متى سنشفق على أجدادنا؟
يطرح كثيرون حججاً واهية يبررون من خلالها تجاهلهم لفتح نقاش حقيقي حول سبب توسع الفجوة بين الشرق والغرب، وزيادة العداء بينهما، ويقوم الشرقيون بالحديث بكلام عمومي عن تسامح الإسلام ودعوته للسلام، ويتناسون تاريخا طويلاً من الحروب التي شنها المسلمون في أوروبا، التي تمثل أرض الحضارة الغربية وحاضنتها الكبرى، فيما يقوم الغربيون بتجاهل تاريخ طويل من الاستعمار كانت خلاله جيوشهم تستعبد شعوب الشرق وتحتل أراضيها وتنهب ثرواتها وهي ما تزال تفعل ذلك بطرق أكثر عصرية.
سيفكر كثيرون ممن يقرؤون هذا الكلام، الآن، بأن النبش بالتاريخ لا ينفع كثيراً لتحليل الواقع المعاصر، فالحروب المفتوحة بين الأمم انتهى زمانها، والعالم الآن أكثر استقراراً من القرون الماضية، والبشر أكثر تحضراً، لكن هذا الكلام غير صحيح للأسف، فالتطور التكنولوجي الذي وصلنا إليه كبشر في السنوات الأخيرة انعكس أيضا على أدوات الحروب، التي لم تعد مقتصرة على السيوف والبنادق وحتى المدافع والطائرات الحربية.
شاهدت مُؤخَّراً فيلما أميركياً رديئاً جداً من الناحية الفنية، تم إنتاجه عام 1993، وهو يحمل اسم "حرارة السجن"، وهو كما يبدو من محتواه لا يعدو أن يكون فيلما تجارياً يستهدف المراهقين بسبب احتوائه على مشاهد إباحية كثيرة. تتمحور قصة الفيلم حول أربع فتيات أميركيات يقضين عطلة في اليونان، ويقررن فجأة التوجه إلى تركيا لإكمال عطلتهن، وعند وصولهن إلى الحدود التركية، يقوم الضابط التركي المسؤول عن النقطة الحدودية بدس كمية من المخدرات في سيارتهن، ويرسلهن بتهمة محاولة تهريب المخدرات إلى السجن.
تتعرض الفتيات الأربعة في السجن لمختلف صنوف الإهانة والاعتداءات الجنسية، ويقوم مدير السجن، الذي اختار له الكاتب والمخرج اسم "صلاح الدين"، باغتصاب إحداهن، بالتزامن مع صوت الأذان الذي تم وضعه في خلفية المشهد كي لا ينسى المشاهد أبداً الربط الذي أراده المخرج والمنتج بين "إسطنبول" و"الأذان" و"صلاح الدين" واغتصاب فتاة غربية جميلة"!
تنجح الفتيات الأربعة بالهرب بعد أن قطعن "العضو الذكري" لمدير السجن "صلاح الدين" وقتلن صديقه اللبناني "محمد" الذي حاول اغتصاب إحداهن أيضاً! وينتهي الفيلم مع مشهد احتفال الفتيات بعد هروبهن خارج تركيا بـ"الحرية".
إن كل هذا الكم من الرسائل الواضحة في فيلم رديء واحد لهو دليل على عمق الأزمة التي تسيطر على العقل الغربي والتي تجعله ينظر إلى الشرق الإسلامي على أنه عدو شيطاني.
في المقابل، يقفُ خطباء الجمعة في جميع دول الشرق الإسلامية، كل أسبوع، على منابرهم ليلقوا خطبهم عن مؤامرات الكفار ونجاستهم، وينهوها بالدعاء عليهم بالهلاك، وتشتيت الشمل، وتفريق الجمع، وترميل النساء، وتيتيم الأطفال، وإذا كانت هذه الدعوات قد خف انتشارها نسبياً في السنوات الأخيرة مع قيام الحكومات في بلدان عديدة بمنعها، نظراً لتفاقم مشكلة التطرف والإرهاب في العالم الإسلامي، فأنا شخصياً سمعتها في عشرات المساجد والجوامع بمختلف المدن السورية خلال السنوات التي سبقت الثورة السورية.
إن النخب السياسية التقليدية "اليمينية" في الغرب والشرق مستفيدة بلا شك من استمرار الحرب الثقافية والإعلامية، بين الجانبين، فنخب الإسلام السياسي في العالم الإسلامي ليس لديها أي شيء تقدمه لجماهيرها في الواقع إلا الحديث عن مؤامرات الغرب وكرهه العرب والمسلمين، أما نخب اليمين في الغرب، فهي الأخرى ليس لديها أي شيء تقدمه لجماهيرها إلا الحديث عن مخاطر الإرهاب الإسلامي وضرورة محاربته بكل الوسائل الممكنة.
ولهذا فالنخب السياسية في الغرب والشرق تغذي بعضها البعض، وتستفيد من هذه الحرب الثقافية المستمرة، وليس من دليل أوضح على ذلك، من النفع الكبير الذي عاد على رئيس الوزراء الهولندي، مارك روتة، بعد الأزمة التي افتعلها مع تركيا قبل أيام من الانتخابات البرلمانية في بلاده، حيث تمكن من هزيمة حزب الزعيم اليميني خيرت فيلدرز الأكثر تطرفا منه، وعلى الجانب الآخر مازال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستثمر الأزمات الإعلامية والكلامية مع أوروبا والتي باتت تزداد وتيرتها مع قرب الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا، حيث باتت هذه الأزمات مع ألمانيا وهولندا وغيرها أقوى أدوات أردوغان للدعاية لتعديلاته الدستورية.
لكن الشعوب في الشرق والغرب هي من تدفع فواتير هذه الحروب الثقافية والإعلامية التي تواصل نخب الشرق والغرب إشعالها، فالشرقيون يعانون من التخلف التكنولوجي والإداري والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذا عدا عن معاناة كثير منهم من الحروب وآثارها الكارثية، أما الغربيون فباتوا يعانون من العمليات الإرهابية وصعود الشعبوية واليمين المتطرف، وبالتالي مزيد من الأزمات والمشاكل السياسية والاقتصادية.
وعلى هذا فالخطوة الأولى ليكون ظاهر استقرار العالم النسبي واقعاً معاشاً تنعم به شعوب الشرق والغرب هي إيقاف حملات شيطنة وتشويه صورة الآخرين قبل الانطلاق في عملية تواصل حقيقية بين الشعوب على جانبي العالم تجعل من بناء الجسور بين الثقافات المتباينة أمراً ممكناً، لتدفع هذه الجسور بعالمنا المعاصر إلى مرحلة استقرار حقيقية يشفق فيها الإنسان على أجداده الذين أفنوا أعمارهم في الاعتداء على الآخرين وشتمهم!