محاذير السَّطْوِ على "الإخوان" في الأردن
ليس من الواضح بعد أين سينتهي مسلسل التصعيد الرسمي المتفاقم مع الإخوان المسلمين في الأردن، وهل سيكتفي بمحاولات "تدجين" الجماعة و"قصقصة جُنْحانِها"، ومحاولة إعادة صياغة كُنهها، وتعريف دورها وطنيا، أم أنه سيمضي إلى آخر الطريق، ويعلن الجماعة غير شرعية، بعد سبعين عاما من العمل العلني، الرسمي والقانوني، غير أن ثمة مسألة أخرى واضحة وضوح الشمس، هي أن الأردن الرسمي يراهن بِسِمَةٍ، ميّزته عقوداً، قائمة على درجة من التسامح واستيعاب المعارضين، بمن فيهم الإسلاميون، ما جنب الأردن ويلات كثيرة، وأزمات عميقة، هزت دولاً أخرى في محيطه.
ميزة التسامح والاستيعاب النسبي، في بلد عشائري وذي تركيبة مجتمعية ثنائية واسعة ومتعايشة، اصطلح على توصيف مكونيها بـ"الشرق أردني" و"الغرب أردني"، أي ذوي الأصول الأردنية وذوي الأصول الفلسطينية، سمحت للأردن أن يعيش، طويلاً، حالة من الوئام والتجانس الوطنيين النسبيين، لكن المعادلة الديمغرافية تتبدل، اليوم، فثمة مئات آلاف اللاجئين السوريين على الأراضي الأردنية، وهم قد غيروا، عمليا، المعادلة السكانية فيه بشكل جوهري. واستنادا إلى تحذيرات أطلقها، الشهر الماضي، وزير التخطيط والتعاون الدولي الأردني، عماد الفاخوري، فإن الأردن يستضيف، اليوم، نحو مليونين وأربعمائة ألف لاجئ سوري على أراضيه، بما يشكل ما نسبته 20% من عدد سكان المملكة. ولا شك أن مثل هذه الأعداد المهولة من اللاجئين تضيف أعباء كبيرة على بلد فقير، محدود الموارد الطبيعية والاقتصادية، يعاني انفجارا سكانيا، وبطالة واسعة، ويعتمد على بنية تحتية متداعية ومتهالكة، فضلا عن فقره المائي الشديد.
الأخطر في المسألة أن هؤلاء اللاجئين على الأرض الأردنية، اليوم، إنما هم أحد تعابير لهيب النار الحارقة في سورية، جراء إجرام النظام هناك بحق شعبه، وألسنة اللهب السوري، قد تمسك أي يَباسٍ تجده في الأردن. أبعد من ذلك، ليست النار الحارقة محصورة في الجار الشمالي السوري، بل إنها أيضا مستعرة في الجار الشرقي العراقي. والأردن، تاريخيا، يتأثر بأوضاع هذين البلدين. دع عنك ذلك الانسداد السياسي في أفق عملية "التسوية" الفلسطينية-الإسرائيلية، بما قد يعنيه ذلك من إعادة ابتعاث التهديدات الإسرائيلية للكينونة الأردنية، عبر التلويح بين الفينة والأخرى، تصريحا أو تلميحا، بـ"الخيار الأردني"، أو "الوطن البديل" للفلسطينيين في الأردن. وبهذا، يغدو الأردن مسكونا ومحاصرا بالأزمات، داخليا، وشمالا، وشرقا، وغربا. بل إنه حتى على حدوده الجنوبية الشرقية، أين يقع الجار السعودي، فإن الأوضاع لا تبشر بكثير خير له، في ظل دخول السعودية في سياق تنافس إقليمي مفتوح مع إيران وأدواتها في اليمن والعراق وسورية ولبنان. فإذا أضيف إلى ذلك كله الفوضى المدمرة التي تعم كثيرا من الإقليم العربي، وتمدد تيار متطرف من طراز "داعش"، ومحاذاته الأردن، على الجبهتين السورية والعراقية، فإن مشكلات الأردن وأزماته تصبح أكثر من أن تعد وتحصى.
