27 اغسطس 2019
مجنون سلوى
في قاعة الدراسة، بمعهد كبير، عند أحد مداخل المدينة، كانتِ البداية؛ إذ تراشقا النظرات، وتبادلا الإعجاب، وانساب إلى كلا القلبين حبٌ أشبه بسيلٍ جارفٍ في أرض قاحلة جدباءَ.
وهناك لم يجد صديقي هاشم القادم من الريف مهربا من هذهِ الحكايةِ، بلْ كان عنوانها المنحوت على جُدران المدينة، لقد عَشِقَ سلوى عشقاً قويا، ولم يعشقْ عشقَه أحدٌ مِنْ قبلُ ومن بعدُ. حقا لا يستطيع كاتب أديب، أو شاعر مفوه، وصف هذا العشق الخيالي، إذ كان يراها، وكأنها حورية خرجتْ من جنةِ الخلد! وذات يوم سار بعدها على استحياء، وولج دارها، وخطبها، وطُلب منه مهر باهظ للغاية، وهناك لم يجدْ هاشمٌ من حيلة سوى التغربِ خارج الوطن، وحينها ترك هاشم دراسته، وتغرب بعيدا، ولفترةٍ غير قصيرة، كدَ وتعبَ ليظفرَ بحبيبته، بذل في غايتها كل غال ونفيس، وكان ما أراد. ففي مساءِ مشهود، شَهِدَ أبناء الحيّ عقدَ زواجِ العاشقَينِ، وأكملتْ سلوى بعد ذلك دراستَها، وعاشَتْ وحبيبها عبر (الإيمو) وكأنهما تحت سقف بيت واحد، الحبُ شعارُهما، والوئامُ نهجُهما، وملائكة السماء تحفُهما وتدعو لهما.
طوال خمس سنواتٍ، لم يألُ هاشمٌ جهدا، ولم يبخلْ بشيءٍ في سبيلِ سعادةِ سلوى، ولم يضقْ بطلباتُها ذرعاً، علاوةٌ على مصاريفِها الشهرية ورسومِها الجامعية. وعاش الحبيبان حياةً لو علم بها، محمد بن سلمان، لقاتلهم عليها بالمدافع والطائرات، ولو علمت بها الإمارات، لما انسحبت من اليمن حتى تزرع بينهما كتائب الضغينة ونُخب الشتات.
مُشَادّةٌ كلاميةٌ بدأتْ بينَ الحبيبينِ، وخرجتْ عنْ نطاق سيطرتِهما، لتصلَ إلى والدي الفتاةِ؛ وتعم أسرتي العاشقين. وكم هي حسرةُ هاشم، حين لا يردُ على اتصالاتِه أحد، في غضونِ ساعاتٍ فقط، صارَ ذلك الحبُ رماداً، تلاشى كلُ حلمِ تلك السنوات.
"كلُ شيءٍ بيننا قد انتهى".. هذا كانَ آخرُ كلامِها، يا للهولِ! يا للحسرةِ! يا للمصيبةِ! كيف لحبٍ بعمر الزهور أن يتلاشى؟! وبهذه السهولة! هلْ باستطاعة كل حبيب نسيان حبيبه؟ وهل بمقدور كليهما البحث عن شريكٍ آخر؟ وطي أوراق هذه الواحةِ الخضراءِ المليئةِ حبا وعشقاً.
عاد هاشمٌ إلى قريتِهِ الصغيرةِ متخفياً، واصطحب شقيقَهُ الأكبرَ، ودخلا المدينة عبرَ ممرِ متعرج فرضته الحرب المتأججة في الوطن. وكانتْ الطريق تحكي عن تبدل الأحوالِ، وتقلب الأيامِ وعورة ذلك الممر الضيق، وقتامةُ تلك الوجوه الواجمة، كانتْ توحي لهاشمٍ ولمْ تدلفْ رجلاهُ بعد أسوارَ المدينةِ، بأنَ البارودَ المنتشرَ في الوطن منذ سنواتٍ، قد أكسب القلوبَ تصحرا، واستبدلَ بالحبِ بُغضا. وقد أصبحَ لسلوى الرقيقةِ الطبع، الخفيفةِ الدم، المدنيةِ الحال، قلب قاسي كقلبِ تجارِ الدم، وقد سلمتْ ملفَ حبِّها وعشقِها الأسطوريّ لرجلٍ في المدينةِ يمتهنُ المحاماةَ كما يمتهنُ أذنابُ الإماراتِ المقاومةَ. أوكلتْ سلوى مَنْ يطالبُ بفسخِ عقدِ زواجِها محاميا لم يتعلم في جامعته سوى أحكامِ الفرقةِ والطلاق.
