محطات في الثورة (2): داريا... المواجهة الأولى
بعد أيام خمسة من مظاهرة داريا الأولى التي شكَّلَت وأعداد المشاركين فيها مفاجأة للجميع حتى للمتظاهرين أنفسهم، ألقى بشار الأسد خطابه أمام مجلس "الشعب" يوم الأربعاء 30 مارس/ آذار، وأعلن في خطابه الأول بعد اندلاع الاحتجاجات رفضه مطالب المتظاهرين بالإصلاح، معلنا الحرب على الثورة بعد أن وصف المظاهرات بالمؤامرة والمتظاهرين بالجراثيم والمندسين.
كما معظم المدن التي اشتعلت فيها شرارة الاحتجاجات، كان الخطاب بمثابة تحفيز لشباب داريا على ضرورة الاستمرار، كما أكد مضمون الخطاب وصاحبه صوابية الخيار في الثورة على النظام وإحداث التغيير، كما أن أحدا لم يعر تهديدات الأسد أي اهتمام، ذلك أن معظم زعماء الأنظمة العربية ابتدأوا خطاباتهم في الرد على الاحتجاجات بالتهديد والوعيد ثم ما لبثوا أن استسلموا أمام هدير مظاهرات واحتجاجات شعوبهم.
لعل أهم ما حققته المظاهرة الأولى في داريا هو كسر حالة الشك، وبيَّنت مواقف الناس من فكرة التظاهر ضد النظام، وكشفت عن شريحة الشباب التي تتشارك المشروع الثوري، وهو ما أفرز بذور تأسيس حلقات التنسيق والتواصل بين شباب المدينة لتنظيم المظاهرات بشكل أفضل.
رفع الشبيحة صوتهم في هتاف "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، رد المتظاهرون بأن ذلك عهد قد ولى من خلال هتافاتهم "الله سورية حرية وبس"
على الضفة الأخرى كانت مخابرات نظام الأسد قد بدأت عمليات البحث والتحري عن شباب المدينة الذين ظهرت وجوههم في التقارير التلفزيونية التي بثتها المحطات عن المظاهرة الأولى، كما بدأت في تحفيز خلاياها داخل المدينة لجمع المعلومات عن أي نشاط مقبل.
في يوم الجمعة الأول من إبريل/ نيسان 2011 وقبيل انطلاق الناس إلى صلاة الجمعة، أرسل نظام الأسد حافلات من عناصر الأمن بلباس مدني، وإضافة للمهمة الأمنية المنوطة بتلك القوات لإرهاب الناس وتخويفهم من عاقبة التظاهر، حاول النظام تصوير عناصر الأمن في لباسهم المدني على أنهم مؤيدون من مدينة داريا يؤكدون وفاء المدينة لـ "قائد الوطن" وخلوها من أي مظاهرة كما تروج وسائل الإعلام المعادية للمقاومة والممانعة.
لا شك في أن المشهد حينها كان مربكا، والقرار بالمضي في المظاهرة كان يمثل تحديا كبيرا، كيف نتظاهر في ظل الوجود الأمني؟ كيفية التعاطي مع التشويش الذي سينجم عن مسيرة مؤيدة للنظام بالقرب من مظاهرة ضده؟ وهذه أسئلة مشروعة ومربكة بالنسبة لمجتمع مسالم حديث العهد بالانتفاضة على النظام القمعي.
لم تشهد داريا قبل هذا اليوم مواجهة مع أجهزة الأمن، حيث يعود الانتشار الأمني الكثيف والوحيد في المدينة قبل هذا التاريخ إلى بداية سبعينيات القرن الماضي، حين تصاعدت مشكلة بين عائلتين مسلمة ومسيحية من المدينة على خلفية قتل شاب مسيحي لصديقه المسلم، لتتحول القضية إلى صدام بين المسلمين والمسيحيين من أبناء داريا، تطور الصدام إلى حرق بيوت ومحال المسيحيين في داريا، ما أدى إلى استقدام تعزيزات أمنية إلى المدينة أنهت الصدام بشكل نهائي.
بالعودة إلى يوم الجمعة الأول من نيسان، وكنتيجة للتنسيق الذي بدأت ملامحه تتشكل بعد المظاهرة الأول، حضرت في مظاهرة الأول من نيسان اللافتات والورود لأول مرة، وتجمع المتظاهرون عند التقاطع الرئيسي لشارع الثورة، وبدأ الهتاف للحرية ولحوران.
دقائق قليلة كان الحشد الأمني في شكل المسيرة العفوية المؤيدة للنظام قد وصل إلى نقطة التظاهر، كان الرد الأول للمتظاهرين برفع الورود والتأكيد في هتافاتهم على السلمية في محاولة لقطع الطريق على دعاية النظام وجود مسلحين ومندسين في المظاهرة، ولإقناع مسيرة عناصر الأمن والشبيحة بعدم الهجوم على المظاهرة.
لم تتوقف استفزازات الأمن ومحاولتهم التشويش على المتظاهرة.. ثم رفع الشبيحة صوتهم في هتاف "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، رد المتظاهرون بأن ذلك عهد قد ولى من خلال هتافاتهم "الله سورية حرية وبس"، ثم أتبع المتظاهرون ذلك المسير محاولين الابتعاد عن الأمن وتجمعهم، ليبدأ هجوم الأمن على المظاهرة التي شهدت اعتقال العشرات من أبناء المدينة لتنفض المظاهرة بعد ذلك مباشرة.
كانت لمظاهرات الأول من نيسان أهمية عظمى لأنها مثَّلت ردا حاسما على خطاب بشار الأسد، وعلى صعيد داريا أكدت انتصار فكرة الثورة والتمرد على فكرة الخضوع والخوف من الحل الأمني، كما أكدت موقع داريا في قلب الثورة وإصرار أبنائها على هذا الموقع، وأكدت أن القمع الذي حمله خطاب بشار الأسد أولا ووجود الأمن في المدينة قبيل انطلاق المظاهرة ثانيا لم يثنيا الشباب عن مشوار الحرية الذي عقدوا العزم على المضي فيه.