مبادرات تفكّك تحالفات لبنان ولا تنجح في انتخاب رئيس

02 فبراير 2016

من يجلس على كرسي الرئيس اللبناني في قصر بعبدا؟(أ.ف.ب)

+ الخط -
بعد نحو سنتين من الترقب والانتظار لما يمكن أن تسفر عنه الأوضاع الإقليمية المتفجرة، بخاصة في سورية، وما ترتب على ذلك من فشلٍ في الاتفاق على مرشحٍ يسمح بعقد جلسة نيابية لإتمام عملية انتخاب رئيس للجمهورية، شهد موضوع الفراغ في منصب رئاسة الجمهورية اللبنانية، والمستمر منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق، ميشال سليمان، في مايو/أيار 2014، تطورين لافتين في الأسابيع الأخيرة؛ تمثّل الأول بترشيح رئيس الوزراء الأسبق وزعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، وهو من أقطاب فريق 14 آذار، أحد أقطاب معسكر فريق 8 آذار، وهو الوزير سليمان فرنجية، لشغل منصب رئيس الجمهورية. في المقابل، رشّح زعيم القوات اللبنانية، وهو حليف رئيس للحريري في فريق 14 آذار، خصمه اللدود من فريق 8 آذار الجنرال ميشال عون.

خلط الأوراق والتحالفات
مثّلت هذه الترشيحات صدمة داخل لبنان. وأدّت إلى خلط أوراق التحالفات السياسية والجهوية والطائفية القائمة منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، في فبراير/شباط 2005. وكانت القوى السياسية اللبنانية قد انقسمت إلى فريقين كبيرين في إثر عملية الاغتيال؛ الأول تحالف 14 آذار (نسبة إلى اليوم الذي خرجت فيه تظاهرات كبرى تندد باغتيال الحريري، وتدعو إلى خروج القوات السورية من لبنان)، وأبرز مكوناته تيار المستقبل الذي يتزعمه الحريري، وحزب الكتائب الذي يتزعمه الرئيس الأسبق، أمين الجميل، وحزب القوات اللبنانية الذي يتزعمه سمير جعجع، والحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه الوزير والنائب السابق، وليد جنبلاط. ويضم التحالف أيضاً أحزاباً أصغر حجماً، مثل حركة اليسار الديمقراطي، ولقاء قرنة شهوان، وحزب الوطنيين الأحرار، وغيرها. بينما يضم فريق 8 آذار (نسبة إلى اليوم الذي خرجت فيه تظاهرات كبرى تدعم الموقف السوري) كلاً من حزب الله، وحركة أمل التي يقودها رئيس البرلمان، نبيه بري، وتيار المردة الذي يقوده الوزير السابق، سليمان فرنجية، والتيار الوطني الحر بزعامة الجنرال ميشال عون (لم يكن جزءًا من هذا التحالف عند قيامه بل كان عنصراً أساسياً في الحركة المعارضة للوجود السوري في لبنان)، وهناك أيضاً أحزابٌ وقوى صغيرة أخرى، مثل الحزب الديمقراطي الذي يقوده الوزير السابق، طلال أرسلان، وغيره.

ولم يمثّل ترشيح الحريري فرنجية مفاجأة كبيرة، بسبب انتماء الطرفين إلى معسكرين سياسيين مختلفين فقط، إذ يعدّ فرنجية من أبرز حلفاء النظام السوري في لبنان، بل لأنّ فرنجية كان أيضاً وزيراً للداخلية، عندما جرى اغتيال رفيق الحريري. أمّا الجنرال عون (المتهم بالتحالف مع إيران)، فكان من أبرز خصوم سمير جعجع، وقد تواجه الطرفان في قتال عنيف في السنوات الأخيرة للحرب الأهلية اللبنانية في ما سمِّي حينها "حرب الإلغاء"، حيث كان عون يشغل منصب رئيس الحكومة العسكرية في لبنان بين عامي 1988-1990، وكان كلٌ منهما يحاول احتكار التمثيل المسيحي.

