في مساء 17 يونيو/حزيران الجاري، دخل ديلان روف (21 عاماً) كنيسة إيمانويل الأفريقية الأسقفية الميثودية في مدينة تشارلستون، في ولاية كارولينا الجنوبية، وهي من الكنائس التاريخية في مسيرة الحركة المدنية الأميركية. جلس صامتاً لساعة قبل أن يقتل 9 أشخاص، من بينهم القس والنائب المحلي، كليمنتا بيكني. استيقظت غريزة روف العنصرية عندما امتعض من تعاطف الإعلام مع مقتل المراهق الأسود، ترايفون مارتن، في ولاية فلوريدا عام 2012. قاده فضوله إلى اكتشاف "مجلس المواطنين المحافظين"، وهي منظمة تستمد فلسفتها من حركة رفض إلغاء الفصل العنصري خلال خمسينيات القرن الماضي، ولا تزال تتمسك بأفكارها التي تتحدث عن تفوّق "العرق الأبيض الأوروبي" وترفض الاختلاط مع السود.
مكتب التحقيقات الفيدرالي وصف في البداية ما حدث في تشارلستون بأنّه "جريمة كراهية" ليست لها دوافع سياسية لتصنّف عملاً إرهابياً، لكنه عاد ليلمّح إلى أنّه قد يعتبرها "إرهاباً محليّاً" بعد اكتمال نتائج التحقيق. المعلومات المتوفّرة حتى الآن تشير إلى أنها ليست جريمة كراهية عشوائية، باعتبار أنّ روف قاد السيارة لساعتين وسأل عن القس بيكني، وقال خلال التحقيق معه إن غايته كانت "إشعال حرب عرقية".
وفي هذا السياق، ذكر تقرير لافت، لمؤسسة "أميركا الجديدة"، أنّه منذ اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001، قُتل 26 شخصاً في الولايات المتحدة على يد "متشددين مسلمين"، في وقت قتل فيه 48 شخصاً على يد متشددين غير مسلمين. وفي استطلاع أجراه "منتدى بحوث الشرطة التنفيذية" العام الماضي، شمل 382 وكالة لفرض القانون في أنحاء الولايات المتحدة، اعتبر 74 في المائة منها أنّ التشدد المحلي المناهض للحكومة يأتي في المرتبة الأولى على لائحة المخاطر الإرهابية مقابل 39 في المائة لتنظيم القاعدة. ويشير تقرير لوزارة العدل الأميركية، تم إخفاؤه لسنوات، قبل أن يتسرّب إلى الإعلام أخيراً، إلى أن العنصرية المسلحة استعادت زخمها بعد انتخاب الرئيس، باراك أوباما، وأنّ من بين أعضاء هذه المجموعات المتشددة عدداً من الجنود الأميركيين الذين عادوا من حربي العراق وأفغانستان بأفكار أكثر تشدداً، ومن دون فرص عمل بانتظارهم. قد تؤدي هذه الجريمة في نهاية المطاف إلى إعادة النظر في توزيع موارد مكافحة الإرهاب وتخصيص جزء منها لمكافحة الإرهاب المحلي.
اقرأ أيضاً: كلينتون تعتبر مجزرة تشارلستون "إرهاباً عنصرياً"
طبعاً، جريمة تشارلستون تأتي أيضاً ضمن سياق سيناريوهات العنف المنظم (شرطة محلية)، التي طالت أفارقة أميركيين بوتيرة متزايدة خلال الفترة الأخيرة. لا يوجد رقم نهائي حول معدّل "جرائم الكراهية" ضد السود أو حول الأفارقة الأميركيين الذين قتلتهم الشرطة، لا سيما وأنّ هناك تفاوتا بين الاحصاءات الفيدرالية، التي تصدرها وزارة العدل، وبين إحصاءات الشرطة المحلية في الولايات المعنية، لأنّ الطرفين لديهما هامش في تصنيف هذه الجرائم أو حتى في الإبلاغ عنها. لكن بدأت أخيراً محاولات لسد هذه الثغرة الإحصائية. هناك على سبيل المثال، موقع KilledByPolice.com، الذي يبني معلوماته على الأخبار المحلية. ويشير إلى أن هناك 238 حالة وفاة لأفارقة أميركيين على يد الشرطة خلال العام الماضي. وبحسب إحصاءات، جمعتها صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، هناك 500 شخص قتلوا على يد الشرطة هذا العام، من بينهم 141 أسود (أي 28 في المائة)، في وقت يوجد فيه حوالى 42 مليون أفريقي أميركي، أي 14 في المائة من نسبة السكان في الولايات المتحدة، بحسب مكتب الإحصاء الفيدرالي.
