متى يبدأ التفاوض العربي الإيراني؟
أن تبرز فكرة تفاوض عربي مع "الإمبراطورية الإيرانية"، فتلك فكرة حسنة في هذه الظروف. وتعود تسمية الإمبراطورية، هنا، إلى علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني، المنتخب لرئاسة الجمهورية الإيرانية الإسلامية التي قامت على أنقاض إمبراطورية الشاه، والتي يرى المستشار أنها "الإمبراطورية" قد بعثت من جديد، وعاصمتها ليست طهران، كما قد يتبادر إلى الأذهان البريئة، بل بغداد، حسب مفاتحة المستشار بذلك كل من يعنيهم الأمر، بمن فيهم الشعوب العربية التي توجه إليها المستشار بتحذير مبطن من مغبة عدم استساغة حدود هذه الإمبراطورية، وولايتها وتعيين عاصمتها. وإذ اعتبر رئيس مجلس الشورى الإيراني، علي لاريجاني، في الدوحة، بعد مضي ثلاثة أيام على تصريح يونسي أن ترجمة التصريح غير دقيقة، فإنه لم يقل ما هي الترجمة الصحيحة لذلك التصريح، علما أن ما أفصح عنه يونسي ليس جديداً، فقد سبق أن تناوله قادة في الحرس الثوري الإيراني غير مرة، ومنهم الجنرال قاسم سليماني، علاوة على أن واقع الحال في أربع دول عربية يزكّي ما ذهب إليه يونسي وقادة الحرس الثوري.
أولو الأمر عندنا، وهم الحاكمون القائمون على الحكم، وعلى صون سيادة بلدانهم العربية واستقلالها، يحسنون صنعا بالتفاوض مع طرفٍ خارجي يطعن بسيادة دول أعضاء كاملة العضوية في الأمم المتحدة وفي هيئات دولية واستقلالها، ويحتسب هذا الطرف، عبر أحد كبار ممثليه، أن ولاية دول عربية باتت تتبع لإمبراطورية إيران، وهي تصريحات تناقلتها وسائل الإعلام في بحر الأسبوع الماضي، ولم يعمد أحد في طهران إلى نفيها، أو توضيحها، ربما باعتبار أن الرجل لم يقل جديدا أو ناشزاً، وأن ما جهر به من قبيل تحصيل الحاصل وتسمية الأشياء بأسمائها، ولا يحمل مفاجأة تذكر.
لم تحرك الأطراف العربية ساكناً. صمتت جامعة الدول العربية عن التصريحات صمت القبور. وبعد يومين على التصريحات، خرج وزير الخارجية العراقية، إبراهيم الجعفري، ليعلن رفض بلاده المساس بسيادتها واستقلالها من إيران أو غيرها، وهو تصريح جيد، خصوصاً بالنظر إلى قرب الجعفري "أيديولوجيا" من طهران. وحتى كتابة هذه السطور صباح الخميس، لم يدع مجلس النواب العراقي للنظر في هذه التصريحات غير المسبوقة التي تنال من ركائز الدولة والحقوق الأصيلة للشعب، على أن تصريح الوزير العراقي، على أهميته، اقتصر في فحواه على الرد على تصريحات مستشار الرئاسة الإيرانية، وأنكر أن يكون المساس اللفظي مقترناً بانتهاكات على الأرض العراقية، والتمسك بهذا المنطق لا يؤدي إلى شيء مما يبشر به الجعفري. ونعني بذلك الدفاع اللفظي عن السيادة والاستقلال، مع غض النظر عن مساس فعلي، يطاول مرافق الدولة ومؤسساتها الحيوية ونسيج المجتمع العراقي، على أنه يبقى أن هذا التصريح الجيد يلزم صاحبه، ويشكل معياراً للحكم على الأداء الدبلوماسي العراقي، كما على مجمل الأداء السياسي للدولة العراقية، بخصوص صيانة السيادة والاستقلال، وهما من أعلى الواجبات الدستورية والوطنية لكل دولة مستقلة، أو حتى سائرة على طريق الاستقلال.
