لا تجد روضة دقيقة واحدة في الساعات الأربع والعشرين، لنفسها. فرعاية توأميها أحمد ومحمد (6 سنوات) تستهلك كل الوقت. هما مصابان بالتوحّد، "وأحياناً أشعر أنني في حاجة إلى وقت إضافي. ساعات اليوم تكاد لا تكفي".
يوم تخطّى الصغيران السنة ونصف السنة من عمرهما، وكان نطقهما لا يزال يقتصر على ثلاث كلمات (ماما وبابا ونمنم)، شعرت الوالدة أن ثمة خطباً. قصدت عدداً من الأطباء في الأردن. فقيل لها حيناً إنهما يعانيان من تأخر في النطق، في حين أشارت آراء طبية أخرى إلى أنهما يشكوان من بطء في التعلّم. لم تقتنع، "وظل الأمر يحيّرني. كان يلفتني أنهما يرفرفان بأيديهما فوق رأسيهما. كنت أناديهما فلا يتجاوبان ولا يسمعان. كأنهما في عالم آخر غير ذلك الذي نعيش فيه".
وراح القلق يتملك بها أكثر فأكثر. فحملت الصغيرَين وبدأت تتنقّل من طبيب إلى آخر. في النهاية، أتى التشخيص واحداً: التوحّد.
تخبر الوالدة: "لم أكن أعرف شيئاً عن المرض. ورحت أدوّن كل المعلومات التي كان يفيدني بها الأطباء حوله وحول طرق التعامل معه. كذلك، رحت أبحث على شبكة الإنترنت. كان ضرورياً أن أعرف أكثر عنه، حتى أتمكّن من التعامل مع ولدَيّ بشكل أفضل".
انتهت رحلة البحث عن التشخيص، لتبدأ روضة رحلة من نوع آخر مع صغيرَيها. فحاولت تعليمهما نطق الأحرف. كانت تمضي يومياً أكثر من سبع ساعات في هذه المهمة، مشيرة إلى أن تعليم كل حرف كان يستغرق أكثر من أسبوع. لم يكن الأمر سهلاً، وظلّت تحاول. هي لا تشعر بالخجل من جرّاء مرض ولدَيها، لكنها حزينة. تقول: "كنت أتمنى أن يكونا من الأصحاء، من دون أمراض. وما يزيد في حزني أن مرضهما مزمن لا علاج معه".
اليوم، بعد سنوات عدّة من العلاج والتأهيل في أحد المراكز المتخصصة، تحسنت حالة محمد. أصبح قادراً على نطق جملة قصيرة. أما شقيقه أحمد، فعلى حاله.. من دون تحسّن.
في الأردن، لا تتوفّر إحصائيات رسميّة حول أعداد المصابين بالتوحّد، في حين تشير إحصائية غير رسمية أجرتها مجموعة من الخبراء إلى أن نسبة المصابين بالتوحّد تبلغ 15-20 مصاباً من بين كل عشرة آلاف شخص، أي بواقع ثمانية آلاف مصاب في البلاد.
عمر العجارمة (6 سنوات) يعاني أيضاً من التوحّد. أما الفرق بينه وبين التوأمَين أحمد ومحمد، فهو أن حالته اكتشفت متأخرة، عندما بلغ عامه الخامس. يشير والده عكاشة العجارمة إلى أنه "لم نكن نعرف بهذا المرض من قبل. كأبناء قرية، لم نكن نسمع بهذه الأمراض". ويخبر أن مشكلة ابنه بدأت تتوضّح عندما تأخر بالنطق وراح يظهر نشاطاً حركياً زائداً. لم نتوقّف عند ذلك، ورحنا نقول: عندما يكبر، يتحسّن". واستمر الأمر على حاله. عندما بلغ الخامسة من عمره، سجلناه في الروضة. لكن المعنيّين طلبوا منا بعد أيام من تسجيله، عرضة على طبيب أطفال. في ذلك الحين، اكتشفنا أن عمر مصاب بالتوحّد، وإنما بشكل خفيف نسبياً".
بعد عام من العلاج في مركز متخصص، تحسّنت حالة عمر وإن ما زال يحتاج إلى رعاية خاصة من قبل العائلة.
ويبلغ عدد المراكز التي تقدّم خدمات الرعاية لمرضى التوحّد نحو 20 مركزاً في المملكة، فيما لا يتجاوز عدد المراكز المتخصصة بالتعامل مع المرض الثمانية.
عبيد السبايلة يحمل شهادة دكتوراه بالتربية المتخصصة، وهو يُعنى بشؤون دمج المتوحّدين. يعرف التوحّد بأنه مرض نفسي عقلي يعوّق مهارات التواصل لدى الطفل وبالتالي يعطّل حياته الاجتماعية. ويلفت السبايلة إلى ارتفاع في الوعي حول المرض، بالتزامن مع تسجيل حالات أكثر نتيجة عمليات التشخيص الأكثر دقّة.
بالنسبة إليه، المتوحّدون يمتلكون قدرات متميّزة في عديد من المجالات، خصوصاً المهارات الحسابية والرياضيات والألعاب الرقمية واستخدام الكمبيوتر والأجهزة الخلوية.
ويشير السبايلة إلى أن مرض التوحّد كثيراً ما كان يخُلط في السابق - حتى من قبل أهل الاختصاص - بينه وبين حالات أخرى من إعاقات عقليّة وأمراض نفسيّة عصبيّة وغيرها. إلى ذلك، يشدّد السبايلة على ضرورة إخضاع الأطفال المتوحّدين إلى برنامج علاجي متكامل، يشمل تدريبهم على المهارات الأساسية التي يحتاجونها في حياتهم اليومية.
التوأمان أحمد ومحمد وكذلك عمر، حظوا بأهل يرعونهم بعد اكتشاف إصابتهم بالتوحّد. أما هشام (8 سنوات) وهو طفل أردني آخر متوحّد، فقد لقيَ الموت على يد والده الذي رمى به في بداية مارس/آذار المنصرم، من على بناية مهجورة ليحرق جثّته في ما بعد. فهو أراد التخلّص من صغيره بعدما ضاق ذرعاً به.