05 نوفمبر 2024
متاهة حزب الله..من مغامرة القصير إلى مقامرة حلب
لعل نقطة التقاطع المشتركة الأبرز بين شخصية الجنرال المرابط على تخوم ميدان معركةٍ وشيكة، قوامها الحديد المسقي وحمم النار، وبين تكوين المقامر المدمن على اللعب فوق الموائد المخملية الخضراء، نقول لعلها شاخصةٌ في نقطةٍ مركزية واحدة، وهي أخذ المخاطر من حيث المبدأ، وتقبّل عنصر المجازفة المحسوبة بدقة. وعدا ذلك، لا تماثل ولا خاصيات ولا قواسم بالحد الأدنى، بين من يقف على الحدّ الدقيق الفاصل بين الحياة والموت وبين من يلهو بمدخراته أو بمرتب آخر الشهر أو غير ذلك.
وأكثر ما يعز على قلب المقامر الداخل لتوه على لعبة الأثرياء الماجنة هذه، أن يخسر رصيده مبكراً قبل احتدام الكباش في ليلة السهرة الممتدة غالباً حتى مطلع الفجر، ويشقّ عليه أكثر فأكثر، أن ينسحب مكرهاً من مقعده الوثير، بعد أن يسوء حظه وينفذ البنكنوت من جيب سترته الفاخرة، ثم يرفض الندماء الضالعون بأحكام المراهنات على خمس أوراق كلها مخفية، تسليفه مبلغاً يسيراً، لإكمال شوط هذه المغامرة التي إن بدأت خاسرةً تظل هكذا إلى النهاية.
وعلى نحو ما تمليه غواية الانخراط في سحر عالم المقامرة الماتع، الطافح بأحلام الأرباح السريعة، وما تشيعه أجواؤها الملبدة بروائح السيجار الفاخر، من أوهام وأضغاث تصوراتٍ ورديةٍ زائفة، أوحت سابقة معركة القصير عام 2013 لحزب الله، الباحث عن طريق القدس عبر الزبداني وإدلب، بإمكانية البناء على ما تحقّق من أرباح عسكرية مبكرة، والاندفاع أبعد فأبعد إلى مناطق سورية أخرى، قادته، أخيراً، إلى حلب، بذهنية المقامر السعيد بطالع نجمه في أول السهرة.
ولعل خطاب حسن نصر الله، أخيراً، بمناسبة ذكرى الأربعين لمقتل رئيس أركانه مصطفى بدر الدين في سورية، كان دليل إثباتٍ قاطع، ليس على كونه عتلة إيرانيةً فحسب، وإنما أيضاً على استحكام روح المقامرة لدى وكيل الولي الفقيه في لبنان، وأبلغ شهادة على انجرافه الشديد وراء وهم تكرار واقعة القصير في حلب، على الرغم من التباين البيّن بين المكانين، واختلاف مدخلات الصراع بين زمنين موغلين في الدماء والدمار، ناهيك عن فوارق المعطيات التسليحية والبشرية على جانبي المتراس، الواسع وسع الجغرافيا السورية.
لقد تم تشخيص هذا الخطاب التعبوي المباشر، من الخصوم والمريدين على حد سواء، على أنه خطاب تمهيدي لمعركةٍ وصفها زعيم حزب الله بأنها استراتيجيةٌ كبرى. وقال، بما معناه، إنها ستكون نقطة تحوّل مفصلية في مسار الحرب الدائرة منذ خمس سنوات وأكثر. وبدا الرجل، في رسالته الكاشفة ونبرته المتعالية، كمن يقود قوة إقليميةً عظمى، مستعدة لدفع ضريبة الدم بالكامل، وذلك لحجز مقعدٍ لها على طاولة المفاوضات المحتملة، وأخذ حصتها العادلة من كعكة التسوية اللاحقة، كتفاً إلى كتف مع القوى الإقليمية الدولية المتصارعة.
وأحسب أن تعهد نصر الله بكسب معركة حلب المنتظرة، ووعيده بإرسال مزيد من قواته إلى
أقصى الشمال السوري، وربما إلى البادية، دفاعاً عن بلاد الهلال الخصيب مجتمعةً، بما فيها الأردن هذه المرة، إنما ينم بأوضح الواضحات (حسب تعبيره) عن عُصابٍ مذهبيٍّ شديد، وعقليةٍ سياسية أحادية الفهم، حتى لا نقول مجدّداً إنها روح المقامرة التي كثيراً ما تودي بصاحبها، في نهاية مطافٍ قصيرٍ، إلى التهلكة، فما بالك، ونحن نتحدّث، هنا، عن حلب التي تبلغ مساحتها ضعف مساحة لبنان، ولا نتحدّث هنا عن طائفةٍ في بلد الطوائف المتساكنة تحت قشرةٍ من التوازنات الهشّة.
