متوحشون كما في فجر التاريخ
... ونحن نشاهد الصورة المروّعة التي نشرتها داعش بكاميرات متحرّكة على العتلات، على الطريقة الهوليودية، واختلاط أمواج البحر بالدماء، ومزيج اللونين الأزرق المتوسطي والأحمر المصري الذي نزفته بروليتاريا قبطية عاملة في ليبيا، وهي تحيل الشاشة الفضية إلى جحيم أحمر، نسأل: هل نحن، اليوم، متوحشون مثلما كنا في فجر التاريخ؟ هل نواجه التحدي الكبير الذي يمثله الخروج من نهاية قرن شرس؟ في الأسطورة الألمانية، يبيع فاوست نفسه للشيطان في مقابل أن يقدم له الأخير المساعدة، لكن داعش لا تبحث عن أي مقابل سوى الترويع، كأننا في فيلم رعب، تحرص على تقديمه بأجلى صوره ذات المهارة التقنية، لأنها تعرف شغف العصر بالصورة وكراهية الكلمة.
يرى ديدرو أن عودة شعب مستنير إلى البربرية أسهل بكثير من أن يتقدم شعب بربري خطوة نحو الحضارة. كنا شعباً مستنيراً بالحضارة والعلم والإسلام المتسامح، لكننا بدأنا نتوجه نحو البربرية في القرن الحادي والعشرين، لن يكون في وسع التاريخ أن يدرك أننا نضطر إلى العيش مجدداً في هذه الظلمات، بعدما سطعت الأنوار مرة، كما يقول الفيلسوف ماستيلو في "فن الشك" في 1562. نعلم أن الحفاظ على الحياة البشرية واحترام إنسانية البشر عرفا انتكاسات كبيرة، لأننا تعاملنا مع التاريخ على أساس أن بطله فرد. وهذا ما يضطرنا للتساؤل: لماذا تتصدر المجموعات الإرهابية المشهدين، السياسي والبصري؟
ما يثير الاشمئزاز في حلقة العنف الداعشي المجانيّ الذي يظهر على شاشات التلفزة، في صور الرهائن التي تُذبح كالحيوانات على الشواطئ اللازوردية التي تبعث على الاسترخاء والكسل، الطريقة التي يدخل بها الرعب والبربرية إلى كل بيوتنا، بواسطة الصورة، بحيث أصبحت لداعش هيمنة هوليودية خاصة على الصورة، أكثر من غيرها من الحركات (السياسية؟) في تصوير أقصى درجات العنف، لأنها تدرك أن الجرائم الكبرى وحدها التي تنجح في تحريك مشاعرنا.
لا تجد مشاهد العنف وطقوسها البربرية: ذبح، خنق، قتل، حرق، اجتثاث، استئصال، حذف، تصفية، مسرحها في الساحات العامة، كما في زمن فولتير، بل في غرف الاستقبال المريحة، حتى يتساوى المشهد بين المجرمين الذين يقتلون الأبرياء، وبين الأبرياء الذين يجلسون باسترخاء في منازلهم، يتمتعون بمشاهدة الصورة.
إذا كان القرن العشرون فقد بوصلته بسبب اضطراباته، فإن القرن الحادي والعشرين انفتح على تجريب للفظاعات من نوع آخر، بحيث ظهرت أشكال عديدة من الخوف، عرفتها البشرية في القرون الوسطى، ما يدفعنا إلى أن نسميّه قرن الخوف بجدارة؟ كأننا نعيش مقولة الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي، ريمون آرون، الشهيرة "حرب غير محتملة، سلام غير ممكن". مصدر هذه الحالة المستحيلة الولايات المتحدة التي افتتحت القرن الحادي والعشرين باحتلال البلدان الأخرى، ودعم الجماعات الإسلامية المتطرفة في وجه العدو السوفييتي في أفغانستان، ونقل حروبها إلى الشعوب الأخرى، ما دفع الجماعات الإرهابية إلى إعادة هذه الحروب إلى قلب أميركا وحصلت جريمة الـ 11 أيلول. لا داعي أن نذكر ما حصل في ملجأ العامرية وفي سجن أبو غريب وبوكا وسجن المطار وغيرها، لأنهم بشكل من الأشكال أوجدوا القاعدة النفسية لظهور التوحش عند إرهابيي داعش والمليشيات الشيعية في العراق التي تقتل أبناء المحافظات السنية، بلا رادع أو محاسبة الآن.
