متأكدة يا تيتا؟!
كثيراً ما يحلو للواحد منا تعذيب نفسه.. آه والله! ويا سلام لو تمكن من تعذيب زمرة من السعداء أو أشباه السعداء أو مدعي السعادة معه بالمرة!
فالسعادة كما نعرف جميلة وكل حاجة.. لكنها لو طالت مع المواطن كما في حالتنا، فإنها تتحول لشيء ماسخ بلا طعم. ويحتاج المرء المنقوع في السعادة مثلنا، خصوصا وسط نوات ديسمبر السكندرية اللطيفة التي يغرق فيها داخل طين ومجاري السعادة لركبه "حرفيا".. أقول يحتاج "لحاجة حرشة كده" تذكره بعوالم أخرى يعيشها خلق آخر لكن على نفس ذات الكوكب.. سبحان الله!
شاهدت بالصدفة منذ فترة هذا الفيديو لشوارع غارقة في مياه الأمطار الفيضانية في سويسرا، لا يمكن للمشاهد تمييز وجود مياه تغطي الشارع سوى من حركة السيارة! المياه شفافة وتظهر تفاصيل الشارع بشكل لا يصدق!
والله يا مؤمن قد تكون أنظف من مياه الشرب عندنا! شاهدت الفيديو وابتسمت وسكتّ. لم أحفظه أو أنشره ترفقا بنفسي أولا.. وحرصا على محاولة الإمساك بتلابيب الحكمة بأي شكل ثانيا، إذ ما المنطقي أو الحكيم في عرض ما يحدث في سويسرا ومقارنته بنا في المحروسة، بالذات في مثل هذه الأيام التي لا يعلم بها إلا الله؟! قلة عقل طبعا أو قلة وعي أو أعراض اكتئابية.. وأنا أعيش حالة إنكار بديعة لإصابتي بأيٍ من هؤلاء والحمد لله..
بالأمس وبعد زخة أمطار معتبرة أغرقت الثغر وجعلت العودة للبيت مساء مغامرة تتحمل الفشل وقد يُكتب لها النجاح بمعجزة، وجدتني أتذكر هذا المنظر وأستدعيه، بل وبحثت عن الفيديو وقلت لا بد أن "أشارك جمهوري" فأنشره، فمثل هذه اللحظات المضيئة في حياتنا تستحق التسجيل طبعا..
- مضيئة؟!
- آه والله مضيئة!
معلش.. اللحظات الأولى بعد مشاهدة شيء كهذا تبدأ بغصة، وانطباق لعضلة القلب، وضغطة في حجابك الحاجز، وكرشة نفس، أعرف.. لكن غالبا ما ستنقذ نفسك من المقارنة البائسة الفظيعة تلك بالإسراع بتذكر هوان الدنيا، وقصر عمرها، وقرب الآخرة، وجزاء الصابرين، وما إلى ذلك من معانٍ قد تكون انشغلت عنها يا مسكين بالسرحان في أكوام القمامة، أو في دناءة نباشي القمامة، أو في كيفية المشي في بحور الطين، أو في سب السيارة التي أهدتك رشة طين أغرقت أذنيك، أو في كيفية المبيت داخل السيارة حال تعذر الخروج منها والماء "المطين" يغمرها لحدود الباب.. إلى آخر ذلك من وساوس وملهيات تبعدنا عن الحقيقة الساطعة، الحقيقة التي تجعلنا لا نحسد سويسرا ولا المتنعمين في سويسرا، الحقيقة التي طالما صاغتها جدتي رحمها الله بلهجتها الفلسطينية الظريفة قائلة: "هادولي إلهم الدنيي يا تيتا.. وإحنا إلنا الآخرة".
وبقدر ما يسعدني استدعاء هذه العبارة الرائعة كالبلسم لبعض الوقت، بقدر ما تطغى الميول الاكتئابية التي أحاربها بالإنكار على لحظات المواساة الهشة، وأجدني أحدث جدتي الراحلة متسائلة: متأكدة يا تيتا من موضوع الآخرة ده؟!