في أوقات سابقة، كان يناط بقادة الحرس الثوري الإيراني التعبير عن السياسة الإيرانية الفعلية، بما يتعلق ببسط النفوذ وإطلاق التحذيرات والتهديدات، والتأشير إلى القوى الحليفة والرديفة التي تنفذ السياسة الإيرانية في منطقتنا، و"تقف صامدة أمام أميركا وإسرائيل"، وكان هذا الأمر يثير قدراً من الارتباك المسرحي للدبلوماسية الإيرانية. ها هو الوضع الآن يتغير. فمستشار الرئيس المعتدل هو من أبلغ من يعنيهم الأمر، وبالفم الملآن، أن الإمبراطورية الإيرانية باتت قائمة، وتضم أربع دول عربية، هي العراق وسورية ولبنان واليمن، وأن الأمر لم يعد يتعلق بمشروع مستقبلي برسم التنفيذ، بل بالاعتراف بوضع إمبراطوري قائم، وهو ما يستحق أن يكون موضع تفاوض عربي مع طهران، عنوانه: ما الذي تريده الجمهورية الإسلامية الإيرانية من الدول العربية المستقلة؟ وهل تلتزم طهران بميثاق الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار بهذا الخصوص؟
من الجلي أن طهران، في هذه الظروف، تريد مقايضة مشاركتها في الحرب على داعش، بتخلي مزيد من الدول العربية عن سيادتها واستقلالها: إما أن تلتحقوا بنا وتمنحونا القيادة والقرار في الشؤون السياسية والعسكرية والاستراتيجية، أو أن تنال داعش ومثيلاتها من وجودكم وبقائكم.
الانعقاد القريب للقمة العربية الدورية في القاهرة، قبل نهاية مارس/آذار الجاري، يتيح فرصة لمقاربة هذا التحدي الذي يزداد انكشافاً وجسامة. التركيز على داعش، دون سواها من مخاطر وتحديات، يخدم التغول الإيراني الذي يرى أصحابه أن المشرق العربي بات حديقة بدون سياج، وأن مطاردة ذئب داعش في هذه الحديقة الفسيحة يتيح فرصة الاستيلاء على هذه الحديقة، ورفض الخروج منها.
لم يتح للأطراف العربية، وبالذات الخليجية، أن تشارك في المفاوضات الدولية بخصوص الملف النووي الإيراني، ولها هناك قنوات اتصال وتواصل تسمح بالاطلاع على مجرى هذه المفاوضات، ووضع المفاوضين في صورة المصالح العربية المهددة بالطموحات النووية الإيرانية. إذا كان الأمر كذلك، فإنه من حق الأطراف العربية وواجبها دعوة طهران للتفاوض حول ما تريده الأخيرة من دول عربية مستقلة، الكلمة الأخيرة فيها لشعوبها، وليس لأي طرف خارجي أياً يكن. دفن الرؤوس في الرمال لا يفيد، أما التكتم فيعزل الشعوب عن مصيرها، لكنه لا يعزلها إلى أمد بعيد، فقد سبق للشعوب العربية أن واجهت إمبراطورية إسلامية من قبل، هي الإمبراطورية العثمانية. لا الدين الذي كانت تعتنقه تلك الإمبراطورية، ولا طائفتها، حالا دون التمسك الوطني والقومي العنيدين بالاستقلال، وهو ما تحقق، في النهاية، عبر خط متعرج وطويل، أدى إلى التحرر من إمبراطورية إسلامية واستعمار غربي معاً، علما أن الإرث الإمبراطوري لتركيا لم يمنع من إقامة علاقات حسنة وطيبة ووثيقة مع الدولة التركية وريثة الإمبراطورية، من أتاتورك إلى أردوغان.
تطمح طهران لأن تكرر الدور الذي لعبه الاستعمار الغربي قبل مائة عام، في منطقتنا، مع دنو أفول الإمبراطورية العثمانية آنذاك، فهي تبشر العالم العربي بأنها ستكون بديلاً لتهديدات داعش وللنفوذين، الأميركي والغربي. وكل ما على الشعوب العربية أن تفعله هو أن تسلس قيادها للحاكمين في طهران، وتكفّ عن حراسة أوطانها، وتوكل هذا الأمر للحرس الثوري الإيراني، ولجيوش محلية بديلة، على غرار حزب الله في لبنان وحزب الله في سورية، وأنصار الله (الحوثيون) في اليمن، والحشد المليشيوي الشعبي في العراق.
تصلح تصريحات الوزير العراقي، إبراهيم الجعفري، بالمناسبة قاعدة للتفاوض مع طهران، بشأن سياساتها في العراق، وبخصوص نظرتها إلى العالم العربي، وحول مستقبل العلاقات العربية الإيرانية عموماً. ويُفترض أن بقية المسؤولين العراقيين والعرب لا يقلّون تمسكا بسيادة واستقلال بلدانهم عن الوزير العراقي الذي تربطه وشائج "عقائدية" مع طهران، لكن هذه الوشائج لم تمنعه من التمسك البديهي بسيادة دولته، واستقلال وطنه.