ومع أن الخطاب المشار إليه آنفاً كان حافلاً بالتبجّحات المعهودة، وفائضاً بمفردات التهويل والمبالغة، إلا أن أكثر ما يسترعي الانتباه، وسط هذه الزحمة من الترّهات المتراصفة جنباً إلى جنب، كان ادّعاء زعيم الحزب الممانع (ماذا يمانع حقاً؟) أن قواته المتموضعة حول حلب صامدة (كذا)، وأن خسائرها ضئيلةٌ بالمقارنة مع خسائر الأعداء على الطرف الآخر، علماً أن صفة الصمود لا تليق بالمهاجم أبداً، وإنما تنطبق فقط على مقاومةٍ وطنيةٍ تجابه جيش احتلال أو غزواً خارجياً، وهو ما ينطبق بالمسطرة والفرجار على المليشيات الإيرانية.
على أي حال، وبنظرةٍ استرجاعية لأهم محطات المأساة الشامية، فقد كانت معركة القصير، قبل نحو ثلاث سنوات، بمثابة بوابةٍ واسعةٍ لفيضٍ من التحولات الكبرى في مسار الأزمة السورية، أو قل دعوة مفتوحة لدخول المحاربين، من كل جنسٍ ولون، بزخمٍ شديد على خط الثورة التي تحوّل مقاتلوها الوطنيون إلى مجاهدين بصورة عامة، تحت وطأة الشعور الطاغي بأن الحرب أصبحت، في جوهرها العميق، حرباً مذهبية، خصوصاً بعد أن رفع حزب الله راية الحسين على مسجد بلدة القصير، في إشارةٍ لا تخطئها العين، أن المعارك المتنقلة امتداد، على طول الخط المستقيم، لواقعة كربلاء التاريخية.
وفي مرحلة ما بعد معركة القصير الكاشفة، وما حملته من دلالاتٍ طائفيةٍ فظة، ظهر تنظيم الدولة الإسلامية، باعتباره أكثر المدعوين استعجالاً لمثل هذه الفرصة المواتية، فقبلها على الفور، استثمر فيها جيداً، وراح يتمدّد مع مرور الوقت، إلى أن بات في زمنٍ قياسي قوة عسكرية كاسحة، متسلحاً بخطابٍ مذهبيٍّ معادلٍ ورؤيةٍ مماثلة، حيث راح ينهل من القاموس نفسه، ويراكم على ما أسّست له المليشيات الإيرانية في أرضيةٍ خصبةٍ وملائمة، ثم أخذ يبني على تلك المداميك صرحاً موازياً لما أرساه حزب الله في تربةٍ خصبةٍ، لترويج مزاعم المظلومية، وتسوية حساب الثارات التاريخية.
وعليه، كانت تداعيات معركة القصير وبالاً طاماً بالقناطير المقنطرة، ليس على الثورة السورية فقط، وإنما أيضاً على كل الأطراف المنخرطة في الحرب الطاحنة، بما في ذلك حزب الله الذي أتى بفعلٍ مذهبي وضيع، عن سابق عمد وترصّد، أدى إلى إيجاد نقيضه بصورة أوتوماتيكية، أو قل إيجاد معادله الموضوعي المباشر، الأمر الذي يطرح سؤالاً استفهامياً عما ستفضي إليه معركة حلب الكبرى من مضاعفاتٍ لا حصر لها، إذا كانت معركة القصير الصغيرة نسبياً، أدت إلى كل ما أدت إليه من متغيراتٍ ميدانيةٍ وتحولات سياسية بدلت جوهر الحرب فعلاً، وأخرجتها من بين أيدي القوى المحلية.
وأكثر ما يعز على قلب المقامر الداخل لتوه على لعبة الأثرياء الماجنة هذه، أن يخسر رصيده مبكراً قبل احتدام الكباش في ليلة السهرة الممتدة غالباً حتى مطلع الفجر، ويشقّ عليه أكثر فأكثر، أن ينسحب مكرهاً من مقعده الوثير، بعد أن يسوء حظه وينفذ البنكنوت من جيب سترته الفاخرة، ثم يرفض الندماء الضالعون بأحكام المراهنات على خمس أوراق كلها مخفية، تسليفه مبلغاً يسيراً، لإكمال شوط هذه المغامرة التي إن بدأت خاسرةً تظل هكذا إلى النهاية.
وعلى نحو ما تمليه غواية الانخراط في سحر عالم المقامرة الماتع، الطافح بأحلام الأرباح السريعة، وما تشيعه أجواؤها الملبدة بروائح السيجار الفاخر، من أوهام وأضغاث تصوراتٍ ورديةٍ زائفة، أوحت سابقة معركة القصير عام 2013 لحزب الله، الباحث عن طريق القدس عبر الزبداني وإدلب، بإمكانية البناء على ما تحقّق من أرباح عسكرية مبكرة، والاندفاع أبعد فأبعد إلى مناطق سورية أخرى، قادته، أخيراً، إلى حلب، بذهنية المقامر السعيد بطالع نجمه في أول السهرة.