كنتُ في تلك المدينة حينَ وصلَها صديقي هاشم، وطرت به في الحالِ، إلى رجل يسعى بالصلح بين الناس، وما لبث ذلك الرجل أن بعثَ في القلوب ثقة جديدة لأملٍ جديد. ورسمَ حينئذٍ على محيا هاشمٍ تفاؤلا جديداً، به استرجعَ شريطَ ذكرياته كلها مع سلوى.
وأثناء ظهيرة يوم تال، وبينما الناس منشغلون بالبدء بمقيلهم، التقينا بذاك الرجل، وحكمين، التقينا جميعا، على موعد غير مألوف، وفي مكان غير ذي سقف سوى السماء الملبدة بالبارود، وبنفس الوتيرة تبادلنا الابتسامات الصفراء الباهتة، كنت أرمق من ظل حديثهم، أن الأمر إلى خيرٍ، أحاول أن أسأل أحدهم لأعرف شيئا، فتسكتني منهم نظراتٌ مريبة! وفي تلك الأثناء، وسيارة شبه فارهة بلونها الأحمر الداكن، تقلنا إلى أمام منزل في أطراف المدينة، توقفت السيارة فجأة ليخرج من ذلك المنزل شيخٌ هرمٌ، وبين يديه قلم ودفتر كبير، شعرتُ برؤيتي إياه، في أن عاصفة عاتية تنبعث من بين يديه، تكاد تقتلع كل مشاعر الحب والغرام من مدينتنا بأكملها، وليس من قلبي المتوجع فحسب.
أي دافع يجعل هذين الحكمين يقدمان على خطوات كهذه ؟ بل وبكل سرور وارتياح، وإن كان شعورهما ذلك مصطنعا! ألم يقعا في الحب قبلاً؟ ألم يقرأا عن مصائر المحبين؟ ألم يطلعا على دستور العاشقين؟ ألا يقدسان الأشواق والعناق والحنين؟ ألا يؤمنان أن الغرام آلهة تعب؟
وتمضي الأمور أسرع من البرق، وكان الطلاق والفراق والشتات، وأنا أناجي ربي أن يتدخل لتتوقف هذه المجزرة الوجدانية. بل لأول مرة أتساءل: أين هي طائرات التحالف؟ تلك التي كانت تقصف الأطفال الأبرياء والرجال البسطاء، ألم يكن الأولى بها أن تتدخل الآن لتوقف هذا البروتوكول الذي يكتب؟
طوال خمس سنواتٍ، لم يألُ هاشمٌ جهدا، ولم يبخلْ بشيءٍ في سبيلِ سعادةِ سلوى، ولم يضقْ بطلباتُها ذرعاً، علاوةٌ على مصاريفِها الشهرية ورسومِها الجامعية. وعاش الحبيبان حياةً لو علم بها، محمد بن سلمان، لقاتلهم عليها بالمدافع والطائرات، ولو علمت بها الإمارات، لما انسحبت من اليمن حتى تزرع بينهما كتائب الضغينة ونُخب الشتات.
مُشَادّةٌ كلاميةٌ بدأتْ بينَ الحبيبينِ، وخرجتْ عنْ نطاق سيطرتِهما، لتصلَ إلى والدي الفتاةِ؛ وتعم أسرتي العاشقين. وكم هي حسرةُ هاشم، حين لا يردُ على اتصالاتِه أحد، في غضونِ ساعاتٍ فقط، صارَ ذلك الحبُ رماداً، تلاشى كلُ حلمِ تلك السنوات.
