ما هو أخطر من الانفجار
برغم تفاهة التجمع الصديدي المسمى بـ "مجلس الشيوخ"، إلا أن قراءة التفاصيل التي رافقت تكوينه تظل مهمة، لأنها المرة الأولى التي تُجرى فيها "عملية انتخابية" في ظل حالة الاحتقار الكامل والمتبادل بين نظام السيسي وقطاعات كبيرة من جمهوره العريض السابق، وأنا هنا لا أعني الذين يعانون من أعراض النفاق والتعريص الإرادي أو اللا إرادي أو المخطوفين ذهنياً من السيساوية، بل أتحدث عن ملايين من المصريين كانوا يصدقون فعلاً أن هناك خطة ما لجعل مصر قد الدنيا، وأن من يحكمهم لديه اهتمام حقيقي برأيهم وحياتهم ومستقبل عيالهم، وكانوا بناءً على ذلك يظنون أنهم ليسوا مجرد ديكور في المشهد، ليكتشف كثير من هؤلاء خلال السنين القليلة الماضية، أنهم ليسوا مؤهلين أصلاً للعب دور الديكور، وأن المشهد يمكن أن يمشي ويستمر من غيرهم "عادي جداً"، لأن العقلية الميري بطبيعتها تحب عمل ديكورها عمولة في مصانع القوات المسلحة، ولا تثق في ذوق ونوايا مصممي ومنفذي ولاعبي الديكور المدني.
لحظة الاكتشاف المرير هذه تشكلت عبر محطات عديدة، من بيع تيران وصنافير إلى تعديل الدستور من أجل البقاء الأبدي في الكرسي إلى تعويم الجنيه ورفع أسعار البنزين واستمرار الحفر على الناشف في مصلحة المواطن إلى موضوع القصور الرئاسية وشعار "أيوه هابني وأبني وأبني"، إلى التعامل مع ملفات محلية كان يمكن أن يتم حلها بهدوء بدلاً من التعامل معها بعجرفة كما حدث في موضوع هدم مقابر المماليك وبناء الكباري وسط العمارات ونزع أشجار مصر الجديدة والتعامل الغشيم مع سكان جزيرة الوراق ومنطقة المكس، وفي كل محطة من هذه المحطات كان يتأكد لقطاعات من المواطنين المؤيدين للسيسي أن القمع الدموي الذي سبق لهم أن أيدوه لكي تنصلح أحوال البلد وتتحسن حياة أولادهم، يمكن أن يكونوا ببساطة هدفاً له، لو فكروا أن يسألوا: لماذا لم تنصلح أحوال البلد ولماذا أصبحت أحوال أولادنا أسوأ؟، ومع أن بعض هؤلاء اكتشف الحقيقة المرة إلا أنه يفضل اللجوء لحل نفسي دفاعي، وهو أن يذكر نفسه ومن حوله بأن البلد على الأقل لا زالت مستقرة وآمنة و"أهوه أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق وليبيا"، ولولا الكسوف من التناقض لقال بصوت عالٍ: "وأحسن ما نبقى زي سينا".
ما لم يُدرس حتى الآن، وأظنه يتضح يوماً بعد يوم هو أن التحلل والتعفن أصبحا البديل الأخطر على مصر من الانفجار، وهو ما لن يهتم به صاحب عقلية عسكرية مثل السيسي
بعض الذين علقوا على "نِمرة" مجلس الشيوخ الهزلمأساوية، حاولوا قراءتها بوصفها شبيهة لحالة الغطرسة التي تعامل بها نظام مبارك مع انتخابات مجلس الشعب الأخيرة في عهده، وهي نفس الفترة التي رفع فيها مبارك شعاره الموجز الأثير "خليهم يتسلّوا"، وغاب عن هؤلاء أن كل انتخابات مبارك مع اختلاف تفاصيلها، كانت في جوهرها جزءاً من عملية استكمال الشكليات المهمة لتثبيت القشرة المدنية للدولة، ولذلك كان يتم إدارتها بشكل مسرحي على يد مخرجين متخصصين في التزوير الهزلي مثل صفوت الشريف وكمال الشاذلي وعلي الدين هلال وغيرهم من الذين يحددون من سيرتدي أزياء المعارضة ومن سيرتدي أزياء المراقبين ومن يرتدي أزياء المعلقين الإعلاميين والمحللين السياسيين، أما نظام السيسي فهو ليس مضطراً من الأصل للشكل المسرحي، وإن كان لا بد من شكل فني لإخراج الطقس الانتخابي، ستجد أنه يفضل عمل شيء مثل أوبريتات الجيش التي كان يتم عملها في ذكرى حرب أكتوبر أيام مبارك، يعني أعمال غنائية استعراضية تخدم هدفاً محدداً ودون أي عناصر درامية، مع ترك هامش للمواطنين الذين يمتلكون فائضاً من التعريص لكي ينفسوا عن أنفسهم ببعض الممارسات الفولكلورية من باب "ربنا ما يقطع لنا عادة".