صدمة الحريري
على مدى سنتين، فشل اللبنانيون في انتخاب رئيس جديد، لتعذّر انعقاد جلسة برلمانية بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني واختلاف القوى النيابية على تحديد المرشح الملائم لشغل المنصب. وقد أدّى ذلك إلى إصابة البلد بحالةٍ من الشلل، ضربت الاقتصاد وعطّلت الحكومة، ومنعتها من اتخاذ القرارات الإدارية المطلوبة لإدارة شؤون الدولة والمجتمع. وعلى عادتها، ظلّت القوى السياسية تنتظر أن يأتي الحل من القوى الإقليمية في الخارج. لكن الخارج بدَا منشغلاً بقضايا لم يكن في مقدمتها اختيار رئيسٍ للبنان. ما دفع بعض القوى السياسية إلى التحرّك من منطلق قراءته مستجدات الوضعين، الإقليمي والدولي.
وبناءً عليه، جرى عقد اجتماع في باريس بين الحريري وفرنجية، قام الثنائي نبيه بري ووليد جنبلاط بدور في تسهيله. وعلى الإثر، أعلن سعد الحريري عن تبنّي ترشيح فرنجية لمنصب الرئاسة من دون استشارة حليفه سمير جعجع في موضوع المنصب الماروني الوحيد، وهو منصب رئيس الجمهورية، ما أثار حفيظة جعجع؛ فقد تعامل الحريري مع المركّب المسيحي في "14 آذار" باستخفاف، و"كأنّه في الجيب". أثارت خطوة الحريري لغطاً كبيراً في صفوف الحلفاء والخصوم على السواء؛ إذ عدَّها جعجع خطوةً غير ملائمة، تقوّض أسس التحالف الذي جمعه بالحريري على أساس الثقة والتشاور حول مختلف القضايا. ولم تنل الخطوة إعجاب رموز تيار "المستقبل" أيضاً، وتحديدًا نواب طرابلس وعكار وبعض أنصار تيار 14 آذار الذين وجدوا في اعتراض جعجع مسألة مبدئية، وأنّه على حق في رفض القبول بمرشحٍ محسوب على تيار 8 آذار، ولا ينكر صداقته الشخصية مع بشار الأسد، وعلاقته التقليدية القوية بالنظام السوري وعائلة الأسد منذ عهد جدّه الرئيس الأسبق سليمان فرنجية. 
وقد تطورت ردود الأفعال على خطوة الحريري، إلى حدّ زعزعة التحالفات القائمة وتوازناتها الجهوية والمناطقية. إذ هدّد نواب الشمال والأقضية المحيطة بزغرتا بالمقاطعة، في حال أصرّ الحريري على ترشيح واحدٍ من وجوه النظام السوري في لبنان، لأنّ أهل أقضية الشمال كانوا الأكثر تضرراً من سياسات النظام السوري في العقود الأربعة الأخيرة. كذلك، فإنّ خصومة جعجع وفرنجية التي تأسست على صراعات حزبية وعشائرية، تعود في جذورها إلى منافساتٍ وصداماتٍ دموية بين قضاء بشرّي المجاور لقضاء زغرتا.
أحدثت خطوة الحريري صدمة سياسية لدى تحالف 8 آذار أيضاً، إذ رفَضها المرشح الدائم للرئاسة ميشال عون، وجاراه في موقفه حزب الكتائب (المتن الشمالي) المحسوب على 14 آذار. لم يكن اعتراض عون من منطلق أحقيّته في الرئاسة فقط، بل كان أيضاً بناءً على منظومة خطاب طائفي، يرى أنّه لا يحقّ للمسلمين فرض المرشح لاعتلاء مقعدٍ مخصص للمسيحي. وقد أعاد اعتراض عون تشكيل المشهد السياسي، وحشره مجددًا في زوايا طائفية حادة. فهو، من جانبٍ، أحرج خصومه المسيحيين وتحديدًا جعجع، وأربك، من جانبٍ آخر، صديقه فرنجية الذي أصبح رهينة التجاذب الطائفي، وما سجّله من اختراقاتٍ في جدار الانقسام السياسي بين فريقَي 8 و 14 آذار.
وهكذا، فإنّ الخطوة التي كان من المفترض أن تؤدي إلى شقّ صفوف 8 آذار، أدّت إلى شقّ صفوف 14 آذار، وربما أنهت مرحلة الاصطفاف التي نشأت بعد اغتيال الحريري.