الاستهانة بسفك الدماء جعلت من أساليب التعذيب أحد فنون الحرب، بحيث أن الجنود الأميركيين الذين لم يكونوا يجدون في شوارع بغداد من يطلقون عليه النار، راحوا يسددون بنادقهم الرشاشة إلى الأبقار، من باب التمرين الحربي. طبعاً لو حصل ذلك في الهند، لقامت
ثورة حقيقية ضدهم. ولا نحتاج إلى ذكر التجويع المنظم، من خلال حصار العراق على مدى 13 عاماً، أسلوب آخر في قتل الأطفال.
كتبت مئات المجلدات عن ألمانيا النازية وحدها، لكن العراق ينتظر من يكتب موسوعته الحيّة التي نشهد فصولها، نحن الأحياء، في الوقت الحاضر، أبطالها داعش والمليشيات الشيعية.
نقرأ عن إرهابيي الفيتكونغ الذين قطعوا الرؤوس، وانتزعوا الأحشاء، وقاموا بعمليات إخصاء وقطعوا أوصال ضحاياهم، وحرقوا عشرات القرى عن بكرة أبيها، وصفّوا أعداداً لا تُحصى من الفيتناميين الجنوبيين الأبرياء. والشيء نفسه يحصل في العراق. والجنود الذين أطلقوا النار هم أبناء الأميركيين أنفسهم الذين كرهوا الجنود الألمانيين، لأنهم، قبل ما يزيد على عشرين عاماً، ارتكبوا أعمالاً مشابهة. ليس الأميركيون وحدهم ارتكبوا هذه المجازر، وكذلك إسرائيل شرّعت التعذيب في حق الفلسطينيين، ممارسات "الشاباك" غنية عن التعريف. والعراقيون أنفسهم قاموا بذلك أيضاً: هل نذكّر كيف غارت المليشيات الشيعية على مناطق تواجد الغجر وأبادوهم شرّ إبادة، من دون أن يدافع عنهم أحد بحجة أنهم خرجوا على الأخلاق والقيم والتقاليد، تماماً كما فعل النظام السابق، عندما أقدم على إعدام العاهرات ووضع رؤوسهن على عتبات منازلهن، ليصبحن عبرة لمن اعتبر! هؤلاء الجلادون يتناسخون في بيئة تشبه البيئة الدافئة التي تُفقس بها الدواجن والحشرات.
الفرق في التاريخ أن أصوات المناهضين لهذا التعذيب والقتل ارتفعت بين أروقة قاعات المحاكم، مطالبة بالانتقام، بينما لا تُحاسب المليشيات السنية والشيعية، على حد سواء، على اقترافها الجرائم. هل هناك أمل بأن يتغيّر الإنسان في ظل الفراغ الروحي المريع؟
في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1932، أعلن ستالين أمام الكتّاب المجتمعين حول طاولة في منزل مكسيم غوركي، قائلاً: "حاجتنا إلى النفوس البشرية أكثر من حاجتنا إلى الآلات والدبابات والطائرات".
هل نراجع سجلات وزارات الدفاع في العالم العربي، لكي نعلم الحجم المهول لشراء الأسلحة، آخرها طائرات رافال إلى مصر الغارقة بالديون؟
تفوّق الإنسان باختراع التعذيب، وابتداعه أكثر من المخلوقات الأخرى، حتى جرّوا القديسين إليه . ما زلنا نمتلك فكرة غامضة وضبابية عن بداية ممارسة التعذيب أول مرة. كان البابليون يعدمون المجرمين بالرجم، أو بالنشر إلى نصفين، أو بالحرق، كما الحال عند الفرس والإغريق والقرطاجيين والرومان. وكان الإغريق يعتبرون التعذيب وسيلة لانتزاع الحقيقة، وأطلق عليه أرسطو "الإكراه". وهنا نتساءل: هل الشرقيون أشرس الشعوب في فن التعذيب على وجه الأرض؟ اخترع مخترعو فنون التعذيب أيضاً الأعذار، باعتبارها وسيلة لانتزاع المعلومات، لكن داعش لا يهمها الأعذار، بقدر ما يهمها العرض الجهنمي المروّع لوحشية الإنسان، كشّر مطلق. كثيراً ما أتساءل: ما تفسير "وحشية الإنسان تجاه الإنسان"؟ أكاد لا أصل إلى أي تفسير، وأنا أشاهد صورة لحرق الشاب الأردني معاذ الكساسبة حيّاً، أو قتل 21 عاملاً مصرياً قبطياً في ليبيا سوى الشّر المطلق في نفوس أحفاد هولاكو وجنكيزخان. هؤلاء الضحايا أيقونات حيّة في سجل التوحّش عبر العصور.