أبعد من ذلك، هناك أزمة اكتظاظ في السجون الأميركية، إذ ارتفع عدد السجناء من 300.000 قبل 35 عاماً إلى أكثر من 2.4 مليونَي سجين اليوم. ويشكل السود حوالى نصف السجناء، في ظلّ ما يسمى أزمة "الحبس الجماعي"، إذ يمر 12 مليون أميركي سنوياً عبر السجون حتى لو كان لمسألة بسيطة (41 في المائة من الشباب الأميركيين يتم اعتقالهم قبل بلوغ 23 عاماً)، والتكلفة العامة لإبقاء هذه السجون تتجاوز 60 مليار دولار سنوياً.
وبعد 55 عاماً على "مسيرة واشنطن" الشهيرة، التي قادها زعيم "حركة الحقوق المدنية"، مارتن لوثر كينغ، عام 1963، لم تتغير الأرقام والوقائع كثيراً. معدّل الفقر عند السود سجّل 27.6 في المائة عام 2011، مقابل 10 في المائة عند البيض. كما أنّ معدل البطالة عند السود لا يزال ضعف البطالة عند البيض. بحسب أرقام مكتب الإحصاء الفيدرالي لعام 2010، بلغ معدل الدخل الفردي عند البيض 54.000 دولار مقارنة بـ32.000 عند السود. كل هذا ينعكس أمراً واقعاً لما يشبه الفصل العنصري الحديث في المدارس الرسمية، باعتبار أن 39 في المائة من الطلاب السود يأتون من أحياء فقيرة، بحسب دراسة لـ"معهد السياسة الاقتصادية". نظام العدالة الجنائية الأميركية أصبح بكل بساطة أداة لتنميط عنصري واسع النطاق عبر العقاب والمراقبة والإشراف على الأقليات، لا سيما الفقيرة منها.
اقرأ أيضاً: أوباما يدعو لتقييد السلاح بعد هجوم تشارلستون
القضية الأخرى، التي سلّطت جريمة تشارلستون الضوء عليها، هي اقتناء السلاح الفردي، إذ يرى الليبراليون أنّه يجب وضع قيود تمنع سهولة اقتناء السلاح، مقابل تمسك المحافظين بما يعتبرونه حقا دستوريا في حمل السلاح. هناك محاولة في الكونغرس لإعادة إحياء مشروع قانون يقترح تسوية بين الطرفين، بوضع آليات تحرٍّ تشمل كل من يحاول شراء سلاح.
يدرك المحافظون أنهم في موقع دفاعي بعد جريمة تشارلستون، لكن لا يبدو أن هناك رغبة في أية تسوية حول حق اقتناء السلاح، مقابل مرونة جمهورية في نقاش قضية أخرى أكثر رمزية وهي راية الكونفدرالية.
بعدما تناقلت وسائل الإعلام صور روف يحرق العلم الأميركي ويحمل راية معركة الكونفدرالية الذي يمثل نظام العبودية خلال الحرب الأهلية الأميركية، بدأت الضغوط لإزالة هذا العلم من المقرات الرسمية في ولاية كارولينا الجنوبية وفي سائر الولايات المحافظة. وهذا ما حصل فعلاً في ألاباما، بعد قرار أصدره حاكم الولاية الجمهوري. رئيس الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتشل مكونيل، دعا أيضاً إلى إزالة تمثال الرئيس الكونفدرالي، جيفرسون ديفيس، من ساحة مجلس النواب في ولاية كنتاكي. وهناك تحركات شعبية تلقائية بدأت أيضاً، إذ تم رسم عبارة "حياة السود تهم" على عدد كبير من تماثيل قادة كونفدراليين في أنحاء الولايات المتحدة.
اليوم، يتقدم أوباما تأبين القس بيكني في الكنيسة التي سقط فيها. حتى هذه الكنيسة تقع في شارع كالون، نسبة إلى نائب الرئيس الأميركي السابع، جون كالون، الذي كان من أشد الداعمين لنظام العبودية في القرن التاسع عشر. يسير الأفارقة الأميركيون في أنحاء الولايات المتحدة بشوارع تحمل أسماء رؤساء وجنرالات حاربوا من أجل إبقاء نظام عبوديتهم.
هذه الجريمة أربكت الجميع في الولايات المتحدة وكشفت مرة أخرى عن قدرة الأميركيين على الانقسام والتوحد في الوقت ذاته، خلال المحن الوطنية التي يمرون بها. كان أوباما حتى الآن متحرراً في كلامه ومشاعره عن مجزرة تشارلستون، باعتبار أن الانتخابات الرئاسية أصبحت وراءه. أراد منذ البداية على أن يكون أول رئيس أسود وليس أول رئيس للأفارقة الأميركيين. اليوم، قد تكون إحدى فرصه الأخيرة ليقول الأمور مثلما هي.
اقرأ أيضاً: شرطي أميركي يطلق ثماني رصاصات على رجل أسود