"كلُ شيءٍ بيننا قد انتهى".. هذا كانَ آخرُ كلامِها، يا للهولِ! يا للحسرةِ! يا للمصيبةِ! كيف لحبٍ بعمر الزهور أن يتلاشى؟! وبهذه السهولة! هلْ باستطاعة كل حبيب نسيان حبيبه؟ وهل بمقدور كليهما البحث عن شريكٍ آخر؟ وطي أوراق هذه الواحةِ الخضراءِ المليئةِ حبا وعشقاً.
عاد هاشمٌ إلى قريتِهِ الصغيرةِ متخفياً، واصطحب شقيقَهُ الأكبرَ، ودخلا المدينة عبرَ ممرِ متعرج فرضته الحرب المتأججة في الوطن. وكانتْ الطريق تحكي عن تبدل الأحوالِ، وتقلب الأيامِ وعورة ذلك الممر الضيق، وقتامةُ تلك الوجوه الواجمة، كانتْ توحي لهاشمٍ ولمْ تدلفْ رجلاهُ بعد أسوارَ المدينةِ، بأنَ البارودَ المنتشرَ في الوطن منذ سنواتٍ، قد أكسب القلوبَ تصحرا، واستبدلَ بالحبِ بُغضا. وقد أصبحَ لسلوى الرقيقةِ الطبع، الخفيفةِ الدم، المدنيةِ الحال، قلب قاسي كقلبِ تجارِ الدم، وقد سلمتْ ملفَ حبِّها وعشقِها الأسطوريّ لرجلٍ في المدينةِ يمتهنُ المحاماةَ كما يمتهنُ أذنابُ الإماراتِ المقاومةَ. أوكلتْ سلوى مَنْ يطالبُ بفسخِ عقدِ زواجِها محاميا لم يتعلم في جامعته سوى أحكامِ الفرقةِ والطلاق.
كنتُ في تلك المدينة حينَ وصلَها صديقي هاشم، وطرت به في الحالِ، إلى رجل يسعى بالصلح بين الناس، وما لبث ذلك الرجل أن بعثَ في القلوب ثقة جديدة لأملٍ جديد. ورسمَ حينئذٍ على محيا هاشمٍ تفاؤلا جديداً، به استرجعَ شريطَ ذكرياته كلها مع سلوى.
وأثناء ظهيرة يوم تال، وبينما الناس منشغلون بالبدء بمقيلهم، التقينا بذاك الرجل، وحكمين، التقينا جميعا، على موعد غير مألوف، وفي مكان غير ذي سقف سوى السماء الملبدة بالبارود، وبنفس الوتيرة تبادلنا الابتسامات الصفراء الباهتة، كنت أرمق من ظل حديثهم، أن الأمر إلى خيرٍ، أحاول أن أسأل أحدهم لأعرف شيئا، فتسكتني منهم نظراتٌ مريبة! وفي تلك الأثناء، وسيارة شبه فارهة بلونها الأحمر الداكن، تقلنا إلى أمام منزل في أطراف المدينة، توقفت السيارة فجأة ليخرج من ذلك المنزل شيخٌ هرمٌ، وبين يديه قلم ودفتر كبير، شعرتُ برؤيتي إياه، في أن عاصفة عاتية تنبعث من بين يديه، تكاد تقتلع كل مشاعر الحب والغرام من مدينتنا بأكملها، وليس من قلبي المتوجع فحسب.
أي دافع يجعل هذين الحكمين يقدمان على خطوات كهذه ؟ بل وبكل سرور وارتياح، وإن كان شعورهما ذلك مصطنعا! ألم يقعا في الحب قبلاً؟ ألم يقرأا عن مصائر المحبين؟ ألم يطلعا على دستور العاشقين؟ ألا يقدسان الأشواق والعناق والحنين؟ ألا يؤمنان أن الغرام آلهة تعب؟
وتمضي الأمور أسرع من البرق، وكان الطلاق والفراق والشتات، وأنا أناجي ربي أن يتدخل لتتوقف هذه المجزرة الوجدانية. بل لأول مرة أتساءل: أين هي طائرات التحالف؟ تلك التي كانت تقصف الأطفال الأبرياء والرجال البسطاء، ألم يكن الأولى بها أن تتدخل الآن لتوقف هذا البروتوكول الذي يكتب؟
موفق السلمي
كاتب وأديب وناشط إعلامي من اليمن (تعز).
موفق السلمي