صحيح أن النظام أعلن غضبه من الاحتقار التام الذي أبداه مواطنوه ومؤيدوه السابقون للعملية الانتخابية الهزلية، وهو ما بدا في قرار إحالة ملايين الممتنعين عن التصويت إلى النيابة، والذي سيترجم طبقاً للكثيرين إلى حركة جباية جديدة تضاف على الفواتير والرسوم دون أن يمتلك أحد حق الاعتراض، لكن مجلس الشيوخ المستجد مع ذلك لم ولن يفقد أهميته الرمزية لدى نظام السيسي، الذي ابتدعه في الأصل لكي يواصل تشغيل ماكينة تدوير المصالح، فلا تصاب بالجمود والتكلس، ويحدث عن ذلك تداعيات تهدد قدرته الكاملة على "عفق" مفاصل الدولة والإمساك بتلابيبها، ولذلك بعد أن ابتدع النظام مسألة تعيين مستشارين عسكريين في جميع المحافظات، لكي يقوم بمراضاة القيادات التي تخرج على المعاش، وينجح في تصعيد أجيال أصغر تكون أكثر ولاءً له، هاهو يقوم بعد ذلك بتشكيل كيان مجلس الشيوخ، لكي يتم توسيع دائرة الانتفاع الموجودة في مجلس الشعب، ويدخل فيها وجهاء ورموز عائلات وعصبيات ومناطق، ويضم إليهم فاسدين ومنافقين مخضرمين لينقلوا خبرتهم للفاسدين والمنافقين الجدد.
بالطبع، يعتقد الكثيرون أن هذا المجهود كله يندرج تحت بند الخيبة والإفلاس ويسخرون من كل ما قام به النظام في هذا المجال، وهذا حقهم حتى لو كان اعتقادهم هذا من باب التنفيس المشروع عن الغضب، لكنهم يخطئون حين يتصورون أن مثل هذه الممارسات يقوم بها النظام لكي يخلق حركة سياسية مؤيدة له تشبه ما كان يقوم به عبد الناصر حين فكر في إنشاء كيانات سياسية مثل الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، فالهدف الذي يفكر فيه نظام السيسي أقصر وأكثر عملية، وهو الإبقاء على حالة الأمر الواقع، تلك الحالة التي يدعمها بضرب أمني باطش ومحسوب لكل من يفكر في الحركة وسط الناس من معارضيه، وبالأخص من المحسوبين على ثورة يناير، وضرب عشوائي موازٍ يشيع حالة من الرعب وانعدام الجدوى، مستفيداً في الوقت نفسه من الهراء الإخواني المبثوث عبر قنوات ومواقع وحسابات سوشيال ميديا، كان ضباط المخابرات والأمن الوطني لو أداروها بأنفسهم سيعجزون عن الاستفادة منها بالشكل الذي يحققه لهم أصحابها الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وفي الوقت نفسه يراهن نظام السيسي على أن الزمن سيساعده على استيعاب الضربات التي تلقاها بسبب وباء كورونا وأزمة سد النهضة وحساباته الخاطئة في ليبيا، مؤملاً على أن علاقاته الوثيقة بحلفائه الإقليميين والدوليين ستساعده على لم وتعويض الخسائر التي تسببت فيها رهاناته الكارثية.
لكن ما ينساه نظام السيسي وضباطه والمنتفعون به والمستمرون في تأييده، أن الاعتماد الكامل على إبقاء الأمر الواقع بقوة السلاح، والتلويح الدائم بالجيش وإمكانية نزوله إلى المدنى والقرى لحل أزمات ليست من صميم اختصاصه مثل أزمة البناء المخالف الكارثي على الأراضي الزراعية، هو التكنيك الوحيد الذي لعبت به أنظمة العراق وسوريا وليبيا واليمن، وهو ما أدى في النهاية إلى تفجير واقع تلك البلدان بالشكل المزري والأليم، صحيح أن مصر ستظل حالة مختلفة عن تلك الدول لأسباب كثيرة أشار إلى بعضها الدكتور جمال حمدان في كتابه المهم (شخصية مصر)، حين تكلم في بعض أجزاء كتابه الضخم عن تكوين مصر السياسي والاجتماعي عبر التاريخ والذي جعلها حالة سياسية خاصة "لا تُشفى ولا تموت"، لكن جمال حمدان كان في النهاية يتحدث عن فكرة الانفجار التي ظلت ولأسباب مختلفة تؤرق الكثيرين منذ أن أحكم العسكر سيطرتهم على مصر عقب ثورة يوليو 1952، لكن ما لم يُدرس حتى الآن، وأظنه يتضح يوماً بعد يوم هو أن التحلل والتعفن أصبحا البديل الأخطر على مصر من الانفجار، وهو ما لن يهتم به صاحب عقلية عسكرية مثل السيسي، كل ما يهمه أن يرى من يحكمهم يؤدون التحية ويسمعون الأوامر ويرددون الشعارات والهتافات ويرفعون العلم عالياً خفاقاً، حتى لو رفعوه على خرابات تم تشطيب واجهاتها وممراتها بالرخام المصقول ليغطي على عفنها وتهرئها الذي سيدفع الجميع ثمن التهرب من مواجهته.
والله أعلم.