محاكمة سينمائية لحراس البوابة الإسرائيلية!
كان ينبغي أن أشاهد فيلماً كهذا بمفردي، ليكون بوسعي أن أطلق العنان لمشاعر الأسى وخيبة الأمل التي انتابتني وأنا أشاهده في قاعة نيويوركية صغيرة مليئة بمشاهدين كنت العربي الوحيد بينهم، وربما لذلك أخذت عروبتي تستصرخني أثناء المشاهدة ألا أجعل من نفسي ومنها موضعاً للشفقة والرثاء، خاصة أنني سمعت قبل العرض أحد الجالسين إلى جواري يقول لصديقيه إنه قادم من إسرائيل قبل أيام، ومن أجل هذا الرجل بالذات كان يجب أن أتماسك وأكبت رغبتي في البكاء عندما رأيت في الفيلم مقاطع تسجيلية جديدة تعرض مهانة أسرانا خلال هزيمة يونيو التي انتقلنا بعدها من سيئ إلى أسوأ، حتى وإن بدا لبعضنا غير ذلك.
هو فيلم تسجيلي اسمه (حراس البوابة) للمخرج الإسرائيلي درور موريه، كان مرشحاً في عام 2013 لنيل أوسكار أفضل فيلم وثائقي جنبا إلى جنب مع فيلم (خمس كاميرات مكسورة) الذي تشارك في إخراجه فلسطيني وإسرائيلي ليقدما ملحمة رائعة عن صمود الإنسان الفلسطيني ومقاومته للاحتلال بسلاح الكاميرا، لكن الفيلمين خسرا سباق الأوسكار، الذي فاز به فيلم شديد الروعة والجمال إسمه (البحث عن شوجر مان) يحكي قصة ملهمة تبعث الأمل عن مطرب كاد يغرق في بحر الحياة لولا أن انتشلته يد محبة في آخر لحظة ليُبعث من جديد.
أعترف أنني عندما قرأت أن الفيلم الإسرائيلي يتكلم عن جهاز الأمن الداخلي (الشين بيت) ظننت أن ترشيحه محاولة من أكاديمية الفنون الأميركية للقيام بمواءمات سياسية تخفف ما ستلقاه من انتقاد من اللوبيات الصهيونية بسبب دعمها لفيلم صريح الفضح لإسرائيل مثل (خمس كاميرات مكسورة)، ولم أكن أتصور أن فيلم (حراس البوابة) يقدم هو الآخر بأسلوب فني متميز نقداً جاداً للسياسات الأمنية الإسرائيلية من خلال حوارات مع ستة من الرؤساء السابقين لجهاز الشين بيت تحدثوا عن تجاربهم خلال قيادة الجهاز بدءاً من حرب 1967 وحتى سنوات قليلة ماضية نفذ فيها الجهاز عمليات لإغتيال قادة حركة حماس.
بالطبع لم يبكِ أحد قادة الشين بيت أمام الكاميرات معتذراً عما إقترفته يداه بحق الفلسطينيين، فكل واحد منهم كان يوجه نقده اللاذع لسياسات إسرائيل الأمنية رغبة منه في تطويرها وجعلها أفضل
ما أدهشني في الفيلم درجة الصراحة التي تحدث بها قادة الشين بيت عن الأخطاء التي وقعت خلال قيادتهم للجهاز، فأجاب أقدمهم إبراهام شالوم أول رئيس للجهاز بصراحة على أسئلة المخرج الناقدة لقتل الجهاز عام 1984 لفدائيين فلسطينيين قاموا بخطف أتوبيس ركاب داخل إسرائيل بدلا من معاملتهم كأسرى والحفاظ على حياتهم، واعتبرتُ ذلك نوعا من وضع الماكياج على وجه (الشين بيت) ليظهر للمشاهد الغربي أنه يحرص على النقد الذاتي ويأبه أصلا لسقوط أبرياء على أيدي قواته، تماما كما اعتبرت الحديث عن دور الجهاز في مكافحة الإرهاب الإسرائيلي مثل عصابات كاهانا لعبة رخيصة لتمييع الحقائق ومساواة الجاني بالمجني عليه.
