويقول إنّه "في الماضي لم يسمح لمراسلي القنوات الفضائية بالخروج بكاميرا لتصوير ما يدور من احتجاجات في الشارع، ولم يسمح لهم باستضافة من يشاؤون، إذ يمنعون من الحديث مع شخصيات معارضة بصورة صارخة بحسب ما كانت تصنفهم السلطات الأمنية في عهد البشير". ويؤكد عبد المنعم أنّ "مراسلي وكالات الأنباء والصحف أو القنوات الفضائية يجدون حريةً واسعةً في الحركة وفي العمل ككلّ هذه الأيام، وفي اختيار المواضيع، ولا شيء يمنعهم من فعل شيء إلا القانون"، بحسب تعبيره. ويشير إلى أنّ "إحصاءات توزيع الصحف السودانية ارتفعت بنسبة كبيرة لأن الصحافة باتت حرة تماماً وتمارس عملها بمهنية عالية جداً"، متوقعاً أن تجتاز الصحافة السودانية كلّ التحديات وتصبح الصحف السودانية من كبريات صحف الإقليم.
لكنّ الكاتب الصحافي، محمد عثمان إبراهيم، يلفت إلى "ظهور نوع جديد من الرقابة بعد الثورة"، ويقول إنّ مظهره الأول هو "الترهيب للحصول على المساندة، والتقريع للعقاب على مواقف سابقة".
ويضيف إبراهيم لـ"العربي الجديد" أنّ "هذا النوع من الترهيب يجد سوقاً رائجة هذه الأيام بوجود تكتل ضخم من الناس، وهم ليسوا من القراء التقليديين للصحف، في حالة تفرّغ تام للنشاط السياسي. وبالتالي فهم يتناوبون على قراءة الصحيفة الواحدة ويصنعون موقفاً جماعياً (قطيعياً) إزاء محتوياتها لا يعتمد على التلقي والتمحيص الفردي المعتاد، ما يجعل سطوة هؤلاء الترهيبيين أكبر"، ويشير إلى "محاولة العديد من الصحف والصحافيين والكتاب، الذين كانوا محسوبين على النظام السابق، التخلص من مواقفهم القديمة التي باتوا يشعرون بالخزي منها والظهور بمظهر جديد يضمن لهم الاستمرار بعد تركيب قناع ثوري جديد".
ويقول إبراهيم إنّ "المرحلة المقبلة تحتاج إلى قانون جديد للصحافة ونقابة مهنية جديدة وصحف جديدة، باستثناء عدد محدود من الصحف التي يديرها ناشروها برساميل محدودة. فإنّ أغلب الصحف مرتبطة بشكل مباشر بالنظام السابق وأجهزته الأمنية وحزبه الذي كان حاكماً، لا يمكن لتلك الصحف الإستمرار بذلك المنهج". ويرى أنّ الصحف تحتاج كذلك لفتح التنافس ورفع الأجور بحيث تستوعب أصحاب القدرات الأرفع من الفرق الصحافية الحالية التي تعمل بموجب نظام تعبئة الفراغ وهو الفراغ الناتج عن هجران الأفضل.
من جهته، يؤكد الصحافي محمد البشاري أنّ "ممارسة الصحافة قبل الثورة تختلف تماماً بعد الثورة حيث الحريات الواسعة"، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أنّه "بعد سقوط النظام البائد بات بإمكان الصحافيين تقديم تغطية محايدة ومستقلة، حتى المعلومات الخاصة بالفساد باتت تنشر". ويضيف "بينما كنا في الماضي نحصل عليها لكن يصعب نشرها بقرار من رؤساء التحرير أحياناً أو بقرار الأجهزة الأمنية أحياناً أخرى". ويشير البشاري إلى أنّ "أخبار المعارضة وحتى الحركات المسلحة صارت تتصدر المشهد الصحافي، بينما في الماضي كانت خطوطاً حمراء ممنوعا الاقتراب منها أو حتى تصويرها".