مجرّد بَوح
إنها الليلة السابعة لهذا الأسبوع، هدوءٌ دامس، وأصواتٌ صاخبة متقاطعة لكلابٍ أو ذئاب، ليلٌ باهت يتخلله خيط نورٍ من قمرٍ هرِم ربما هي أيامه الأولى، وأزيز طائراتٍ يزيد هيبة الليلة ووحشتها، الكلُّ يحتضن النوم ويغدو بأنسه سلطاناً إلا القليل القليل من الناس، الليالي تطول والأيام تتعاقب، والفجر ضيفٌ خفيف سريعاً ما يذهب إذا أنا لم أمسك بتلابيبه النيرة وأنفاسه الطاهرة. أسائل نفسي إلى متى السجن بين أسوار من اليأس والفراغ والتيه، إلى متى الجلوس والخنوع بين يدي الأوهام والوساوس، ألهذا أنتِ خُلِقتِ، ألهذا أنتِ تسيرين وتستمرين، ألهذا أنتِ تنامين وتستيقظين، ألهذا السرابِ أنتِ تطمحين، ألهذا تشدين رحالكِ، أم أن البداية كانت مجرد وهم قنعتِ به على أنه حقيقة، فإذا بكِ أمام نهايةٍ باهتةٍ خادعة؟! هكذا كانت أسئلتي لها؛ أمّا الجوابَ فكان صدى أسئلتي، وخواء أجوبتها!
هنا بدأ التجائي إليه، فمنه ستأتي الإجابة على شكل خيط هداية ونور ورشد. دعوته، بكيت بين يديه أن يهديني الصواب، يمهّد لي سبل النجاة بعيداً عن الشيطان وغوايته، ففي زماننا العاقر من معاني الإنسانية وجدتُ أنه لا بدّ من ترتيل هذا الدعاء صباحاً ومساءً وفي كل وقت: "يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك"، نعم من هذا الدعاء ستثبّت القلوب على الاستقامة بعيداً عن كل اعوجاج يؤدي إلى الهلاك، ستثبّت القلوب على الحق بعيداً عن أي ظلمٍ لأخيها الإنسان، ستثبّت القلوب على الصلاح بعيداً عن الفساد والإفساد في الأرض.
أروح في رحلة حول عالمنا الكئيب في مثل هذا التوقيت بالذات، ألفّه بقلبي، وأحوطه بعيني، لعلني أجد بقعة فيه خالية من السواد أو الدماء، لعلني أجد بقعة خالية من دمعة أم ثكلى أو طفل يتيم، أو أب مجروح، أو عجوز واهنة، بقعة خالية من أحزان أو شعث أو مرض؛ لكنني لا أجد، أحاول وأفتش، ولا أجد، أفرّ منه وإليه لأجابه الحقيقة التي لا مفرّ منها: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، لكنّ هذه الحقيقة تتحدث عن حقٍ وباطل، خيرٍ وشر، وفي عالمي الذي لففته وجدتُ شراً مع شرٍ، وباطلاً مع باطل، أمّا الخير والحق فقد غُيّبا في ظلمات القبر أو السجن.
أنا هنا أيها الماكثون على هذا الكوكب، أنا هنا يا عالمي الغريب، أنا هنا يا كلّ الأحياء، أنا مجرد إنسان يبتغي أن يكون إنساناً، إنسان يسعى لأن يكون إنساناً، في أحيانٍ كثيرة أراني حدتُ عن إنسانيتي قليلاً أو كثيراً، أصبحتُ أرى مشاهد اللجوء والقصف والقتل على شاشات التلفاز، شاشات الإعدام، ولا تلقي مشاعري لها بالاً غير دعاء على الظالمين، في مثل هذه المواقف أشعر بأن إنسانيتي بدأت تزيغ عن مسارها، عندما أسمع خبر استشهادٍ أو... أشعر بشيء من البلادة والجمود، وأختمُ بقلبي: "كلنا لها وإليها". أخبروني هل كلكم مثلي أم أن مشاعري قد تجمدت وتبلدت؟
وبعد دوراني حول العالم أذهب إلى الركن العتيق الذي هجرته من زمن غابر، ففيه ركنتُ مذكرتي التي كنتُ أنقشُ عليها طموحي وآمالي وأحلامي، ليس الآن في عقدي العشرين، بل عندما كنتُ طفلةً ترى بياض العالم وطيبة القلوب وصفاء الوجوه ونقاء النوايا، عندما كنتُ أتابع برامج الأطفال والتسلية، قبل أن يحدثني أبي عن نكبة جدي ونكبة فلسطين. في طفولتي كتبتُ مذكرة أحلامي وسال مداد قلمي سائغاً سلساً بكل ما أطمح وأريد، أقرأ ما خطّته ريشة قلمي وأبتسم وأتلو سؤالي: لو حاولتُ كتابة مذكرة بآمالي الآن فماذا سأكتبُ ولماذا؟
لكن برقية جاءتني أخمدت يأسي وأعادت لهفتي وشغفي، قطعت حبل شؤمي وسوادي، لتربتَ على كتفي وتقول: أن هزّي إليكِ بمزيد من الصبر يسّاقط عليكِ طموحاً جنياً، فأيقنتُ أنّ أحلامي التي خططتها لم تمت، لم تجف، ولم ترحل، أيقنتُ أنّ الدعاء الذي أتلوه قد ثبّتني في ظل معمعة آلامي وفقدان لهفتي، أيقنتُ أنّ الله جابر نفسي التواقة، ومثبّت دعوته، وناصر جنده، ولو كثُر اليأس وعظُم الشرّ وغُيّب الحقُ، أيقنتُ أن السبل ستفرّق بنا وتنقطع إذا نحن زغنا عن الصبر، فزدتُ جرعة صبري وأغلقتُ هاتفي وذهبتُ حيث سريري، افترشته بصبري الذي عزمتُ على الاستزادة منه وذهبتُ في نومٍ عميق.