قراءة حزب الله المشهد وردّ جعجع
أعطى هذا التجاذب فرصة لحزب الله للتحرّك باتجاه إعادة تأكيد دعم عون أولاً. وإذا تعذّر، فهو لا يمانع في انتخاب فرنجية ثانياً، في حال جرى التوافق على الأمر. وعلى عادته، بدأ حزب الله يتصرف وكأنّه المنتصر في معركةٍ لم يبادر إلى فتحها. إذ نشط نواب الحزب في العمل على مبدأ "فرّق تسد"، ما دام المرشح المضاد لعون من دائرة تحالفاته المحلية والإقليمية، فهو صديق على المستوى الداخلي وحليف سورية إقليمياً، لكنّه الأقل قدرة على ضبط قواعد اللعبة، لكونه يشكّل الحلقة الأضعف مسيحياً في سلسلة الأحجام النيابية.

وكعادته أيضاً، أخذ حزب الله يقرأ الصورة من جوانبها الإقليمية والدولية، وبدأ يفسر مبادرة الثنائي بري وجنبلاط ("الفهلوية" الطابع والمتلائمة مع طبيعة إدراتهما السياسة الطائفية في لبنان منذ عقود) وكأنّها توجيهات سعودية؛ فالسعودية بموجب هذا الافتراض قادت الحريري إلى إعلان مبادرة ترشيح فرنجية. ويمتد التحليل بعدها ليعدّها بداية اعتراف سعودي بالضعف، نتيجة المتغيرات التي أخذت ترتسم معالمها بسبب الانفتاح الأميركي على إيران، والاعتراف بدورها الإقليمي بعد تخلّيها عن برنامجها النووي. ووجد خصوم الحريري، أيضاً، في الخطوة محاولةً استباقيةً منه للتقليل من الخسائر المتوقعة لبنانياً، بعد السكوت الأميركي على التدخّل الروسي في سورية، و"انتهاء احتمال سقوط نظام الأسد".
دفع هذا الأمر قوى 14 آذار التي استبد بها القلق إلى مطالبة الحريري بالردّ، وتوضيح أسباب إقدامه على خطوة ترشيح فرنجية. وفي هذا الصدد، جاءت الشروحات مختلفة بين رأيٍ يقول إنّ الخطوة كانت تهدف إلى إحداث صدمة تربك تحالف 8 آذار، وتدفعه إلى التفكك والتوزع على خنادق متوازية في صفوف القوى المتنافسة على منصب الرئاسة، ورأي يقول إنّ الخطوة جاءت للتخفيف من ثقل الخسائر في حال جرى الإصرار على انتخاب عون. وبهذا المعنى، يكون فرنجية أفضل الاختيارات في معادلة الخسارة.
لكنّ جعجع قرأ المسألة من زاوية مختلفة؛ فهو إلى جانب خصومته التقليدية مع فرنجية (صراع بشرّي وزغرتا) وجد في الخطوة إهانةً شخصيةً لموقعه ودوره وحقّه المبدئي في المشاركة في اتخاذ القرار في موضوعٍ، يحتل أولويةً في اهتمامات الشارع المسيحي – الماروني. إضافةً إلى ذلك، حاول جعجع أن يوجّه رسالةً مزدوجة للطرفين، تؤكد أرجحية وزنه في اتخاذ القرارات، وتعديل موازين القوى في المواقع المسيحية. وهو، بقراره ترشيح عون، أحدث صدمةً ثانيةً، لا تقلّ قوةً عن الصدمة التي أحدثها قرار الحريري ترشيح فرنجية؛ إذ أكّد لقوى 14 آذار قدرته على المناورة وتعديل الموازين وسحب البساط من تحت أقدام تيار المستقبل في موضوع الرئاسة. وأكّد أيضاً لقوى 8 آذار أنّه هو الطرف المؤهَّل لحسم مسألة الرئاسة، في حال أصرّ حزب الله على التمسك بترشيح الجنرال عون. قامت حسابات جعجع على أساس اتخاذ قرار صادم، يحرج الجميع، ويدفع مختلف القوى إلى إعادة النظر في حساباتها التفصيلية أو الإستراتيجية. فتيار المستقبل سيحاول إعادة الاعتبار لنفوذه، وانتزاع الاعتراف بوصفه القوة الأساس في اتخاذ القرار، حتى من خصمه عون. أمّا الطرف المسيحي المنقسم على نفسه، فقد أصبح كلّه من جديد ساحة عمل لجعجع الذي ينظر إلى مرحلة ما بعد عون. تصرّف جعجع بموجب قواعد اللعبة الطائفية اللبنانية في مقابل محاولة الحريري وبري وجنبلاط، تهميش دور المسيحيين في اختيار رئيس الجمهورية، وحاز بذلك إعجاب الشارع المسيحي، وأصبح جعجع أيضاً طرفاً في تقرير هوية رئيس الجمهورية. وهذا ليس تطوراً إيجابياً بنظر حزب الله.


