سؤال: "لماذا حارب أجدادنا ضد هتلر؟"، يطرحه عدد كبير من الشباب الروس والأوكرانيين.
ينبع هذا السؤال عند البعض من مقارنة بين الشيوعية والنازية، وعند البعض الآخر، ممّا آلت إليه الأمور بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وضياع كل ما ضحّى الأجداد من أجله، وعند بعض ثالث، تحلّلاً من فكرة الدولة الوطنية.
ولكن، أياً تكن مرجعيات السؤال ودوافعه، فثمة انقسام واضح في المجتمع الأوكراني، بين مَن يرون في بنديرا، الذي حارب الروس، بطلاً قومياً، ومَن يرون فيه خائناً حارب الروس إلى جانب ألمانيا النازية. كما ثمة انقسام، لكنه أقل حدّة وقابلية للتفجّر، في المجتمع الروسي، بين ليبراليين لا يرون في الغرب عدواً، وقوميين أو وطنيين لا يغادرهم حلم الإمبراطورية الروسية، ويرون في مشاريع الغرب الأطلسي تهديداً دائماً لحلم روسيا الأوراسي.
الانقسام حول طبيعة الحرب العالمية الثانية، يعود أيضاً إلى أن فكرة الدفاع عن الوطن، التي طالما أكسبت القتال ضد ألمانيا النازية قُدسية، ارتبطت بفكرة الوطن السوفياتي نفسه، الذي ما إن انهار، حتى تعرّت الألغام التي كان يرقد عليها، والتي لا تزال روسيا نفسها تحاول العيش والتوازن فوقها، من دون أن تتمكن من نزع فتيلها.
على هذه الأرضية، يحاول بوتين خوض معركة "نظيفة" في حرب يرى أنها لم تنته بعد، بل يعتبر أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو فصل من فصولها، أو جولة من جولاتها الخاسرة، ولكن ليست الجولة النهائية. ولا ينفكّ بوتين يعبّر عن مأساوية ذلك الحدث الذي أذن بتغيير العالم في نهاية ثمانينات القرن الماضي.
بناءً عليه، يرى "البوتينيون" أن روسيا استوعبت الدرس وتعلّمت كيف تقاتل وتكسب، بل تعرف كيف تحسم نتائج معاركها من دون أن تخوضها، ويرون أن معركة ضم شبه جزيرة القرم، كانت واحدة من المعارك الذكية "النظيفة"، وثمّة مَن يرى في ذلك حكمة شرقية يتمتع بها لاعب الجودو بوتين.
من المستبعد أن يكون الجنود قد ابتسموا من تلقاء أنفسهم في عرض القوة، لمناسبة "يوم النصر"، في الساحة الحمراء. لم يسبق أن فعلوا ذلك في العروض السابقة التي كَرَّرت رمي رايات جيوش هتلر تحت الأقدام.
الجندي المهزوم أو الخائف لا يبتسم، لكن الجنود لم يبتسموا أمام المرآة، إنما أمام الجماهير والشاشات. هي الابتسامة ـ الرسالة.
يصعب قراءة مغزى هذه الرسالة بمعزل عن نصب "وداع السلافية"، الذي شُيّد في محطة بيلاروسيا للقطارات بموسكو. ثمّة رمزية خاصة هنا. الأنوثة والأمومة والجمال، تبارك الجنود الخارجين إلى القتال من أجل الوطن، ولكنه الوطن الأكبر من روسيا الحالية.
لابتسامة الجنود في الساحة الحمراء، معنى النصر المتحقّق والنصر المأمول. ثمّة معركة مستمرة، وستُعزف موسيقى "السلافية" مع خروج كل قطار إلى تلك الجبهة، التي لم ينطفئ الجمر تحت رمادها بعد. ومعلوم أن الهجوم الأول على الاتحاد السوفياتي تم من بيلاروسيا، حيث خُلّدت معركة قلعة بريست في رواية "ليس بين الأسماء"، وبالتالي فالذهاب إلى هذه الجبهة لقتال النازيين يحمل بُعداً وطنياً لا يستهان به. ولكن، لماذا اليوم؟
من القوة الناعمة إلى القوة الخشنة
الجنود في سيفاستوبول (القرم) يمشون تحت عيني الزعيم. للعرض هنا معنى الاحتفال بنصر ومباركة الانطلاق إلى غيره. كان بوتين قد أعلن بوضوح أن الزمن تغيّر، وعلى أحد ما أن يأخذ في الاعتبار أن روسيا لن تسكت بعد اليوم.
في الواقع، لم يقل بوتين شيئاً عمّا إذا كانت روسيا، التي لا تزال ضعيفة، وتعتمد اقتصاداً حصراً على بيع مصادر الطاقة، روسيا التي ينخرها الفساد، ستكون قادرة على تسديد ثمن مثل هذا الموقف. فمنذ مؤتمر الأمن بميونيخ في فبراير/ شباط 2007، أعلن بوتين أن الغرب كاذب ولا يفي بالتزاماته تجاه روسيا، وأن "الولايات المتحدة الأميركية تخطت حدودها في جميع المجالات"، وأن "أحداً يريد تحويل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي إلى أداة سوقية، لضمان المصالح الخارجية لدولة واحدة أو مجموعة دول".
وبعدها جاء التدخل الروسي الحاسم في ما عرف بالحرب الجورجية (8 أغسطس/ آب 2008). وها نحن اليوم أمام تدخل مشابه في أوكرانيا، وها هم الجنود في الساحة الحمراء يرسمون ابتسامات عريضة على وجوههم، بمعنى: "نحن سائرون في طريق نصر جميل ونظيف لروسيا، أيدينا بيضاء ولسنا مضطرين للتكشير عن أنيابنا".
أمّا في سيفاستوبول، فتم استعراض الوجه الآخر للابتسامة ـ تكشيرة القوة، في الجو والبحر وعلى الأرض.
استعراض القوة المدمرة الروسية، يخرج عن حدود رمزية الاستعراضات التي سبقته. فهنا رسالة معاكسة: رايات أعدائنا تحت أقدامنا، وصواريخنا الاستراتيجية الحاملة للرؤوس النووية موجهة إليهم.
يتزامن ذلك مع أصوات صريحة في المؤسسة العسكرية والأيديولوجية الداعمة لها في موسكو، تقول بضرورة توسيع قاعدة الصواريخ النووية متوسطة المدى وزيادة عددها، وتلوم رئيس الوزراء، ديمتري مدفيديف، على إضاعة المال والوقت في تطوير الأسلحة التقليدية.
الجنود يؤمَرون برسم ابتسامة عريضة على وجوههم في الساحة الحمراء، وبوتين يزور القرم سيّداً، فهل يكسب الزعيم معركة أخرى من دون دماء؟ جبهة أوكرانيا التي عادت السخونة إليها بعد 69 عاماً من البرودة، مفتوحة على أسوأ الاحتمالات.