التأطير السابق للمعضلات الوجودية التي تحيط بالأردن شديدة الأهمية، في سياق حديثنا عن توتير العلاقة مع الإخوان، ذلك أن الإخوان المسلمين الأردنيين لعبوا، عقوداً، عامل توازن اجتماعي وسياسي في البلد. فهم، لطالما مثلوا حاضنا للتعايش الهوياتي، الأردني-الفلسطيني. ومن ناحية ثانية، كانوا دوما، وعلى الرغم من تجسيدهم دور المعارضة السياسية تاريخيا، غير أنهم، أيضا، كانوا أحد أهم عوامل المحافظة على الاستقرار السياسي في البلد ونظامه. فالإخوان الأردنيون، دائما ما كانوا عقلانيين ومدركين حدود الممكن في معارضتهم و"مشاغباتهم" السياسية، بل إنه، وحتى خلال فورة الثورات العربية، لعب الإخوان دور الكابح في الشارع، واكتفوا بالمطالبة بإصلاحات دستورية وسياسية وقانونية، ولم يتبنوا شعارات تغيير النظام.
عقلانية الإخوان الأردنيين تلك لا زالت الناظم الحاكم لممارستهم السياسية اليوم. ولعل في إلغائهم مهرجان سبعينيتهم، مطلع الشهر الجاري، لتجنب صدام، كان سيكون كارثيا على الجميع، مع الدولة، دليلاً على ذلك، غير أنه لا يبدو أن الجانب الرسمي يتحلى بالعقلانية نفسها التي طبعت مسلكه عقوداً. فالجانب الرسمي يسعى، اليوم، لتفتيت الجماعة داخلياً، بعد قبوله طلبا من قيادات إخوانية سابقة، ومفصولة حاليا، ترخيص "جمعية الإخوان المسلمين"، وتلميحه إلى عدم شرعية جماعة مارست العمل السياسي والجماهيري العلني سبعة عقود متواصلة، شاركت خلالها في برلمانات كثيرة، ووزارة مضر بدران، والتقت قياداتها، غير مرة، العاهلين، الراحل الحسين، وعبد الله الثاني، بصفتهما قيادات في جماعة الإخوان.
يعلم النظام أن الجمعية الجديدة التي يرأسها المراقب العام السابق للإخوان، عبد المجيد ذنيبات، لا يمكنها أبدا أن تستقطب آلافاً من شباب الإخوان المسلمين وأنصارها في الشارع الأردني، كما أنه لا يمكن لها أبدا أن تحل محل الجماعة الأم، اجتماعيا وسياسيا. ومع ذلك، يبدو أن أجهزته الأمنية تصر على معركة كسر عظم مع الإخوان، بغض النظر عن النتائج والتداعيات على الأردن. وليس سرا أنه لو لم يكن تيار الجمعية المرخصة اليوم، مدعوما، رسميا، لما كان له أن يؤثر في الجماعة، أو أن يشكل خطرا عليها.
يدخل التصعيد مع الإخوان في الأردن في باب العبث بأمن البلد واستقراره، في ظل معطيات محيطين محلي وإقليمي ملتهبين، والجانب الرسمي قد يربح تكتيكيا في معركته مع الإخوان، غير أن الأردن سيخسر استراتيجيا، كما الحال في مصر اليوم (المفارقة هنا أن أخبارا تُدووِلَتْ عن أن نظام عبد الفتاح السيسي فكر في استنساخ التجربة الأردنية مصريا!). ما يجري في الأردن، باختصار، محاولة سطو على تاريخ جماعة مديد، عبر مشروع أعد بإتقان في أقبية أجهزة أمنية، ومحاولة إحلال أقلية إخوانية منشقة وَمُطَوَّعَةٍ، اشتط بها العداء التنظيمي، محقين أم مخطئين، لا يهم الآن، محل تيار عام واسع ومتجذر شعبيا.
قد تنجح بعض أجهزة الأمن في بعثرة أوراق تنظيمٍ عاش تحت ضوء الشمس عقوداً طويلة في الأردن، وأسهم في حماية البلد وصون أمنه وسلامته طويلا، غير أنها لن تنجح في إلغاء ذلك التنظيم، وهي، في كل الأحوال، لا تفعل ما فيه مصلحة الأردن. أيضا، قد يَخْتَطِفُ بضعة نفر مقرات ومباني، ويسطون على اسم، لكنهم لن يفلحوا في انتزاع شرعية مزعومة، ولن يتمكنوا من أخذ صف، جُلُّهُ رافض مغامرتهم.
يبقى الأمل أن يتدارك صاحب القرار، والعقلاء من حوله، الأمور، ويعيدوها إلى نصابها، فليس في هذه الممارسات الصبيانة ما يفيد الأردن وأمنه واستقراره، خصوصا ونحن نشهد تغير خريطة التحالفات في المنطقة، في ظل الدور السعودي الجديد، وفي سياقٍ من الفوضى العارمة التي لم تُسْتَنْزَفْ طاقتها بعد.