لكن رأيي تغير عندما بدأت نبرة نقد الفيلم تتصاعد لتطاول جوهر وجود الجهاز نفسه الذي يؤدي إلى تعقيد الصراع مع الفلسطينيين بدلا من حله، ويعطي انطباعاً خاطئاً للشعب الإسرائيلي بأن الحلول الأمنية يمكن أن تكون بديلاً عن الحلول السياسية، بل إن أحد قادة الجهاز سخر في حديثه من حقيقة أن كل من قاد الجهاز كان يبدأ يمينيا متحمساً ثم يجد نفسه بعد التقاعد يسارياً ميالاً لنقد الجهاز، ثم أضاف أن كون الجهاز لا يمتلك إستراتيجية للعمل بل يتبع فقط تكتيكات وقتية، سيؤدي في النهاية إلى أن "تكسب إسرائيل كل معركة ومع ذلك فإنها ستخسر الحرب".
بالطبع لم يبكِ أحد قادة الشين بيت أمام الكاميرات معتذراً عما إقترفته يداه بحق الفلسطينيين، فكل واحد منهم كان يوجه نقده اللاذع لسياسات إسرائيل الأمنية رغبة منه في تطويرها وجعلها أفضل، وبالطبع لست ساذجاً لأتصور أن ما قاله قادة الشين بيت من أسرار يمكن أن يكون به ما يهدد أمن إسرائيل الآن، لكن ما أدريه أيضا أنهم انتقدوا أخطاء تفصيلية وقعت في عمليات محددة قام بها الجهاز بدءا من سبعة وستين وحتى الآن، بينما بُحّت أصوات مؤرخينا مطالبة بالإفراج عن الوثائق الرسمية لتاريخنا الحربي لنفهم ما جرى لنا طيلة سنوات صراعنا مع إسرائيل، ذلك الصراع الذي كان مبررا لإخراس كل معارض أو مطالب بالإصلاح والتغيير وإتهامه بالعمالة والخيانة، في حين كشفت الأيام أن حكامنا بفسادهم وقمعهم لإرادة المواطن وحريته كانوا يمثلون كنزا إستراتيجيا عاشت إسرائيل على خيره ولا زالت، أرجو مراجعة سلسلة مقالات كتبها المؤرخ المصري المرموق د. خالد فهمي صاحب كتاب (كل رجال الباشا) في صحيفة (الشروق) المصرية نُشرت في عام 2013 تحت عنوان (كيف نكتب تاريخنا الحربي)، قال فيها كلمات تلخص ما شعرت به عقب إنتهائي من مشاهدة فيلم (حراس البوابة): "إسرائيل دولة مهووسة بأمنها لدرجة الهستيريا ولكن هوسها بأمنها لم يمنعها من الإفراج المنتظم عن وثائقها العسكرية طالما مر عليها 30 سنة، لفتح حوار مجتمعي عن أخطاء الماضي وتحديد المسئول عنها، ليمكن العمل على تصحيح هذه الأخطاء والعمل على منع حدوثها، فيدرك القابع في السلطة أنه حتى لو غابت الرقابة الصحافية والبرلمانية على أعماله بسبب ما فستظل رقابة التاريخ مسلطة عليه وستتمكن الأجيال القادمة من الحكم عليه".
ياترى متى نبدأ في إنتاج أعمال نعترف فيها بأخطائنا وكوارثنا ونفتح ملفاتنا المطمورة عمداً
على المقهى العربي الذي يتخذه كثيرون من عرب نيويورك مفرّاً مؤقتاً إلى الوطن، حيث الشيشة والطاولة والدمنة والخروب والسحلب والشاي بالنعناع وصوت الست من السماعات وضحكة إسماعيل ياسين تملأ الشاشة، جلست أفك احتقان مشاعري مستعينا بصديق طويل البال، استمع إلي طويلا، ثم قال بلهجة الناصح الأمين: أرجوك لا تنس أن العدو الصهيوني له تكتيكات خداعية تجعله ينتج أعمالا مثل هذه لكي ينبهر به أبناء أمتنا فلا تقع في هذا الفخ، قلت له: شكرا على تنبيهك يا صديقي، لكن ياترى متى نبدأ في إنتاج أعمال نعترف فيها بأخطائنا وكوارثنا ونفتح ملفاتنا المطمورة عمداً، فقط لنبهر بذلك أبناء العدو ونوقعهم في فخ الإعتقاد أننا أصبحنا قادرين على النقد والمراجعة والتغيير. هز صديقي رأسه مفضلا عدم الرد، وظللنا صامتين لفترة لم يقطعها إلا تنادينا إلى لعب دور دومينو فضلنا أن نلعبه "عادة وليس أمريكاني" دعماً للهوية الوطنية وذلك أضعف الإيمان.
...
فصل من كتاب (من صندوق الدنيا)، يصدر قريباً بإذن الله.