خاتمة
حتى الآن، لم تستقر ارتدادات صدمة الحريري وردّة فعل جعجع عليها، بانتظار ما ستسفر عنه ردود الأفعال الإقليمية والدولية التي تترقب بدورها انكشاف ملامح مستقبل سورية. مع ذلك، كشفت التطورات الأخيرة أنّ قوى 14 آذار ربما تكون نجحت في تأجيج الخلاف بين مسيحيّي فريق 8 آذار، وأنّها قد تنجح أيضاً من خلال ترشيح عون وفرنجية معاً في استبعادهما سويّة من الترشح لمصلحة شخصية مارونية ثالثة، يعلَن عنها حين تقترب لحظة الاختيار. لكنّها، من جهة أخرى، أدّت بخطوتها هذه إلى تفكيك تحالفها نفسه، سواء مع مسيحيي 14 آذار، أو حتى مع بعض نواب الشمال من المسلمين. أمّا حزب الله الذي يحاول وضع أوراقه في سلة المنتصر في حال فاز عون (الحد الأقصى) أو فاز فرنجية (الحد الأدنى)، فقد أصبح في موقفٍ حرج، لأنّه لم ينجح في أن يصبح اللاعب الأول الذي يقرّر ويحدّد أسماء المرشحين للرئاسة، بعد أن سبقه تيار المستقبل في ترشيح فرنجية والقوات اللبنانية في ترشيح عون. وجاء كلا الترشيحين من 14 آذار. وهذا يفسّر لماذا يتخوف حزب الله من الذهاب إلى مجلس النواب، لدعم انتخاب مرشحه المفضّل (الجنرال عون) قبل انسحاب فرنجية من السباق، لأنّ موازين القوى لا تزال تعمل نيابياً لمصلحة 14 آذار في حال انعقدت الجلسة، وفشل عون في الحصول على الأكثرية المطلقة في الدورة الأولى. فالدورة الثانية ستكون لمصلحة فرنجية أو المرشح الثالث، لأنّها تحتاج إلى أغلبية نسبية فقط. وعلى كلّ حال، لا يبدو تحالف جعجع - عون مشجعًا حزب الله وتحالف 8 آذار بصورة عامة؛ فمن شأن هذا التحالف أن يربك خريطة الانقسام التي نشأت بعد اغتيال الحريري، كما أنّ هذا التحالف وضع ظاهرة عون في سياقها الحقيقي، فهو ممثّل للمسيحيين، ويترشح بصفته هذه ممثلاً كلّ لبنان بوصفه رئيساً. وهو بالتأكيد ليس ممثّلَ فريق 8 آذار الذي لم ينتمِ إليه يوماً.
ارتبكت الخريطة السياسية. ولكن النظام الطائفي اللبناني حصل على حقنةٍ مقويةٍ جديدة، وبدا أنّه الثابت الوحيد في مواقف النخبة السياسية اللبنانية المتطلعة إلى مناصب في الدولة، بما فيها الموقف ممّا يجري في سورية.