ولعل خطاب حسن نصر الله، أخيراً، بمناسبة ذكرى الأربعين لمقتل رئيس أركانه مصطفى بدر الدين في سورية، كان دليل إثباتٍ قاطع، ليس على كونه عتلة إيرانيةً فحسب، وإنما أيضاً على استحكام روح المقامرة لدى وكيل الولي الفقيه في لبنان، وأبلغ شهادة على انجرافه الشديد وراء وهم تكرار واقعة القصير في حلب، على الرغم من التباين البيّن بين المكانين، واختلاف مدخلات الصراع بين زمنين موغلين في الدماء والدمار، ناهيك عن فوارق المعطيات التسليحية والبشرية على جانبي المتراس، الواسع وسع الجغرافيا السورية.
لقد تم تشخيص هذا الخطاب التعبوي المباشر، من الخصوم والمريدين على حد سواء، على أنه خطاب تمهيدي لمعركةٍ وصفها زعيم حزب الله بأنها استراتيجيةٌ كبرى. وقال، بما معناه، إنها ستكون نقطة تحوّل مفصلية في مسار الحرب الدائرة منذ خمس سنوات وأكثر. وبدا الرجل، في رسالته الكاشفة ونبرته المتعالية، كمن يقود قوة إقليميةً عظمى، مستعدة لدفع ضريبة الدم بالكامل، وذلك لحجز مقعدٍ لها على طاولة المفاوضات المحتملة، وأخذ حصتها العادلة من كعكة التسوية اللاحقة، كتفاً إلى كتف مع القوى الإقليمية الدولية المتصارعة.
وأحسب أن تعهد نصر الله بكسب معركة حلب المنتظرة، ووعيده بإرسال مزيد من قواته إلى
ومع أن الخطاب المشار إليه آنفاً كان حافلاً بالتبجّحات المعهودة، وفائضاً بمفردات التهويل والمبالغة، إلا أن أكثر ما يسترعي الانتباه، وسط هذه الزحمة من الترّهات المتراصفة جنباً إلى جنب، كان ادّعاء زعيم الحزب الممانع (ماذا يمانع حقاً؟) أن قواته المتموضعة حول حلب صامدة (كذا)، وأن خسائرها ضئيلةٌ بالمقارنة مع خسائر الأعداء على الطرف الآخر، علماً أن صفة الصمود لا تليق بالمهاجم أبداً، وإنما تنطبق فقط على مقاومةٍ وطنيةٍ تجابه جيش احتلال أو غزواً خارجياً، وهو ما ينطبق بالمسطرة والفرجار على المليشيات الإيرانية.
على أي حال، وبنظرةٍ استرجاعية لأهم محطات المأساة الشامية، فقد كانت معركة القصير، قبل نحو ثلاث سنوات، بمثابة بوابةٍ واسعةٍ لفيضٍ من التحولات الكبرى في مسار الأزمة السورية، أو قل دعوة مفتوحة لدخول المحاربين، من كل جنسٍ ولون، بزخمٍ شديد على خط الثورة التي تحوّل مقاتلوها الوطنيون إلى مجاهدين بصورة عامة، تحت وطأة الشعور الطاغي بأن الحرب أصبحت، في جوهرها العميق، حرباً مذهبية، خصوصاً بعد أن رفع حزب الله راية الحسين على مسجد بلدة القصير، في إشارةٍ لا تخطئها العين، أن المعارك المتنقلة امتداد، على طول الخط المستقيم، لواقعة كربلاء التاريخية.
وفي مرحلة ما بعد معركة القصير الكاشفة، وما حملته من دلالاتٍ طائفيةٍ فظة، ظهر تنظيم الدولة الإسلامية، باعتباره أكثر المدعوين استعجالاً لمثل هذه الفرصة المواتية، فقبلها على الفور، استثمر فيها جيداً، وراح يتمدّد مع مرور الوقت، إلى أن بات في زمنٍ قياسي قوة عسكرية كاسحة، متسلحاً بخطابٍ مذهبيٍّ معادلٍ ورؤيةٍ مماثلة، حيث راح ينهل من القاموس نفسه، ويراكم على ما أسّست له المليشيات الإيرانية في أرضيةٍ خصبةٍ وملائمة، ثم أخذ يبني على تلك المداميك صرحاً موازياً لما أرساه حزب الله في تربةٍ خصبةٍ، لترويج مزاعم المظلومية، وتسوية حساب الثارات التاريخية.
وعليه، كانت تداعيات معركة القصير وبالاً طاماً بالقناطير المقنطرة، ليس على الثورة السورية فقط، وإنما أيضاً على كل الأطراف المنخرطة في الحرب الطاحنة، بما في ذلك حزب الله الذي أتى بفعلٍ مذهبي وضيع، عن سابق عمد وترصّد، أدى إلى إيجاد نقيضه بصورة أوتوماتيكية، أو قل إيجاد معادله الموضوعي المباشر، الأمر الذي يطرح سؤالاً استفهامياً عما ستفضي إليه معركة حلب الكبرى من مضاعفاتٍ لا حصر لها، إذا كانت معركة القصير الصغيرة نسبياً، أدت إلى كل ما أدت إليه من متغيراتٍ ميدانيةٍ وتحولات سياسية بدلت جوهر الحرب فعلاً، وأخرجتها من بين أيدي القوى المحلية.
دلالات
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024